رغم ضربات الجيش السوداني.. لماذا سقطت مدينة النهود في قبضة "الدعم السريع"؟

داود علي | منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

مدينة النهود بولاية غرب كردفان غرب السودان، كانت لسنوات ملتقى القبائل والأسواق، لكن جاءها دوي الرصاص، حيث سقطت بيد مليشيا "الدعم السريع" المدعومة إماراتيا، في 2 مايو/أيار 2025، عقب انسحاب الجيش والقوات المتحالفة معه إلى منطقة الخوي شرقي المدينة.

لم يكن سقوط النهود اشتباكا عابرا، بل احتلالا كاملا وسيطرة ميدانية، أعادت رسم المشهد الدامي للصراع السوداني، ففي ساعات قليلة، تحولت المدينة إلى غنيمة حرب بيد “الدعم السريع”، ودفترا مفتوحا لمجازر جديدة وإعدامات ميدانية، طمست فيها ملامح المدنيين وسط غبار المعركة.

استيلاء المتمردين على النهود لم يكن مجرد نصر ميداني فحسب، بل إعلانا عن عودة هجومية مدروسة بعد سلسلة انتكاسات، ورسالة مغموسة بالدماء توجه إلى الجيش السوداني، مفادها أن المعركة لم تنته بعد، والخرائط قابلة لإعادة الترسيم. 

وبينما يقف الجيش في مواضع الدفاع ويكابد لاستعادة تماسكه، تبدو مليشيا محمد حمدان دقلو "حميدتي". وكأنها تحاول فرض منطق المليشيا على منطق الدولة، مدينة تلو الأخرى.

فما الذي يجعل النهود بهذا القدر من الأهمية الإستراتيجية؟ ولماذا ارتكبت فيها المجازر بلا هوادة؟ وهل يعود الصراع في السودان إلى مرحلة “حرب المدن” بعد أن استنزفت الجبهات التقليدية، وتحديدا في الخرطوم ودارفور. 

يوم السقوط

جاءت سيطرة الدعم السريع على مدينة النهود بعد معارك شرسة استمرت ليومين، استخدمت خلالها المليشيا أسلحة ثقيلة شملت المدفعية والطائرات المسيرة المزودة بقاذفات صواريخ، ما اضطر الجيش إلى التراجع، بعد أن أخلى مقاره وعلى رأسها مقر “لواء الفرقة 18”.

ورغم تمكن وحدات الجيش من صد الهجوم في اليوم الأول، مستفيدة من تحصينات “اللواء 18”، فإن اليوم الثاني شهد تحولا دراميا في مجريات المعركة، حيث انسحبت القوات النظامية خارج المدينة، لتسقط بالكامل في قبضة المتمردين.

وبثت القوات المتمردة مقاطع فيديو، أظهرت انتشارا كبيرا لعناصرها داخل قيادة الجيش، فيما لم يصدر أي بيان رسمي من المجلس السيادي أو الجيش عن سقوط المدينة.

ولعل ما أسهم في سقوط النهود على هذا النحو، تصاعد وتيرة الهجمات التي نفذتها الدعم السريع باستخدام مكثف للمدفعية والطائرات المسيرة الحديثة التي حصلت عليها من الإمارات.

كما أن الهجوم كان شاملا وفي أكثر من مكان ما جعل الجيش يضطرب؛ إذ استهدف الهجوم بشكل مباشر مقار حساسة في قلب العاصمة ومدن أخرى. 

فبعد أن ظلت الخرطوم ساحة مواجهة ميدانية تقليدية، عاد الدعم السريع إلى استخدام أسلحة بعيدة المدى؛ حيث قصف محيط القصر الجمهوري بقذائف أُطلقت من حي الصالحة جنوبي أم درمان، دون تسجيل إصابات.

وتزامن الهجوم مع قصف آخر استهدف مقر وزارة المعادن في المنطقة الحكومية وسط الخرطوم، في خطوة تعكس رغبة المليشيا في إرباك منظومة الدولة وإرسال رسائل تظهر قدرتها على ضرب عمق العاصمة متى شاءت.

لكن التطور الأبرز تمثل في نقل هذا التكتيك الجوي الجديد إلى مدن أخرى؛ إذ شهدت مدينة الأبيض في شمال كردفان هجوما بطائرة مسيرة استهدفت أحد المقار العسكرية التابعة للجيش، ما أدى إلى تصاعد أعمدة الدخان من الموقع المستهدف، وفق روايات شهود عيان.

