عبء اقتصادي يتحول إلى فرص استثمارية.. من يمول حروب إسرائيل؟

تتلقى إسرائيل تمويلات للبحث والتطوير من برامج أوروبية
رأى معهد دراسات إيطالي أن الحروب الإسرائيلية التي لطالما عُدّت عبئا على الخزائن الدولية، تحوّلت إلى أصل استثماري يدخل في حسابات الأسواق العالمية.
وقال المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية: إنه "بين عامي 2023 و2025، مرَّت إسرائيل بإحدى أكثر المراحل حساسية في تاريخها الحديث؛ حيث خاضت عمليات عسكرية متعددة الجبهات".
وشملت تلك الجبهات كلا من قطاع غزة، والحدود مع لبنان، والجولان، وأيضا على الصعيد الإستراتيجي في التحضير لردع موثوق ضد إيران والذي انتهى أخيرا بمواجهة لمدة 12 يوما خلال يونيو/حزيران 2025.

أصل مالي
وأشار إلى أن "تكلفة هذه الحرب المتعددة الأوجه مرتفعة للغاية". فبحسب تقديرات وزارة المالية الإسرائيلية، فإنّ العمليات في غزة وحدها كلفت نفقات استثنائية تتجاوز 25 مليار دولار في عام واحد فقط.
وأكَّد المعهد أن "القوة العسكرية وحدها لا تضمن استمرار نزاع عالي الكثافة". ففي غياب تدفق مستمر لرأس المال، ينتهي الأمر -حتى في أكثر الجيوش تقدما- إلى الانهيار تحت وطأة نفقات الحرب.
وهنا يدخل عنصر غالبا ما يُتجاهل في النقاش العام: الحرب بصفتها أصلا ماليا، وفق تقديره. وبنت إسرائيل خلال العقدين الماضيين بنية مالية عابرة للحدود تمكنها من تحويل النزاع إلى دورة اقتصادية وظيفية؛ إذ تولد الحرب ديْنا عاما، ويُعاد تعبئة الدين العام كمنتج مالي ويباع للمستثمرين العالميين، مما يولد سيولة جديدة.
وأشار المعهد إلى أن "هذه الآلية، المعروفة بالفعل في سياقات أخرى (من الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، إلى أوكرانيا في 2022-2023)، نجد في إسرائيل شكلا متطورا ومتكاملا بشكل خاص".
ولفت إلى أن "البنوك الاستثمارية الكبرى -من غولدمان ساكس إلى دويتشه بنك- لا تعمل فقط كمستشارين أو مستثمرين سلبيين، بل تلعب دور الضامنين لإصدارات السندات التي تمول بها الدولة الإسرائيلية إنفاقها العسكري".
وأفاد بأن "السندات التي أصدرت بين نهاية 2023 وبداية 2025 -ما يقارب 20 مليار دولار- هي رسميا إصدارات سيادية عادية".
لكن في الجوهر تعدّ سندات حرب غير معلنة، ووضعت بسرعة وبطلب مرتفع خلال أشد مراحل النزاع.
وتابع: "بالتوازي، تتلقى إسرائيل تمويلات للبحث والتطوير من برامج أوروبية مثل هورايزون وصندوق الدفاع الأوروبي، التي، وإن لم تكن مخصصة لتمويل الحرب مباشرة، فإنها تغذي القدرات التكنولوجية ثنائية الاستخدام (مدني-عسكري) لصناعة عسكرية تشهد نموا قويا".
وفي هذا السياق، يقول المعهد الإيطالي: إن "الحرب لم تعد مجرد كلفة يجب تحملها أو تهديد يجب احتواؤه".
"بل أصبحت، لبعض الفاعلين، فرصة استثمارية؛ تتمثل في سندات عالية العائد، وشركات عسكرية مدرجة في البورصة مع دفاتر طلبيات متزايدة، وتقنيات مزدوجة الاستخدام حاصلة على براءات اختراع بفضل أموال عامة أجنبية".
