على مرأى ومسمع الأمم المتحدة.. هكذا ينهب بشار الأسد المساعدات الدولية

مصعب المجبل | 6 months ago

12

طباعة

مشاركة

مازالت قضية نهب النظام السوري للمساعدات الدولية تثير كثيرا من الجدل، ليس فقط لأنها لا تذهب لمستحقيها، بل لكونها تشكل مصدرا مهما للعملة الصعبة التي تعزز بقاء بشار الأسد الذي يرفض أي حل سياسي يضع حدا للمأساة التي أدخل فيها بلده منذ أكثر من عقد من الزمن. 

وكثيرا ما أثبتت تحقيقات ووقائع ميدانية بسوريا أن كميات من أموال المساعدات الدولية المسروقة تختفي ببساطة في الحسابات المصرفية التابعة لأذرع ومؤسسات نظام الأسد الاقتصادية، وتستخدم في تمويل المجهود الحربي ضد السوريين الأبرياء.

سرقة واحتيال

وفي هذا السياق، نشر "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية"، بالتعاون مع "المركز السوري للتطوير القانوني"، تقريرا جديدا يتعقب مشتريات الأمم المتحدة من مؤسسات تابعة للنظام السوري ويحلل شفافية عمليات الأمم المتحدة الإنسانية في سوريا.

وأظهر التقرير انخفاضا واسع النطاق في المشتريات من سوريا عبر مختلف وكالات الأمم المتحدة، حيث أبلغت 10 وكالاتٍ من أصل 14 عن انخفاض مشترياتها في الفترة 2021-2022، مقارنة بـ 2019-2020.

ويشير هذا الانخفاض إلى تحول في سياسة الأمم المتحدة حول مصادر توريد لوازم الاستجابة الإنسانية في البلاد، على الرغم من أن تجنب المشتريات من داخل الدولة المستهدفة يضر بالاقتصاد المحلي في الظروف العادية، إلا أنه مرحب به في السياق السوري في ضوء النهب الممنهج للمساعدات.

ووفقا لبيانات مشتريات الأمم المتحدة، تم شراء مساعدات بقيمة نحو 309 ملايين دولار من موردين مقيمين بسوريا في الفترة بين عامي 2021 و2022.

وهذا يعني أنه في غضون عامين فقط، استفاد المقربون من النظام السوري بشكل مباشر من مبلغ مذهل قدره 71 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب الغربيين، ما أدى فعليا إلى إدامة الأزمة الإنسانية في سوريا.

واستخدم التقرير بيانات مسربة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام السوري، تُظهر شركاء الأمم المتحدة من المنظمات غير الحكومية والتي لا تقوم الأمم المتحدة بنشرها للعامة على الإنترنت.

وأكثر من نصف أصحاب هذه الشركات متهمون بانتهاك حقوق الإنسان ضد السوريين، ويخضع ثلثهم لعقوبات من قبل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

وبحسب التقرير فإن هؤلاء الموردين الذين يتبعون للنظام يشير يسهمون في اقتصاد الحرب الذي يرتبط ارتباطا جوهريا بعنف النظام السوري.

على سبيل المثال، تلقت شركة زيت الزيتون السورية أكثر من 33 مليون دولار من برنامج الأغذية العالمي على الرغم من كونها مملوكة جزئيا لغسان أديب مهنا، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد، رامي مخلوف مدير إمبراطورية الأسد المالية من أعوام (2000 -2020)

 مثال آخر هو شركة فيرست كلاس، وهي شركة مملوكة جزئيا لنزهة مملوك، نجل رئيس المخابرات سيئ السمعة اللواء علي مملوك، والتي تلقت 123 ألف دولار من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

وعلي مملوك، شغل منصب رئيس "مكتب الأمن الوطني" التابع للنظام السوري من يوليو 2012 حتى مطلع عام 2024، حيث عينه الأسد مستشارا أمنيا له.

