فوز يسار فرنسا في الانتخابات التشريعية.. لماذا أغضب إسرائيل؟

12

طباعة

مشاركة

“هذا الانتصار من أجل فلسطين”.. تصريح أطلقته "ماتيلد بانو" زعيمة "تحالف اليسار" الفائز بالانتخابات الفرنسية، وهي تشرح ضمنا أحد أسباب اختيار الفرنسيين التيار الشعبي اليساري، ونبذ اليمين المتطرف وحزب الرئيس إيمانويل ماكرون معا.

وأظهرت نتائج الانتخابات التشريعية انتصارا مفاجئا وغير متوقع لائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة بزعامة جان لوك ميلينشون وهزيمة اليمين المتشدد الذي بدا قريبا من الفوز في الجولة الأولى.

إذ كان الفرنسيون يترقبون حكم اليمين المتطرف، بعد فوزهم بالجولة الأولى مطلع يوليو/تموز، لكن فوز اليسار في السابع من نفس الشهر غير كل شيء.

قلب تحالف اليسار الطاولة وتحقيقه انتصارا مهما بالمركز الأول في انتخابات فرنسا، وتراجع معسكر ماكرون (معا من أجل الجمهورية) للمرتبة الثانية، واليمين المتطرف للثالث، كان مفاجأة غير متوقعة.

ولا يمكن لأي حزب خاض الانتخابات التشريعية تحقيق الغالبية المطلقة بمفرده والبالغة 289 نائبا في الجمعية الوطنية. وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة على 182 مقعدا والمعسكر الرئاسي على 168 واليمين المتطرف على 143 مقعدا.

لكن فوز اليسار وهزيمة اليمين وماكرون، سيؤدي لتولي داعمي فلسطين الحكم ربما بالتعاون مع حزب الرئيس، الذي سيجرى تقييد سلطاته.

فلسطين حاضرة

والمشكلة هنا لا تمكن فقط في وجود برلمان "معلق" بلا أغلبية لأي حزب ليشكل حكومة منفردا، ومن ثم صعوبة إصدار القرارات الداخلية والخارجية.

ولكن في فوز اليسار الذي قد يتبع سياسة خارجية مختلفة، تدعم فلسطين وتعارض الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه على قطاع غزة.

وبعد الفوز، أكد اليسار الفرنسي استعداده لحكم البلاد والبدء بمناقشات داخلية لتعيين رئيس للوزراء.

هذا الانتصار الذي تحقق وسط رفع أحزاب اليسار أعلام فلسطين، قد يرفع عدد الدول الأوروبية المعترفة بها كدولة إلى 14.

إذ إن التحالف الفائز تعهد بالاعتراف الفوري بفلسطين، ما سيزيد من تفكك الموقف الأوروبي الداعم لإسرائيل.

فبعد تصدر تحالف اليسار الانتخابات التشريعية قالت رئيسة الكتلة النيابية لحزب فرنسا الأبية "ماتيلدا بانو": "سنعترف بدولة فلسطين خلال الأسبوعين المقبلين".

وأعلن جان لوك ميلينشون، الزعيم اليساري الفرنسي الذي حقق تكتله السياسي الفوز الأكبر في الانتخابات التشريعية، أن الحكومة التي سيقودها ستسعى للاعتراف بدولة فلسطين "في أقرب وقت ممكن".

وميلينشون، معروف بمواقفه الجريئة، وذكر أن الاحتلال الإسرائيلي هو المحرك الرئيس لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول في غزة.

ورفض توجيه اللوم لحركة المقاومة الإسلامية حماس وحدها فيما جرى، ما جعل إسرائيل تصفه بأنه "معاد للسامية".

ورشح الحزب ريما حسن من أصول فلسطينية لانتخابات البرلمان الأوروبي، وانتُخبت لتكون أول عضو فلسطيني فيه.

ويعد الاعتراف بدولة فلسطين أحد الوعود المركزية في حملة "الجبهة الشعبية الجديدة"، الفائزة بالانتخابات، مما يعكس موقفها من القضايا الدولية والتزامها بتغيير السياسة الخارجية الفرنسية.

وهو ما يعني أن "نتائج الانتخابات تشير إلى تحول كبير في المشهد السياسي الفرنسي، حيث أصبح التحالف اليساري في وضع يسمح له بالتأثير بشكل كبير على الاتجاه المستقبلي للبلاد" بحسب موقع "فلسطين كرونيكل" 7 يوليو/تموز 2024.

وكان لفلسطين وجود كبير في انتخابات فرنسا وشوارع وبرلمانها، بعدما تظاهر فرنسيون لنصرة غزة، التي تتعرض لعدوان إسرائيلي متواصل.

ولوح النائب عن حزب فرنسا الأبية "سيباستيان ديلوغو" بالعلم دعما للفلسطينيين تحت قبة البرلمان خلال سؤال للحكومة حول الوضع في قطاع غزة في مايو 2024.