وفي نهاية ذلك اليوم العصيب، سقطت النهود، التي ظلت تحت سيطرة الجيش، الذي جعلها منذ يوليو/ تموز 2024 العاصمة الإدارية المؤقتة لولاية غرب كردفان، عقب سقوط عاصمتها الأصلية "الفولة" بيد الدعم السريع.

أهمية النهود

ولطالما حرص الجيش على الحفاظ على تلك المدينة تحديدا، كونها ذات أهمية إستراتيجية بارزة في ولاية غرب كردفان، خاصة مع موقعها الجغرافي الذي يربط بين عدة ولايات في إقليم دارفور وكردفان ما يجعلها نقطة عبور رئيسة للحركة التجارية والعسكرية.

والمدينة هي مفتاح الوصول إلى كل مدن غرب كردفان وشمال دارفور.

إضافة إلى الأهمية الاقتصادية لها، فهي من المدن الغنية بالموارد الطبيعية مثل الصمغ العربي، الذي يميزها وتعد مصدره داخل البلاد، وكذلك تضم منجم “دارسايا” للذهب.

وهناك بعد آخر يتعلق بأن السيطرة على النهود تعني الضغط على قيادة الفرقة 22 التابعة للجيش بمدينة "بابنوسة" غرب كردفان.

وبحسب صحيفة “التغيير” المحلية، كانت النهود واللواء 18 بداخلها، تمثل سندا "للفرقة 22 بابنوسة"، وخسارة الجيش للمدينة سيؤثر سلبا على أي معارك قادمة في كردفان ودارفور.

الأزمة الأخرى التي تواجه الجيش بسقوط النهود، أن سيطرة الدعم السريع على المدينة تعيق تحرك كتيبة “البراء بن مالك” التابعة للجيش والمنتشرة في مدن كردفان.

ولفتت الصحيفة إلى أنه في المرحلة القادمة ستكون هناك حرب مدن شرسة، وستعمل المقاومة على حشد الأسلحة والرجال لتحرير النهود، لاستعادة السيطرة في كردفان. 

مجزرة النهود

ومع ذلك، فإن دخول الدعم السريع للنهود لم يكن مجرد تغيير للسيطرة، بل حمل معه موجة من العنف الدموي، ورسائل الرعب، إذ تحدثت مصادر محلية عن مجازر وعمليات إعدام وقتل جماعي بحق المدنيين، ترافقت مع نهب واسع للممتلكات.

وفي بيان صادم، أعلنت شبكة أطباء السودان في بيان أن أكثر من 100 مدني، بينهم نساء وأطفال، قتلوا على يد المتمردين، كما تعرض سوق المدينة ومستشفاها للنهب، وأحرقت متاجر ومحال تجارية. 

وفي اليوم التالي لسقوط المدينة، أعلنت نقابة أطباء السودان أن حصيلة القتلى جراء الهجوم  بلغت 300 قتيل، والأرقام مرشحة للارتفاع. 

وكشفت صحيفة "أخبار السودان" المحلية عن تصفية عدد كبير من المواطنين على يد الدعم السريع، خاصة المنتمين إلى التيار الإسلامي، ومنهم الشيخ أحمد علي النعمان، وهو داعية معروف في المدينة، تم إعدامه على يد المليشيات في منزله. 

وكان النعمان قد ظهر قبل تصفيته داخل منزله بساعات قليلة في مقطع مصور، يحث الأهالي على الصبر والثبات ومقاومة المتمردين.

كذلك، تم إعدام الدكتور محمد المصباح مدني، عميد كلية علوم الحاسوب في جامعة غرب كردفان، مع ابنه داخل منزله.

ومن بين القتلى الرائد أحمد محمد عبدالله جلو، مدير الشرطة القضائية، الذي تعرض للذبح مع زوجته داخل المنزل. 

كما شملت قائمة الضحايا، عبدالرحيم صافي الدين ناجح، شقيق رئيس شورى قبيلة حمر، الذي تم اغتياله برصاص داخل منزل شقيقه، بحسب "أخبار السودان".

وفي 3 مايو 2025، أعلنت منظمة "محامو الطوارئ" أن الدعم السريع التي تقاتل الجيش منذ أكثر من عامين في حرب مدمرة، "اعتقلت عشرات الشباب وقامت بإعدام أكثر من 27 شخصا ميدانيا بذريعة تعاونهم مع الجيش".

خريطة السيطرة 

ومنذ اندلاع الحرب الأهلية السودانية الدامية منتصف أبريل/ نيسان 2023، بين الجيش والدعم السريع، حدثت كارثة إنسانية غير مسبوقة. 

