العراق يحاول التوسط.. ما احتمالات التقارب بين النظام السوري وتركيا؟
"تركيا تطالب النظام السوري بتعاون مشابه للتعاون العراق في إنهاء حزب العمال الكردستاني"
على الرغم من مراوحة العلاقة بين تركيا والنظام السوري مكانها، إلا أن عددا من الملفات التي يمسك بها الطرفان ما تزال تدفع نحو مزيد من الاجتماعات المباشرة وإن كان عبر وسيط هذه المرة.
ونقلت وكالة "شفق نيوز" العراقية عن مصدر حكومي عراقي مطلع لم تسمه، وجود مساعٍ من "العراق لتذويب الخلافات بين سوريا وتركيا، ومحاولة إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، أثمرت عن اجتماع سيجمع دمشق وأنقرة في العاصمة بغداد قريبا".
مباحثات جديدة
وقال المصدر لوكالة شفق نيوز في 5 يونيو/حزيران 2024 إنه "في الأيام المقبلة ستشهد العاصمة العراقية بغداد اجتماعا يضم مسؤولين سوريين وأتراكا للجلوس إلى طاولة الحوار، ضمن الوساطة التي يعمل عليها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لمصالحة البلدين وعودة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها".
وأضاف المصدر أن "السوداني وفريقه الحكومي توصلوا خلال الفترة الماضية إلى نتائج إيجابية بهذه الوساطة عبر اتصالات ولقاءات ثنائية غير معلنة، وهناك ترحيب كبير من قبل دمشق وأنقرة بوساطة بغداد"، وفق الوكالة.
وتزامن حديث الوكالة مع إعلان المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي في 5 يونيو 2024 عن إجراء السوداني، مباحثات مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، في اليوم المذكور تناولت العلاقات الثنائية والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
وقال بيان المكتب إن الاتصال "تناول التنسيق الأمني في مواجهة أخطار فلول الإرهاب، والتحديات الأمنية الأخرى، إلى جانب بحث سبل تنمية التعاون، وتوسيع آفاقه في مختلف المجالات، لا سيما المجالات الاقتصادية، والتأكيد على أهمية رفع مستوى الشراكة المثمرة".
ومنذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011 لم يقطع العراق علاقاته مع النظام السوري، بل استمر في قيادة جهود عربية لإعادة مقعده في الجامعة العربية عقب طرده منها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المذكور لقمعه الثورة، حتى جرى إعادته إليها في مايو/أيار 2023.
ونشطت عملية تقارب تركيا مع النظام السوري منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 عبر روسيا، حينما استضافت موسكو لقاء جمع وزير الدفاع التركي السابق خلوصي أكار ونظيره في دمشق علي محمود عباس.
ولكن لم تتمكن أنقرة من الاتفاق على صيغة لتطبيع العلاقات مع النظام ما أدى ذلك إلى توقف عملية التقارب.
وآنذاك حضر اللقاء رئيس المخابرات التركي السابق هاكان فيدان (وزير الخارجية الحالي) ورئيس مكتب الأمن الوطني السابق التابع لنظام الأسد علي مملوك، بمشاركة وزير الدفاع الروسي السابق سيرغي شويغو، حيث جاء اللقاء بعد أكثر من عقد على القطيعة الدبلوماسية؛ نتيجة دعم أنقرة للثورة السورية.
لكن منذ ذلك الحين بقي التقارب السياسي بين أنقرة ونظام دمشق يدور في حلقة مفرغة، على الرغم من قول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 17 يوليو/تموز 2023 إنه منفتح على عقد لقاء مع رئيس النظام السوري بشار الأسد.
لكن أردوغان أكد وقتها أن انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية كشرط مسبق لإجراء محادثات مع الأسد "غير مقبول".
وهنا تكمن "العقدة الأكبر" في مسار تقدم العلاقات بين تركيا والنظام السوري، إذ يصر الأخير على انسحاب القوات التركية من مناطق الشمال السوري المحرر (ريفي إدلب وحلب).
ووفقا لـ "مركز جسور للدراسات" المعارض، فإن الوجود التركي في شمال سوريا يتركز في 129 موقعا عسكريا ونقاط أمنية في أرياف إدلب وحلب والرقة والحسكة.
فضلا عن وجود 14 مركزا تركيا للخدمات المدنية للسكان، و27 مركزا للخدمات الإنسانية، ودعم بشبكات الكهرباء والاتصالات والشحن، وفق المركز.
ويعيش في شمال غربي سوريا (الشمال السوري) الخارج عن سيطرة الأسد 5 ملايين نازح، وتدخل المساعدات الإنسانية الدولية إليهم عبر معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا الواقع شمال إدلب.