ومع أن هذا النائب أبعد من البرلمان 15 يوما عقابا له، فقد فاز في الانتخابات مجددا وعاد وتضامن معه لاحقا نواب آخرون.

ورفعت النائبة راشيل كيكي من حزب "فرنسا الأبية" اليساري، علم فلسطين أثناء جلسة لطرح أسئلة موجهة إلى الحكومة، وتدخل أفراد الأمن وأخذوا العلم منها.

ورد نواب بالبرلمان الفرنسي بتشكيل علم فلسطين خلال جلسة للجمعية الوطنية بملابسهم ردا على إنزال أقصى عقوبة على البرلماني سيباستيان ديلوغو لحمله إياه في الجمعية الوطنية.

ورغم إعلان اليسار عزمه الاعتراف بدولة فلسطينية، ودعم طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خام في مايو 2024، لإصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتهم ارتكاب جرائم حرب بغزة، يشكك خبراء في قدرته على دعم فلسطين سوى بإجراءات شكلية. 

اعتراف شكلي؟

خبراء قالوا لصحف فرنسية وأجنبية إن الاعتراف بفلسطين لا يعني أنه سيحدث تغييرا جذريا، لأن السياسة الخارجية، تبقى من مسؤوليات رئيس الجمهورية وفقا للدستور.

رجحوا فقط أن يؤدي فوز اليسار لوجود تيار رسمي يدعم القضية الفلسطينية ومن ثم يمثل ضغطا داخل فرنسا فيما يتعلق بالتعاون مع إسرائيل، يتصاعد في الفترة المقبلة.

وكان الرئيس ماكرون، قال في مايو 2024: "أنا على استعداد تام للاعتراف بدولة فلسطينية، ولكن أرى أن هذا الاعتراف يجب أن يأتي في وقت مفيد"، في إشارة إلى أن الوقت الحالي غير مؤات.

وتشير دراسة لخبراء المجلس الأطلسي (أتلانتيك كونسل) 7 يوليو 2024 إلى أن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية سيكون أكثر احتمالا الآن، بعد فوز وحكم تحالف اليسار "لكن لا تتوقعوا تغييرا كبيرا في سياسة الشرق الأوسط".

أوضحت أن السياسة الخارجية لم تكن من القضايا الرئيسة في الحملة الانتخابية، ولكن برنامج الائتلاف اليساري وزعماؤه حددوا بعض جوانب سياستهم في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتصل بغزة ولبنان، لا تختلف كثيرا عن حزب ماكرون.

إذ يدعو الائتلاف اليساري إلى وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما دعت له حكومة ماكرون.

وفيما يتعلق بلبنان والمخاوف الوشيكة من اندلاع صراع جديد بين إسرائيل وحزب الله، كان موقف اليسار الفرنسي غامضا ووعد فقط بتمكين القوات المسلحة اللبنانية.

لكن دراسة "أتلانتيك كونسل" تشير إلى أن "التغيير الكبير الوحيد سيكون رمزيا وهو اعتراف الائتلاف اليساري بالدولة الفلسطينية، على غرار العديد من الحكومات الأوروبية الأخرى في الأشهر الماضية".

وقد فكر ماكرون نفسه في الفكرة وقال إن القيام بذلك "ليس من المحرمات بالنسبة لفرنسا"، لكن هذا سيزعج الحكومة الإسرائيلية الحالية.

لكن بحسب خبراء "أتلانتيك كونسل": لن يكون لقرار اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية أهمية كبيرة على الأرض، بل وقد يكون أحد الأسباب التي قد تجعل ماكرون منفتحا على حكومة ائتلافية مع أحزاب اليسار.

ويؤكد هؤلاء الخبراء أنه "لا ينبغي لنا أن نتوقع تحولا كبيرا في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط.

ويشير تحليل نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية مطلع يوليو 2024 إلى أن رؤساء فرنسا سعوا جاهدين لتشكيل ما يسمى الآن "المجال المحفوظ" (domaine réservé) فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والأمن والدفاع والاستخبارات.

أوضح أن "رؤساء الوزراء الذين تعايشوا مع رؤساء من حزب مختلف، عرفوا هذه القاعدة غير المكتوبة بشكل عام، وفي الأوقات النادرة عندما حاولوا توسيع أدوارهم، اصطدموا برئيس الجمهورية".

وهو ما يعني أنه لو جرى تشكيل حكومة يسارية فقد تصطدم مع الرئيس الفرنسي ماكرون حال اتخذت سياسة خارجية مختلفة فيما يخص القضية الفلسطينية وإسرائيل.