وقد بدأت فرنسا في 21 مايو 2024 أول محاكمة بشأن جرائم منسوبة إلى النظام السوري أمام محكمة الجنايات في باريس حيث يحاكم ثلاثة مسؤولين سوريين كبار غيابيا بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية بينهم علي مملوك.

 

وهنا يكشف التقرير أنه بين عامي 2021 - 2022 فإن الموردين ذوي مستويات المخاطر الأعلى يميلون إلى تلقي تمويلات أكبر من الأمم المتحدة، في إشارة إلى نجاح أذرع المسؤولين ذوي الرتب العليا في نظام الأسد بالحصول على تمويل أممي تحت حجج إنسانية. 

ولهذا أكد خبراء اقتصاديون سوريون على مدى مخاطر حرف مسار المساعدات الإنسانية ونهبها في مناطق سيطرة النظام السوري من قبل منتهكين محتملين لحقوق الإنسان.

فهناك ما يقرب من 90 بالمئة من السوريين يعيشون في فقر مدقع، وسط اعتماد 13 مليون شخص على المساعدات الإنسانية.

مع وجود ما يقرب من سبعة ملايين سوري مهجرين من منازلهم إلى مخيمات معظمها من الخيام تقع خارج المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد.

وبنظرة فاحصة على عملية إدارة النظام السوري لملف المساعدات بشكل محكم، منذ أعوام 2013 – 2021، فإنه فرض على وكالات الأمم المتحدة أن يكون تسليم المعونات بواسطة الهلال الأحمر السوري، بعد موافقة لجنة الإغاثة العليا للحكومة السورية، مما يسمح للنظام بالتحكم فيمن يتلقى الإغاثة ومكانها وزمانها.

وبذلك يستطيع النظام التحكم بتوزيع المساعدات المادية والمالية بما يخدم مصالحه.

إذ عمل النظام على توزيع المساعدات على عناصر قواته أو على المليشيات التي شكلها وجلبها من الخارج لقمع ثورة السوريين التي اندلعت في مارس 2011.

وسبق أن ظهرت العديد من المقاطع المصورة التي تظهر أفرادا من قوات الأسد يستخدمون منتجات تحمل شعار الأمم المتحدة، كما عمل النظام على توزيع المساعدات على مواليه فقط وفي مناطق محددة.

ولم يلتزم الهلال الأحمر السوري بمبادئه السبعة (الإنسانية- عدم التحيز- الحياد- الاستقلالية- الخدمة الطوعية- الوحدة- العالمية) التي تأسس عليها عام 1942، لا سيما في عدم الانحياز على أساس سياسي.

إذ مارست المنظمة سياسة الابتزاز في توزيع المساعدات الدولية والأممية التي تتلقاها وحرمت المناطق المحاصرة من قبل قوات الأسد أو الخارجة عن سيطرته من إدخال المواد الغذائية لها.

أذرع اقتصادية

اللافت أن المشتريات الأممية من شركة المحروقات الحكومية السورية المسؤولة عن تخزين وتوزيع المنتجات البترولية، ارتفعت بنسبة 384 بالمئة بشكل غير مفهوم لتصل إلى 2.49 مليون دولار. 

وفي ملمح يكشف مدى استغلال نظام الأسد الأموال الدولية المخصصة لإغاثة السوريين، لجوء النظام في أعقاب زلزال فبراير 2023 الذي ضرب البلاد وتركيا المجاورة، لإصدار مرسوم يقضي بأن على جميع المنظمات والسفارات الأجنبية دفع ثمن احتياجاتها من المشتقات النفطية بالدولار بدلا من الليرة السورية.

وحدد حينها النظام سعر لتر البنزين أوكتان 90 عند 1.50 دولار، وهو أعلى بنسبة 60-80 بالمئة من الأسعار العالمية وحتى أسعار السوق السوداء في سوريا.

وضمن هذه الجزئية، فإنه عقب الزلزال أكد فضل عبد الغني المدير التنفيذي للشبكة السورية لحقوق الإنسان المعارضة أن "تقديم المساعدات عبر النظام السوري والمنظمات التي أنشأتها الأجهزة الأمنية قد ينقل الدول والمنظمات الداعمة من إطار العمل الإنساني إلى دعم وتمويل الإرهاب والجرائم ضد الإنسانية، التي مارسها النظام السوري ضد شعبه".