وأشار إلى أن "كل ذلك يشكل سلسلة إنتاج مالية للحرب". مؤكدا أن "إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تتبع هذا المنطق، لكنها تعد حالة نموذجية بسبب الشفافية التي تدير وتسوق بها مجهودها الحربي".
وأوضح أن "ما كان في القرن العشرين تكلفة استثنائية للدولة، أصبح في القرن التالي أصلا مغريا للأسواق، ضمن محافظ الاستثمار العالمية".
وأضاف: "إذا كان العالم يراقب باهتمام القدرة العسكرية لإسرائيل، فعليه ربما أن يتساءل بشكل أعمق عن قدرتها الأكثر حسما: تحويل الحرب إلى قيمة مالية، وعدم الاستقرار الإقليمي إلى رافعة لرأس المال العالمي".
ويؤكد أنه "بهذا المعنى، فإن الدرع الحقيقي لإسرائيل ليس سياسيا ولا أيديولوجيا؛ لكنه مالي".

التواطؤ الأوروبي
وأفاد بأن إسرائيل أصدرت، بين أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وفبراير/ شباط 2025، في الأسواق الدولية سندات دين بأكثر من 19.4 مليار دولار.
وذكر أن "هذه الإصدارات رسميا عادية، لكن عمليا تستخدم لتغطية التكلفة الهائلة للحرب، التي قُدرت بحوالي 25 مليار دولار في عام 2024 وحده".
وأفاد بأن سبعة بنوك استثمارية قامت بالاكتتاب وتوزيع هذه السندات؛ غولدمان ساكس (7.2 مليار دولار)، وبنك أوف أميركا (3.5 مليارات)، وسيتي جروب (2.9 مليار)، ودويتشه بنك (2.5 مليار)، وبي إن بي باريبا (2 مليار)، وجي بي مورغان (700 مليون)، وباركليز (500 مليون).
وأشار إلى أنّ "هذه البنوك تعمل كضامنين، أي أنها تهيكل الإصدار، وتشتريه أولا، ثم تعيد بيعه للمستثمرين النهائيين".
"هم ليسوا مستثمرين أخلاقيين، بل مشغلين لرأس المال العالمي؛ يجعلون من الحرب مصدرا للربح المالي"، يقول المعهد.
ولفت إلى أن "أحد الجوانب الأكثر جدلا -والأقل نقاشا- في التمويل غير المباشر للآلة الحربية الإسرائيلية هو مشاركة الدولة العبرية في البرامج الأوروبية الرئيسة لتمويل البحث".
وأردف: "فرغم أن إسرائيل ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، فإنها تستفيد من وضعية مميزة في المناقصات الأوروبية بموجب اتفاقيات ثنائية موقعة في العقد الأول من القرن الحالي، تمنحها صفة دولة شريكة) في البرامج الإطارية الأوروبية.
وهذا الوضع مكنها من الوصول إلى ركيزتين إستراتيجيتين من الإنفاق الأوروبي العام في مجال التكنولوجيا: هورايزون أوروبا وصندوق الدفاع الأوروبي.
وفي هذا السياق، أفاد المعهد أن برنامج هورايزون أوروبا مخصص رسميا للبحث العلمي والتكنولوجي لأغراض مدنية.
واستدرك: "ومع ذلك، فإن الطبيعة ثنائية الاستخدام للعديد من التقنيات الممولة (كالذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار والاتصالات والطائرات بدون طيار) تجعل الفصل بين المدني والعسكري هشا للغاية".
وحسب تحقيق نشرته منصة Follow The Money عام 2023، حصلت إسرائيل، بين عامي 2021 و2024، على أكثر من 1.1 مليار يورو من هورايزون أوروبا، موزعة على 921 مشروعا.
