جنوب القوقاز.. كيف تسبب غزو أوكرانيا في نهاية "الساحة الخلفية" لروسيا؟

“تسارع انهيار القوة الروسية منذ إطلاق بوتين حربه على أوكرانيا في فبراير 2022”
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل نحو 30 عاما، ومنطقة جنوب القوقاز تعد بمثابة "ساحة خلفية" لروسيا.
لكن اليوم، ومع "مدى سوء تقدير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التعامل مع أوكرانيا، يبدو أن موسكو تخسر بشكل مطرد نفوذها وقوتها في جنوب القوقاز".
واستند موقع “الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية” (DGAP) في هذا الافتراض، على ما رصده من "اكتساب دول أخرى في المنطقة نفوذا ملحوظا".
واستعرض مظاهر خسارة روسيا نفوذها في جورجيا وأرمينيا، مع تعاظم قوة أذربيجان في المقابل، في حين برزت إيران كلاعب نشط مؤثر.
بالإضافة إلى تنامي الدور التركي الفعال في المنطقة، ودخول الصين والاتحاد الأوروبي على خط المنافسة أمام موسكو، مما يجعل "جنوب القوقاز يقترب من الأوقات العصيبة"، وفق وصف الموقع.
نظام جديد
وشدد الموقع في مطلع حديثه على أن "انهيار قوة الإمبراطورية الروسية تسارع منذ إطلاق بوتين حربه على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022".
وخص بالذكر منطقة جنوب القوقاز، حيث لاحظ "نهاية الهيمنة الروسية وصعود أذربيجان وتركيا كلاعبين رئيسين في نظام إقليمي جديد".
وفق الموقع، فقد بدأت ملامح هذا النظام الجديد تتشكل بعد انتصار أذربيجان في الحرب الثانية بإقليم قرة باغ عام 2020.
واستطرد: "إذ أصبح من الواضح أن الكرملين لا يمكنه التفاوض على وقف إطلاق النار إلا مع تقديم تنازلات".
وتابع: "رغم تمكن موسكو من نشر قوات حفظ السلام في قرة باغ لحماية السكان الأرمن، إلا أنه بعد احتلال أذربيجان للمنطقة المتنازع عليها بالكامل عام 2023، كان على موسكو الموافقة على انسحاب مبكر لقواتها".
وأوضح الموقع أنه "وعلى نحو مماثل، نقلت روسيا القوات الأكثر قدرة على القتال إلى أوكرانيا من قواعدها العسكرية في جيومري بأرمينيا".
وأردف: "وكذلك في المناطق الجورجية التي تحتلها روسيا في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية"، على حد وصفه.
وعقب قائلا: "وهذا يضعف دور روسيا، بصفتها جهة فاعلة في مجال السياسة الأمنية في جنوب القوقاز".
وأشار إلى أن أرمينيا "شعرت بذلك على وجه الخصوص، إذ تمثل موسكو القوة الحامية التقليدية لها".
تغير المصالح
وقال الموقع إن "مصالح الكرملين تغيّرت تجاه منطقة جنوب القوقاز، بعد الحرب ضد أوكرانيا".
وأردف: "نتيجة للعقوبات الغربية، تحتاج روسيا إلى طرق تجارية بديلة للوصول إلى أسواق جديدة".
وبالتالي، "أصبحت إيران شريكا مهما لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا، خاصة من خلال توريد الطائرات المسيّرة".
وأضاف: "لهذا السبب، يعد ممر الشمال-الجنوب الذي يمر عبر جنوب القوقاز، ذا أهمية كبيرة لموسكو".
ويمتد هذا الممر عبر الأراضي الإيرانية وصولا إلى الهند، التي تُعد شريكا تجاريا مهما آخر لروسيا.
وتابع الموقع: "إضافة إلى ذلك، تُستخدم دول جنوب القوقاز -وفي مقدمتها جورجيا وأرمينيا- وكذلك تركيا، لتجاوز العقوبات".
وتضاعف حجم التجارة بين روسيا وأرمينيا ثلاث مرات بين عامي 2021 و2023.
أما جورجيا، فقد وسّعت تجارتها بشكل كبير مع دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تهيمن عليه روسيا.
ففي عام 2023، ارتفعت تجارتها مع قيرغيزستان بنسبة 640 بالمئة، ومع كازاخستان بنسبة 200 بالمئة مقارنة بعام 2022.
وكشف الموقع أنه "وفقا لتحقيقات مستقلة، تقوم كلتا الدولتين بإعادة تصدير هذه البضائع إلى روسيا، مما يُشكل نشاطا مربحا لتجاوز العقوبات".