وأضاف في تصريحات إعلامية: "نحن نعلم النية الطيبة لدى الدول والمنظمات الداعمة، لكن النظام السوري لا ينهب 30 أو 40 بالمئة من المساعدات، بل قد تصل نسبة النهب إلى 90 بالمئة".

وأكثر من ذلك في أسلوب "السرقة الاحترافية" التي مارسها النظام السوري مع المنظمات الدولية التي تقدم مساعدات للسوريين، هو تغلغله العميق في "قطاع المجتمع المدني".

وعلى سبيل المثال، يؤكد "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية"، أن "جمعية نور للإغاثة والتنمية"، وهي منظمة غير حكومية تبدو شرعية، أكثر من مليوني دولار من صندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة الصحة العالمية إلى جانب شراكات سابقة أخرى مع اليونيسف ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ويرأس "نور للإغاثة والتنمية" "محمد جلبوط"، المتهم بالتعاون مع أجهزة الأمن السورية وتسهيل الإجراءات الأمنية ضد نشطاء المعارضة، بما في ذلك انتزاع الاعترافات القسرية والتعذيب الذي أدى إلى مقتل المصور الفلسطيني نيراز سعيد عام 2018.

وكانت قوات الأمن السورية اعتقلت سعيد، من دون معرفة الأسباب، بعدما داهمت مجموعة أمنية سورية مكان إقامته في العاصمة دمشق في شهر أكتوبر 2015.

وجلبوط أيضا مرتبط بمليشيا "لواء القدس" الموالية للنظام السوري، والذي تأسس من عناصر محلية سورية في عام 2013 بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني لقمع الثورة السورية.

ويواصل جلبوط المشاركة في الاجتماعات التي تقودها الأمم المتحدة وآخرها تمثيل المجتمع المدني السوري في جنيف في "غرفة دعم المجتمع المدني" في 29 يناير 2024.

كما تلقت "الأمانة السورية للتنمية" بالفترة ما بين فبراير - مايو 2021 فقط 2.3 مليون دولار من مفوضية اللاجئين لتمويل برامج مساعدة قانونية ومتعددة القطاعات للعائدين والنازحين.

ومؤسسة "الأمانة السورية للتنمية" أطلقتها عام 2001، أسماء زوجة بشار الأسد وعقب عام 2011 استخدمتها بغرض جذب الحاضنة الشعبية نحو زوجها.

حيث نجحت أسماء الأسد بإيهام وكالات تابعة للأمم المتحدة بأنها تشرف على مشاريع إنسانية بسوريا "الأمانة السورية للتنمية"، وبذلك تختطف جهود الإغاثة وتتلقى منها مساعدات ومبالغ مالية بالدولار مما يكسب خزينة النظام بالعملة الصعبة.

وتشكل جمعية عون الخيرية للإغاثة والتنمية، التي تمولها الأمم المتحدة بنحو مليون دولار لمبادرات الصحة العامة، مثالا صارخا آخر. ويرأسها نبيل القصير، الذي يشغل أيضا منصب مدير شركة ميديكو فارما في حمص، وهي شركة يقال إنها مرتبطة بإنتاج الكبتاغون.

وهناك جمعية خيرية أخرى، هي "الأعمال"، التي تلقت 290 ألف دولار، ويرأسها علي تركماني، الذي يشغل منصب مستشار أمني في القصر الرئاسي منذ عام 2019 وهو نجل وزير الدفاع السابق حسن تركماني. 

اتهامات بالفساد

وعقدت بعثات وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية خلال السنوات الماضية كثيرا من الصفقات تحت حجج إنسانية مع مؤسسات نظام الأسد وشخصياته الكبار، قيمتها ملايين الدولارات.