من بين المستفيدين الرئيسين لم تكن فقط الجامعات والمراكز الأكاديمية، بل أيضا شركات متورطة مباشرة في إنتاج الأسلحة المستخدمة في النزاعات الإقليمية، مثل Israel Aerospace Industries أو (IAI)، وRafael Advanced Defense Systems، وElbit Systems.
وأكَّد المعهد أن هذه الشركات تلقت أموالا أوروبية لتطوير تقنيات موجهة نظريا للأمن السيبراني والروبوتات وتحليل البيانات والاتصالات عبر الأقمار الصناعية.
لكن العديد من هذه التقنيات انتهت إلى استخدامها ميدانيا أو دمجها في أنظمة الجيش الإسرائيلي.
وأردف: "وعلى الرغم من إعلان الاتحاد الأوروبي التزامه بالحياد واحترام حقوق الإنسان، فإنه واصل تمويل كيانات إسرائيلية خلال -وبعد- العمليات في غزة، مما أثار انتقادات منظمات غير حكومية ومجموعات برلمانية تشجب التناقض السياسي".

البوابة اليونانية
وإذا كان هورايزون أوروبا يجسد مفارقة البحث المدني المستخدم بالأغراض العسكرية، يؤكد المعهد أن صندوق الدفاع الأوروبي هو برنامج مخصَّص لتطوير القدرات العسكرية الأوروبية المشتركة، بميزانية 8 مليارات يورو للفترة 2021-2027. وفي هذه الحالة، لا يسمح لإسرائيل رسميا بالمشاركة.
لكن في عام 2023، استحوذت شركة IAI العامة الإسرائيلية على 94.5 بالمئة من شركة Intracom Defense اليونانية، محولة إياها إلى وسيلة قانونية تماما للدخول إلى المشاريع الأوروبية.
وتابع: "اليوم، تشارك إنتراكم في 15 مشروعا من صندوق الدفاع الأوروبي تشمل تطوير أنظمة مضادة للطائرات بدون طيار ومستشعرات متقدمة للمعارك وشبكات مشفرة وذكاء اصطناعي عسكري".
وأردف: "على الرغم من أن مقرها القانوني يوناني، فإنّ التقنيات المطورة تغذي مباشرة القطاع العسكري الإسرائيلي، في انتهاك صريح لروح -إن لم يكن نص- التعاون الدفاعي الأوروبي".
وشدَّد على أن هذه الحيلة ليست استثناء، بل جزءا من إستراتيجية إسرائيلية أوسع لـ "أوربة الشركات"، أي الاستحواذ على شركات أوروبية تشارك أصلا في المناقصات المجتمعية، لتجاوز القيود السياسية أو القانونية.
وكنتيجة للتكامل بين هذين المسارين -هورايزون وصندوق الدفاع- فإن "إسرائيل اندمجت فعليا في النظام التكنولوجي والعسكري للاتحاد الأوروبي، دون أن تكون خاضعة للقيود السياسية الداخلية للاتحاد، ولا لواجبات الشفافية التي تلزم الأعضاء الفعليين".
وأوضح المعهد الإيطالي أن إسرائيل، بهذه الطريقة، تمكنت من الوصول إلى الأموال العامة الأوروبية حتى خلال النزاعات النشطة.
كما تمكنت من تطوير تقنيات مزدوجة الاستخدام تحت غطاء مشاريع مدنية، وتجاوز قيود المشاركة العسكرية عبر وسائل قانونية، والحفاظ على صورة "شريك علمي" بينما تستخدم نفس التقنيات في ميادين الحرب.
واختتم بالقول: "وبالتالي، لا نتحدث عن مجرد شذوذ بيروقراطي، بل عن تواطؤ هيكلي حقيقي".
فبينما يُصدر الاتحاد الأوروبي إدانات شكلية لانتهاكات إسرائيل في غزة، فإنّه يواصل تمويل الآلة التكنولوجية التي تدعم تلك العمليات بشكل غير مباشر، كما قال المعهد.