حتى في أيام زفافهم.. لماذا ينتحر جنود الاحتلال بعد مواجهة رجال المقاومة؟

منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بات انتحار جنود جيش الاحتلال خبرًا اعتياديًا متكررًا باستمرار، حيث بات من المعلوم داخل مجتمع الكيان الصهيوني أن الجيش وصل إلى مرحلة صعبة وغير مسبوقة على المستوى النفسي والمعنوي.

فحرب الإبادة التي تتجه لتدخل عامها الثالث، ألحقت بعشرات الآلاف من الجنود إعاقات وندوبًا جسدية ونفسية وعقلية، وحطمت معنوياتهم.

ويرى فيها جيش الاحتلال شتى أنواع القتال المستميت من قبل عناصر المقاومة الفلسطينية. ويقر باستمرار أنه حين يدخل كل منطقة كان انسحب منها سابقًا، يواجه مقاومة كبيرة كأنه لم يجتحها سابقًا.

وانعكست وقائع الميدان المتصاعدة وعمليات المقاومة اليومية، في سيل من الضغوط النفسية على الجنود في جيش الاحتلال، والتي تصاحبهم طويلًا وقد تؤدي في النهاية إلى الانتحار.

وفي 9 سبتمبر/ أيلول 2025، عثرت طواقم الإسعاف الإسرائيلية على جندي احتياط ميتا في منزله بمدينة رحوفوت جنوب تل أبيب، بعد أن أقدم على الانتحار يوم زفافه.

وقالت صحيفة معاريف الإسرائيلية: إن الجندي المنتحر يبلغ من العمر 31 عاما وكان من المقرر أن يتزوج الليلة إلا أنه انتحر، مؤكدة أن "هذه الحادثة تضاف إلى زيادة مُقلقة في عدد حالات الانتحار في الجيش".

أرقام غير مسبوقة

وسُجِّلت ارتفاعات قياسية في معدلات الانتحار بين صفوف الجنود، وتكشف الوقائع أن الحالة النفسية والمعنوية المتردية لجنود الاحتلال لا تهدد فقط قدرتهم على الاستمرار في العمليات العسكرية، بل تتجاوز ذلك إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في إسرائيل، وبالتحديد مع احتجاجات عائلاتهم الداعية إلى تمردهم وامتناعهم عن الخدمة، في حرب لا يرونها تخدم سوى مستقبل نتنياهو السياسي.

وتشير البيانات الرسمية وغير الرسمية إلى ارتفاع حاد في معدلات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين منذ بداية الحرب. 

ووفقًا لهيئة البث الإسرائيلية "مكان"، بلغ عدد المنتحرين منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى سبتمبر/ أيلول 2025 أكثر من 57 جنديًا. 

كما أفادت الهيئة بأن 16 جنديًا انتحروا في عام 2025 وحده، في ارتفاع غير مسبوق يعكس حجم الأزمة النفسية.

من جهة أخرى، أصيب أكثر من 26,000 جندي بإعاقات نفسية نتيجة مشاركتهم في الحرب، منهم حوالي 11,000 حالة مشخصة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). 

وأكثر من 10,000 جندي يخضعون للعلاج النفسي، في حين تم تسريح 90 جنديًا بسبب مشكلات نفسية. 

وقد أدت هذه الأرقام إلى زيادة عدد ضباط الصحة النفسية في الجيش بمقدار 200 للجنود النظاميين و600 للجنود الاحتياطيين لمواجهة الأزمة المتفاقمة، حسب صحيفة معاريف العبرية.

مشاهد صادمة

ويعيش جنود الاحتلال منذ بداية الحرب معارك وكمائن قاسية وصادمة، شملت الاشتباكات المباشرة من المسافة صفر، وتدمير المباني وهم داخلها، وعمليات القنص والقصف بالهاون، والوقوع في حقول الألغام، واستهداف الدبابات والآليات بطاقمها، والقتال في الأنفاق والمباني المدمرة، وكذلك محاولات الأسر.

موقع واللا العبري أشار في تحقيق له في يوليو/تموز 2025 إلى أن هذه التجارب تركت آثارًا طويلة المدى على الحالة النفسية للجنود، بما في ذلك اضطرابات ما بعد الصدمة، القلق المزمن، والأفكار الانتحارية.