وركز نظام الأسد منذ بدء الاجتماعات مع تركيا نهاية عام 2022 على الوجود العسكري التركي بالشمال السوري الذي يصفه النظام ووسائل إعلامه ومسؤولوه بـ "الاحتلال".
إذ يطالب النظام السوري أنقرة بسحب قواتها من سوريا قبل أي مناقشات حول الملفات الأخرى.
وفي نبرة تصعيدية، قال الأسد خلال مقابلة مع قناة "سكاي نيوز عربية" الإماراتية في 9 أغسطس/آب 2023 : "لماذا نلتقي أنا وأردوغان؟ لشرب المرطبات؟ نريد تحقيق هدف واضح”.
وتابع أن هدفه هو "سحب القوات التركية من الأراضي السورية، في حين أن هدف أردوغان شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا". ومضى يقول: "لذلك لا يمكن عقد الاجتماع في ظل شروطه".
وحينها كان رد فعل أنقرة سريعا، حيث أكد وزير الدفاع ياشر غولر أن بلاده ملتزمة بالبقاء في سوريا.
وأوضح: "لا يمكننا أن نتخيل مغادرة سوريا دون ضمان أمن حدودنا وشعبنا. أعتقد أن الرئيس السوري سيتصرف بعقلانية أكبر مما قيل في اللقاء".
"اتجاه سياسي"
وقبيل دخول العراق على خط الوساطة بين تركيا والنظام، قال غولر مطلع يونيو 2024، إن بلاده تدرس إمكانية سحب قواتها بشرط "ضمان بيئة آمنة وأن تكون الحدود التركية آمنة، واعتماد دستور شامل لسوريا، وإجراء انتخابات حرة".
وحديث تركيا عن ضرورة اعتماد دستور جديد لسوريا وإجراء انتخابات حرة يشير إلى عدم تخلي أنقرة عن تطبيق قرار 2254 الصادر عام 2015 عن مجلس الأمن الدولي والممهد للحل السياسي في البلاد عبر أربع سلال وهي الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب.
إلا أن اللجنة الدستورية المشكلة برعاية من الأمم المتحدة في سبتمبر 2019 لصياغة دستور جديد للبلاد، لم تنجز حتى الآن مادة واحدة منه لانطلاق التغيير الديمقراطي بسوريا؛ بسبب مماطلة وتعنت النظام، وفق ما يؤكد الائتلاف السوري المعارض.
إذ توقفت أعمال اللجنة الدستورية (مشكلة من النظام والمعارضة والمجتمع المدني) عند آخر جولة لها في يونيو 2022 بجنيف، عقب رفض روسيا، حليفة الأسد، استكمال المباحثات بسويسرا بعد اعتراض البلد الأخير على الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث رأت موسكو أن المكان "غير محايد".
لكن مع رفض النظام السوري الانخراط في تطبيق الحل السياسي، رغم أنه أحد شروط إعادته إلى الجامعة العربية، ثمة ملف ما يزال يقلق تركيا ويمتلك فيه الأسد أوراقا قوية، وفق المراقبين.
وهو ملف حزب العمال الكردستاني "بي كا كا" وفروعه في شمال شرقي سوريا التي تسعى إلى تأسيس كيان انفصالي عند حدود تركيا الجنوبية وهو ما ترفضه أنقرة وكذلك نظام الأسد.
إذ يرى مراقبون أن قبول النظام السوري للوساطة العراقية لعودة المناقشات مع تركيا تهدف لحل عدد من القضايا الثانوية.
وتريد تركيا الضغط على فروع "بي كا كا" بسوريا عبر نظام الأسد، فيما يسعى الأخير لانتزاع تنازلات من أنقرة داخل مناطق المعارضة السورية في الشمال السوري.
ومن هنا يأتي دور العراق كونه مرتبطا بشطر من الاتفاقيات الأمنية التي تخص حزب العمال الكردستاني مع تركيا.
وأرجع مدير مركز القارات الثلاث للدراسات الباحث السوري أحمد حسن، سبب دخول العراق على خط الوساطة، لكونه "وقع اتفاقية أمنية مع تركيا بخصوص حزب العمال الكردستاني لا تكتمل بدون سوريا".
وأضاف حسن لـ "الاستقلال" قائلا: "العراق لم يدخل على خط التواصل حاليا بل هو موجود منذ سنوات لكن كانت (الوساطة) تركز على الجانب الأمني فقط حاليا ولكن يتم العمل على توسيعها بالاتجاه السياسي".
ولفت إلى “وجود شروط تركية تطالب النظام السوري بتعاون مشابه لتعاون العراق في إنهاء حزب العمال الكردستاني”.