وفيما يتعلق بالحرب في غزة، اتخذ الحزب اليميني المتطرف موقفا واضحا مؤيدا لإسرائيل، كوسيلة لتخليص نفسه من وصمة "معاداة السامية" المتجذرة في تاريخ الحزب، في حين اتُهم اليسار بـ "كراهية اليهود بسبب دعمهم للقضية الفلسطينية"، وفق "فورين بوليسي".

وتثير الانقسامات المرتقبة في البرلمان الفرنسي، وتصدر اليسار المزيد من التساؤلات بشأن قدرة الأخير على اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والدولي، خصوصا فيما يتعلق بقضايا الحرب في غزة وقضايا الهجرة واللاجئين.

كيف تتضرر إسرائيل؟

وفور ظهور النتائج، خرجت صحف عبرية متشحة بلغة السواد وتقول إن "يهود فرنسا قلقون من مكاسب اليسار المتطرف في الانتخابات، ويخشون تصاعد معاداة السامية"، وهي تهمة معلبة جاهزة تطلقها تل أبيب على كل من ينتقد جرائمها.

موقع صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية ذكر أن انتصار الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية تسبب في قلق لدى شخصيات يهودية فرنسية بارزة، ورصد ما عده قلق وانزعاج يهود فرنسا وإسرائيل من نتائج الانتخابات.

قال إن عددا من الشخصيات اليهودية وعلى رأسهم برنار ليفي حذروا من الآثار المحتملة لفوز هذا التيار على مفاقمة معاداة السامية في فرنسا ودعوا إلى اليقظة في وجه قيادة هذا التحالف اليساري.

أورد تدوينه للمفكر اليهودي "برنار هنري" ليفي عبر حسابه على منصة "إكس" يقول فيها: "اليسار سيئ السمعة، وبه بعض الوجوه الجديدة لمعاداة السامية، وليس أمامنا الآن سوى المثابرة في النضال ضد هؤلاء الأفراد".

وعلق الصحفي اليهودي الفرنسي يوهان الطيب على فوز اليسار قائلا: "انتصار ميلينشون يبعث برسالة مرعبة عن الإفلات من العقاب إلى جميع الفاشيين الإسلاميين المناهضين لليهود"، وفق تعبيره. 

أزعجهم بشدة سقوط “مائير حبيب” النائب الفرنسي الإسرائيلي الذي يعد صديقا لبنيامين نتنياهو في الانتخابات البرلمانية الفرنسية، حيث فشل في الفوز بالمقعد المخصص لتمثيل الفرنسيين في الخارج.

زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المعارض ووزير الجيش الأسبق أفيغدور ليبرمان، استغل ذلك ودعا في 8 يوليو، يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل إثر نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة التي تصدر فيها تحالف اليسار.

كتب على منصة "إكس" يقول: "في ضوء انتصار اليسار الراديكالي في فرنسا، أدعو جميع اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إلى دولة إسرائيل، لا يوجد وقت".

وتابع: “تحدث جان لوك ميلينشون، زعيم الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات، أكثر من مرة ضد اليهود ودولة إسرائيل”.

زعم أن "حزب ميلينشون يمثل معاداة سامية خالصة تعبر عن زيادة كبيرة في كراهية إسرائيل".

وبدوره، قال وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي إن نتائج الانتخابات الفرنسية أخبار مؤسفة للغاية للجالية اليهودية وإسرائيل.

ولبيان خطورة حكم اليسار على إسرائيل، تقول وكالة "بلومبيرغ" الأميركية 8 يوليو إن جان لوك ميلينشون، هو النسخة الفرنسية من زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربين، اليساري الفائز والمناهض لإسرائيل.

قالت إن كليهما ينتقد إسرائيل بلا تحفظ، ومناهض للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويطمح لفرض الضرائب على الأثرياء، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وخفض سن التقاعد.

ووفقا لاستطلاع أجرته اللجنة اليهودية الأميركية في أوروبا، يعتقد 92 بالمئة من اليهود الفرنسيين أن فرنسا التي لا تقهر "أسهمت" في تصاعد معاداة السامية، حيث صوت الفرنسيون لصالح اليسار، وفق صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" 8 يوليو 2024.

زعمت أن "العديد من اليهود الفرنسيين يقولون إن الخطاب اليساري المتطرف يفتح الباب أمام معاداة السامية"، وقد أحزنهم سقوط حزب رئيس الوزراء غابرييل أتال لأنه ينحدر من أصول يهودية.

وكانت منظمة CRIF، وهي تجمع لليهود الفرنسيين، حثت الجالية اليهودية على رفض التصويت لأقصى اليمين وأقصى اليسار.

ولكن قبل التصويت، وفي مواجهة صعود اليسار، دعت بعض الأصوات اليهودية البارزة الجالية اليهودية إلى التصويت لصالح اليمين المتطرف بدلا من ذلك، وفق "تايمز أوف إسرائيل".