وفي حالات عديدة، أدت هذه الضغوط إلى تصرفات غير متوقعة، مثل حادثة جندي من لواء المظليين أطلق النار على رفاقه بعد استيقاظه من كابوس رأى فيه عناصر من القسام، وهو يصرخ: "مخرب! مخرب!"، مما أدى إلى إصابة أحدهم، في مشهد يعكس مدى التوتر النفسي العميق الذي يعانيه الجنود.

ويرى خبراء أن طول أمد الحرب في قطاع غزة وغياب نهاية واضحة لها، بالإضافة إلى طبيعة المواجهات الشرسة، يشكل عاملًا أساسيًا في تفاقم الأزمة. 

فجنود الاحتياط الذين جُندوا من وظائفهم المدنية في التعليم والصحة والتجارة، وجدوا أنفسهم فجأة في ميدان قتالي غير مهيئين له نفسيًا وجسديًا، يواجهون الموت يوميًا في بيئة مليئة بالألغام والأنفاق والكمائن.

البروفيسور إيال فروختر، الرئيس السابق لقسم الصحة النفسية في جيش الاحتلال، أشار إلى أن الجنود المصابين باضطراب ما بعد الصدمة يواجهون تحديات شاملة تشمل الانهيار الأسري والوظيفي، الشعور بالانفصال، وصعوبة معالجة الصدمات الماضية. وهذه الضغوط تهدد المجتمع الإسرائيلي بأسره؛ حيث وصفها خبراء بأنها "وباء صامت" يزحف بهدوء إلى عمق الجيش والمجتمع.

بدوره قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور الصالح إبراهيم: إن "ظاهرة الانتحار في صفوف جيش الاحتلال تتصاعد بشكل كبير، وتعكس حالة الانهيار والضعف النفسي التي يعيشها الجنود في جميع المستويات نتيجة استمرار الحرب وفشل تحقيق أهدافها".

وأضاف لـ الاستقلال: "إن هذه الأزمة ليست محصورة في الجنود النظاميين فقط، بل تمتد إلى جنود الاحتياط الذين يُستدعون بشكل متكرر للمشاركة في عمليات قتالية في غزة، وهم يرون أن مكانهم في وظائفهم الأصلية وليس الموت في ساحة المعركة، ما يزيد من حالات الصدمة النفسية، القلق، والخوف الدائم".

وأشار إبراهيم إلى أن القيادة العسكرية الإسرائيلية تحاول التقليل من شأن هذه الأزمة عبر إخفاء أرقام الانتحار وعدم إقامة جنازات علنية للجنود المنتحرين، قائلًا: "الجيش يعمل على تقليص صورة الأزمة النفسية بين صفوفه للحفاظ على صورة التماسك، لكنه في الواقع يواجه أزمة متفاقمة يمكن أن تهدد القدرة العسكرية والعملياتية المباشرة لوحداته".

كما لفت إلى أن طول الحرب وعدم وجود أفق واضح لإنهائها أسهم في شعور الجنود بأنهم عالقون في حلقة مفرغة، مستدركًا: "هناك إدراك متزايد لدى الجنود، خصوصًا الاحتياطيين، بأن استمرار الحرب مرتبط بمصالح سياسية داخلية، وهو ما يزيد من شعورهم بالاستياء والتمرد على الأوامر العسكرية".

حرب نفسية

من جانبه، قال الباحث الفلسطيني عبدالله الكساب: إن الواقع على الأرض في قطاع غزة خلق لدى جنود الاحتلال ظروفًا نفسية سيئة للغاية؛ حيث إن ما يروْنه في غزة يصاحبهم للأبد، سواء من معارك مع المقاومة أو من رؤيتهم لجنود آخرين يُقتلون أو يُصابون أو يُبتَرون أثناء الهجوم. 

وأكد أن كل هذه الأوضاع خلقت لديهم اضطرابات نفسية وحالة ما بعد الصدمة، وهو ما أسفر في النهاية عن هذا العدد الكبير من حالات الانتحار

وأضاف لـ"الاستقلال"، أن المقاومة تستثمر عملياتها في شن هجوم نفسي صعب وقاسٍ على جنود الاحتلال، حيث تبث بالصوت والصورة عملياتها، بما في ذلك رمي العبوات داخل ناقلات الجنود، والتركيز على صوت صراخهم واستغاثاتهم وهم ينادون أمهاتهم رعبًا".