لكن النظام يشترط توقيع تركيا على جدول انسحاب من سوريا وتسليم مناطق وجودها له، مما أدى إلى إنهاء الاجتماعات التطبيقية سابقا، وفق حسن.
واستدرك قائلا: "يجرى الآن العمل على صيغة مختلفة للتفاوض حاليا ولهذا طرح العراق اجتماعات جديدة يشجعها الأميركان".
وألمح إلى أن الاجتماعات في بغداد ستدور حول "تطمينات مشتركة بين الطرفين بخصوص الانسحاب التركي من سوريا، إذ إن الأتراك يعملون على إقناع النظام بتغيير داخلي ودعم التفاوض وتطبيق القرار الأممي 2254".
وأردف حسن: "بينما يعمل النظام السوري على إقناع الأتراك بمشروع إجراء مصالحة أو بلديات ذات إدارة ذاتية" في مناطق المعارضة.
خلافات جوهرية
وأمام ذلك، هناك من يرى أن النظام السوري الذي يرفض تطبيق الحل السياسي بسوريا ولم يسر بخطوة واحدة مع المبادرات العربية للحل التي طرحت عقب إعادته للجامعة العربية، يناور أيضا مع الأتراك هذه المرة لكسب الوقت.
ولا سيما أن وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، قال خلال مؤتمر صحفي مشترك أجراه مع القائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كني، في دمشق 4 يونيو 2024، إن أي حوار مع تركيا يجب أن يسبقه "شرط أساسي" هو إعلان استعدادها لسحب قواتها من جميع الأراضي السورية التي تسيطر عليها.
وتعطي تصريحات المقداد دلالة على ابتعاد المواقف بين تركيا ونظام الأسد في نقطة الحل السياسي بسوريا، بينما قد يكون الباب مواربا بينهما للتعاون في ملفات أخرى.
وخاصة تلك التي تتعلق بفروع "بي كا كا" بسوريا التي شنت أنقرة ضدها عمليتين عسكريتين في السنوات الماضية وتهدد راهنا بشن عملية جديدة.
وسبق أن دعا دولت بهشلي زعيم حزب "الحركة القومية" (MHP) التركي، المتحالف مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، في 28 مايو 2024 لشن عملية عسكرية مشتركة تجمع تركيا والنظام للقضاء على بي كا كا في مناطق شمال شرقي سوريا، وفق ما نقلته صحيفة "جمهورييت" التركية.
وبالمحصلة، فإنه بعد مضي 8 أعوام على بداية دخول تركيا إلى الأراضي السورية، لـ “مكافحة التنظيمات الإرهابية”، زاد حجم انتشار وتسليح هذه القوات في سوريا، وتجاوزت شمال غرب البلاد ووصلت إلى الشمال الشرقي.
وبحسب ورقة تحليلية لمركز جسور للدراسات نشرها في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2022 فإن "الانتشار التركي بسوريا له أهداف سياسية تتحدث عنها أنقرة بشكل مستمر، وهي التحول إلى حكومة منتخبة تمثل جميع السوريين، بهدف ضمان عودة اللاجئين الموجودين على الأراضي التركية".
وذلك على “تقدير أن انهيار الأوضاع الأمنية ارتبط بشكل أساسي بتقويض السلطة المركزية، التي لم تعد شرائح واسعة من الشعب السوري ترى أنها شرعية”.
ومع غياب السلطة المركزية نشطت على الأراضي السورية -وخاصة المتاخمة للحدود التركية- تنظيمات إرهابية لديها نشاطات عابرة للحدود مثل تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، وفق المركز.
وأشار إلى أن “تركيا سعت طيلة الفترات الماضية لتوفير الغطاء السياسي والقانوني اللازم لانتشار قواتها على الأراضي السورية، من خلال مسار أستانا (للحل السياسي)، الذي تعده أنقرة ضامنا لوقف إطلاق النار وخفض التصعيد شمال غربي سوريا (مناطق المعارضة)”.
كما أن تركيا تؤكد دائما على عدم استعدادها لسحب قواتها من سوريا في ظل المعطيات والظروف الراهنة، وفق المركز.
ومضت الورقة تقول: “ستحتفظ الدولة التركية بهذا الانتشار إلى حين التوصل إلى حل مستدام للملف السوري، ينتج عنه حكومة مركزية منتخبة في دمشق تمثل شرائح المجتمع، بالإضافة إلى إعادة هيكلة مؤسسة الجيش”.
وبشرط أن يرتبط كل من الحكومة المركزية ومؤسسة الجيش بعلاقات جيدة مع الجانب التركي، بما يضمن لأنقرة الحفاظ على تأثيرها في سلوك الحكومة السورية، والقضاء على التهديدات الأمنية على الحدود التركية، ويوفر إمكانية تسهيل عودة اللاجئين، يختم المركز.