من جهة أخرى، تحدث الموقع عن أن أذربيجان أصبحت "دولة محورية" في جنوب القوقاز، وكبلد ناطق بالتركية، فهي ترتبط ثقافيا وسياسيا بشكل وثيق بتركيا.
وأكمل: "ساعدت أنقرة، في إطار تدريبات حلف الناتو، في تحديث الجيشين الأذربيجاني والجورجي".
وأردف: "وأسهمت بشكل كبير في انتصار أذربيجان في الحرب الثانية بإقليم قره باغ من خلال الطائرات المسيرة والدعم الجوي والاستطلاع".
واستطرد: "لم تكن لدى أرمينيا، بأسلحتها الروسية القديمة، أي فرصة أمام الجيش الأذربيجاني المجهّز بشكل حديث، وقد أدى هذا التفوق العسكري إلى فرض باكو فعليا شروط اتفاقية السلام مع أرمينيا".
ويعتقد الموقع أن زيارة بوتين التي استمرت يومين إلى باكو في أغسطس/ آب 2024، أظهرت الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية المتزايدة لأذربيجان.
وأضاف: "في الوقت الحالي، تصدر روسيا المزيد من الغاز إلى هذه الدولة الغنية بالموارد، حتى تتمكن أذربيجان من تصدير غازها إلى الاتحاد الأوروبي".
نشاط إيراني
ومع هذا الوضع الجديد، "أصبحت إيران حاليا أكثر نشاطا في منطقة جنوب القوقاز، حيث لم تعد موسكو قادرة على ضمان الاستقرار الإقليمي، في الوقت الذي يزداد فيه نفوذ منافستها تركيا"، بحسب موقع “الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية” .
وتابع: "طالما كانت روسيا، بصفتها المهيمن الإقليمي، قادرة على كبح النفوذ الغربي في جنوب القوقاز، ولم يكن لدى إيران حاجة للتدخل".
واستدرك: “لكن هذا الوضع تغيّر الآن، خاصة مع تعزيز التعاون بين إيران وأرمينيا، واقتراب حذر من جورجيا، وأخيرا افتتحت طهران قنصلية في مدينة كابان جنوب أرمينيا”.
ووفق الموقع، فقد "عرضت طهران على القيادة الأرمينية نشر قوات على أراضيها لردع الهجمات الأذربيجانية، إلا أن يريفان رفضت هذا العرض نظرا لتقاربها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة".
وعلق قائلا: "هذا يوضح أن إيران لم تعد تثق أن موسكو قادرة على منع أي هجمات محتملة على الأراضي الأرمينية".
من ناحية أخرى، أوضح الموقع أن "القيادة الإيرانية تعارض بشدة الممر الإقليمي الذي تطالب به أذربيجان، للوصول إلى جيب ناخيتشيفان عبر الأراضي الأرمينية مباشرة على الحدود مع إيران".
وأضاف: "لكن تدعم روسيا هذا الممر، بشرط أن تكون لها قوات حدودية للإشراف عليه".
وفسر الرفض الإيراني لهذا الممر قائلا: "تنفيذ هذا الممر سيعني زيادة النفوذ الأذربيجاني-التركي على حدودها الشمالية".
وعد الموقع هذه التطورات "بمثابة إعلان نهاية الهيمنة الروسية في القوقاز الجنوبي، مما مهد الطريق لدول أخرى لاكتساب تأثير في المنطقة، مع ضرورة أن تُجري موسكو تسويات مع هذه الدول".
من أمثلة هذه الدول التي أشار إليها، الصين والاتحاد الأوروبي، حيث "وسعوا نشاطاتهم في المنطقة، كما أنهم يشتركون في الاهتمام بوجود ممر نقل بديل عبر جنوب القوقاز، بين البحر الأسود وآسيا الوسطى".
وقد حصلت الصين على عقد بناء ميناء البحر الأسود الجورجي في أناكليا، وهي تشارك بشكل كبير في توسيع الممر الأوسط عبر القوقاز الجنوبي، الذي يمثل بديلا محدودا للطريق الشمالي عبر الأراضي الروسية.
أما على المستوى السياسي، فبعد أن "فقدت مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا مصداقيتها في مفاوضات قرة باغ، قدم الاتحاد الأوروبي نفسه بصفته منصة أساسية للمفاوضات بين أرمينيا وأذربيجان".
وفيما يتعلق بالحضور الأوروبي في المنطقة، قدّر الموقع أنه "طالما لا يمكن للاتحاد الأوروبي تقديم ضمانات أمنية لدول جنوب القوقاز؛ ستظل هذه الدول مضطرة إلى تأمين نفسها ضد القوى الإقليمية، بما في ذلك روسيا".