وأوضح أيضًا أن المقاومة عندما تنشر صور عمليات القنص والاشتباكات عن قرب، وتفجيرات الدبابات والمنازل، فإن كل هذه الفيديوهات تصل مباشرة إلى الجنود، وتنتقل عبر التليغرام ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى بينهم، وتنتشر كالنار في الهشيم، مؤكدًا أن ذلك كله له تأثير نفسي شديد عليهم ويسهم في الوضع النفسي المتأزم حاليًا.

وشدّد الباحث على أن الحالة النفسية السيئة، وحالة ما بعد الصدمة، والخوف الشديد من الاشتباكات مع المقاومة، ومن دخول غزة وأنفاقها، تمّت ترجمتها إلى حالة أشبه بالتمرد العسكري، خصوصًا عبر عدم استجابة جنود الاحتياط للاستدعاءات خلال الحملة الأخيرة، والتي بلغت التقديرات الإسرائيلية أنها بالكاد بين 50 بالمئة و60 بالمئة من الاستجابة.

وأضاف الكساب أن جزءًا غير بسيط من الجنود بدأوا يظهرون ما هو أشبه بالاحتجاجات داخل وحداتهم العسكرية، والمطالبة بخروجهم من مناطق القتال والتمركز على الحدود.

وتابع: "هناك حالة من الصخب والاستياء لدى جنود الاحتلال، خصوصًا مع تكرار تطبيق الاحتلال لإجراء "هانيبال" الذي يقضي باستهداف الخاطفين والمخطوفين عند تنفيذ عمليات الأسر، وهو ما تكرر مرات عديدة خلال الحرب الحالية". 

كما أشار الكساب إلى أن نظرة الجنود لتخلي الحكومة الإسرائيلية عن الجنود الذين تم أسرهم في عمليات "طوفان الأقصى"، أدت إلى حالة كبيرة من السخط لديهم.

وشدّد على أن الاحتلال لا يستطيع بهذا الجيش وهذه القوات إكمال عمليات واسعة في قطاع غزة أو احتلال كامل للقطاع، مع استمرار الانهيارات المتتالية في صفوف جنوده. 

وأوضح أن استمرارية الجيش وقدرته على إخفاء ما يعانيه جنوده من انهيارات نفسية، ومن وضع نفسي صعب، وحالات تمرد وامتناع ضباط وجنود الاحتياط عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، لن تمكنه عسكريًا من الاستمرار في هذه المعركة. 

وأضاف الباحث أن الاحتلال سيجد نفسه، وبنيامين نتنياهو، أمام جيش متهالك غير قادر على القتل، خصوصًا مع تحول هذه الحرب إلى حرب استنزاف طويلة.

تستّر وتكتيم

على الجهة الأخرى، تتعمد القيادة العسكرية الإسرائيلية إخفاء حجم الأزمة النفسية بين الجنود لتجنب إثارة الذعر أو الإضرار بصورة الجيش. 

وسائل الإعلام الإسرائيلية، كصحيفة معاريف، ناقشت هذه السياسة بشكل مباشر، مشيرة إلى معارضة الجيش إقامة جنازات علنية للجنود المنتحرين، تحت ذريعة أنهم لم يموتوا في أرض المعركة. 

وهذا يعكس محاولة إخفاء الأعداد الحقيقية للمنتحرين والحد من انتشار الأخبار التي قد تؤثر على الروح المعنوية للجيش والمجتمع.

وتؤثر الخلفية السياسية للحرب أيضًا على الحالة النفسية للجنود، فغياب الأفق الواضح للحرب، واستمرارها وفق مصالح سياسية داخلية، جعل الجنود يشعرون بأنهم في حلقة مفرغة، يتم استدعاؤهم مرارًا وتكرارًا دون رؤية جدوى فعلية. 

ويشير الباحثون إلى أن استمرار الحرب مرتبط بالمصالح السياسية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبعض الوزراء مثل بن غفير وسموتريتش، مما يضاعف شعور الجنود بالعجز والغضب.

وتشير التقديرات الإسرائيلية، حسب ما نقلته صحيفة هآرتس العبرية، إلى أن عدد الجنود المصابين نفسيًا قد يصل إلى 100 ألف بحلول عام 2028 إذا استمرت الحرب دون حلول واضحة. 

وتضيف الصحيفة: "يخشى الخبراء من أن استمرار تجاهل الأزمة النفسية سيؤدي إلى تفاقم الانهيارات النفسية، زيادة معدلات الانتحار، وانخفاض كفاءة الجيش، ما قد يؤدي إلى عجز إسرائيل عن تنفيذ عملياتها العسكرية بنجاح".