ووفقا لتقارير الأمم المتحدة والسلطات المحلية، تجاوز عدد القتلى 20 ألف شخص، بينما بلغ عدد النازحين واللاجئين قرابة 15 مليونا. 

لكن تقديرا أكثر قتامة صدر عن باحثين من جامعات أميركية، وهي (نبراسكا وكاليفورنيا ولوفين وأوريغون)، رجح أن يكون عدد الضحايا قد اقترب من 130 ألف قتيل، في ظل صعوبة الوصول إلى العديد من مناطق النزاع.

وفي الشهور الأخيرة، بدأت خريطة السيطرة العسكرية تتغير تدريجيا لصالح الجيش، لا سيما في العاصمة الخرطوم. 

واستعادت القوات النظامية مواقع إستراتيجية مهمة، من بينها القصر الجمهوري، وعدد من الوزارات، والمطار الدولي، إضافة إلى مقار أمنية وعسكرية بارزة.

أما على مستوى ولايات السودان السبعة عشر، فلم تعد الدعم السريع تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال وغرب كردفان، بالإضافة إلى جيوب محدودة في جنوب كردفان والنيل الأزرق. 

في حين تحتفظ بوجود أكثر استقرارا في أربع ولايات من إقليم دارفور، الذي يشهد منذ بداية النزاع نشاطا ميدانيا كثيفا للمليشيات المدعومة إماراتيا.

دور الإمارات

وقال الصحفي السوداني محمد نصر: إن "مدينة النهود، بما تحمله من قيمة عسكرية وجغرافية، ليست مجرد نقطة على الخريطة، سقوطها بهذه السرعة والدموية هو إعلان ضمني من الدعم السريع أن الحرب لم تنته، وأن مرحلة استرداد المدن قد بدأت".

وأوضح نصر لـ"الاستقلال" أنه "بعد شهور من التراجع الميداني، خصوصا في العاصمة الخرطوم، تحاول مليشيات حميدتي استعراض قوتها من جديد، واستعادة زمام المبادرة، ولو بالدم الغزير في كل شبر من السودان". 

وشدد على أن "ما يزيد من خطورة هذا التحول، ليس فقط استعادة الجنجويد لموقع إستراتيجي، بل امتلاكه لأسلحة نوعية جديدة غيرت ميزان القوة على الأرض".

ولفت نصر إلى أن "المليشيا بدأت تستخدم بشكل مكثف طائرات مسيرة مسلحة، أمدتها بها الإمارات، إلى جانب منظومات دفاع جوي وصلت عبر قنوات غير رسمية، مثل تشاد، وهو ما يفسر تراجع الغارات الجوية للجيش في بعض المناطق الحساسة، خاصة في دارفور وغرب كردفان". 

واستطرد: "هذه الأسلحة الجديدة منحت الدعم السريع قدرة غير مسبوقة على ضرب مواقع الجيش من مسافات آمنة، ليس فقط في الأطراف، بل حتى في قلب الخرطوم".

وأكد نصر أنه "لا يمكن قراءة معركة النهود بمعزل عن مجريات الحرب الكبرى، إنها رسالة مزدوجة إلى الداخل مفادها أن الدعم السريع ما زال فاعلا ومبادرا، وإلى الجيش بأن التفوق الميداني ليس محسوما، وأن المليشيا تملك القدرة على العودة في أي لحظة".

وأشار إلى أنه "في ظل استمرار تدفق الدعم الخارجي، خاصة من الإمارات وبعض الشبكات العابرة للحدود، لا يبدو أن الدعم السريع ينوي الانكفاء أو التراجع، بل يظهر في معاركه الأخيرة مصمما على إطالة أمد الحرب واستنزاف الجيش وتوسيع رقعة الفوضى".

ويرى نصر أنه “إذا استمر الدعم السريع في استغلال أسلحته الجديدة والدعم اللوجستي الخارجي، فإن جبهات جديدة قد تفتح، خاصة في كردفان والنيل الأزرق”. 

وتابع: “بينما يبقى الجيش مطالبا بإعادة تقييم إستراتيجياته الدفاعية والهجومية، فالحرب لم تعد تحسم بالعدد، بل بالتقنيات والسرعة والمعلومة”.

وختم نصر بالقول: “في ظل الصمت الإقليمي والدولي، يخشى أن يدخل السودان في مرحلة حرب المدن المتنقلة؛ حيث تتحول كل نقطة تماس إلى مسرح مفتوح للدمار، وتصبح البلد رهينة لتوازنات السلاح لا لسلطة الدولة”.