 إذ أكدته منظمة الصحة العالمية في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بأن مكتب خدمات الرقابة الداخلية، التابع لها، يحقق في ادعاءات الفساد التي نالت مديرة مكتبها في سوريا، أكجمال ماغتيموفا.

ووجه موظفو مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا اتهامات بالفساد إلى مديرتهم، مشيرين إلى إساءة إدارتها لملايين الدولارات وزعت على مسؤولي النظام السوري كهدايا.

وأمام ذلك، شدد معدو البحث على أنه "نظرا للمستويات المرتفعة - بشكل استثنائي - من الفساد الحكومي في سوريا، ينبغي الحض أينما أمكن على عدم التعاقد مع مؤسسات الدولة السورية".

وخاصة أنه في عام 2023، احتلت سوريا المرتبة 177 من أصل 180 دولة من حيث مؤشر مدركات الفساد. 

ومما يثير القلق بشكل خاص هو افتقار الأمم المتحدة إلى الشفافية، ففي عام 2022، سجلت سوريا أعلى حصة من المشتريات من الموردين الذين تتحفظ الأمم المتحدة على هوياتهم في قاعدة بيانات مشترياتها لأسباب "الأمن" أو "الخصوصية" مقارنة بأكبر خمس دول في العالم من حيث حجم الاستجابة الإنسانية.

وتظهر البيانات أن الوكالات الأممية التي تشتري من موردين لم يتم الإعلان عن هوياتهم تميل إلى أن تكون متهمة بارتكاب المزيد من الانتهاكات. 

مثلا، اتهمت وكالة أسوشيتد برس منظمة الصحة العالمية، الرائدة في مثل هذه المشتريات، بتسليم "قطع ذهبية وسيارات" إلى مسؤولي النظام.

والمشتريات بكل حال لا تشكل سوى حصة صغيرة من الإنفاق الإنساني الإجمالي للأمم المتحدة. وتشمل البنود الكبيرة الأخرى الحصول على مشتريات من خارج سوريا، رواتب الموظفين، والشراكات المحلية مع منظمات المجتمع المدني.

وبالنسبة للمنظمات غير الحكومية التي تمولها الأمم المتحدة والتي تظهر في القائمة المسربة، فقد أظهر العديد منها دعما صريحا وقويا لنظام الأسد، الذي تسبب بجزء كبير من الكارثة الإنسانية على السوريين في المقام الأول وارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. 

وبالمحصلة، بحسب خبراء الاقتصاد، فإن السبب الرئيس لتحويل مسار المساعدات ليس فساد بعض مسؤولي الأمم المتحدة، وإنما قبولهم بتلاعب نظام الأسد بها كثمن لممارسة الأعمال التجارية.

كما يعد قبول الأمم المتحدة أسعار صرف أقل من السوق لتحويل الدولار إلى الليرة السورية لدفع تكاليف عمليات الأمم المتحدة؛ أكبر الوجبات الدسمة التي تقدمها الأمم المتحدة للأسد.

إضافة إلى ذلك، يعد الضغط على الأمم المتحدة للعمل مع الشركات التي يسيطر عليها النظام السوري مصدر ربح آخر.

أيضا يستخدم النظام العديد من التكتيكات الأخرى التي تقوض العمليات الإنسانية، ومنها منع موظفي الأمم المتحدة من تقييم احتياجات السكان السوريين لتقديم المساعدة بشكل فعال أو حتى تقديم معلومات عما يتلقونه من مساعدات وتوقيت تسلمها بمددها الزمنية الواجبة.

وفي يناير 2022، طلب رؤساء وأعضاء لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي من الرئيس جو بايدن إعداد "إستراتيجيته لمنع مثل هذه السرقة" من قبل النظام السوري، بحيث ينتهي الأمر بالمساعدات في أيدي من هم في أمس الحاجة إليها.

وأكد المشرعون الأميركيون في رسالتهم أن الأسد سرق أكثر من 100 مليون دولار من المساعدات في عامي 2019-2020 من خلال التلاعب بأسعار الصرف في تلك الفترة فقط.