"خلطة سامة".. كيف أشعل صندوق النقد ثورة الشعب في كينيا؟
“المظاهرات الواسعة خرجت في 19 من أصل 47 مقاطعة في كينيا”
رغم أن “خلطة” صندوق النقد الدولي، أثارت احتجاجات وثورات في العديد من دول العالم وأثبتت فشلها في كثير من الأحيان، أصر رئيس كينيا، وليام روتو، أن يذيق شعبه "الطبخة السامة" ليرى بنفسه نتائجها التي قد تكلفه منصبه.
روتو الذي تعهد بعد فوزه في انتخابات 2022 ببرنامج لصالح الفقراء، وجد نفسه عالقا بين مطالب قوية لمقرضين مثل صندوق النقد الدولي، فلجأ لعكس ما بشر به.
رفع الرئيس الأسعار وزاد الضرائب ليحصل على مزيد من التمويل، وهو يعلم أن خطة الصندوق سامة، لأن السكان هم الذين يعانون من ارتفاع تكلفة المعيشة، فرد عليه شعبه بمظاهرات ضخمة واشتباكات وأصروا على الإطاحة به حتى بعدما تراجع.
أصبح حكم روتو مهددا لأنه لم يقرأ الغضب الشعبي خاصة من الجيل الجديد من الشباب الذين قادوا الثورة ضده عبر منصات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة.
إرهاصات الاحتجاج
في 25 يونيو/ 2024، وفي أعقاب قرارات برفع أسعار المواد الأساسية، وزيادة الضرائب بسبب إملاءات صندوق النقد الدولي والبنوك الدولية، شهدت كينيا احتجاجات عارمة وشبه ثورة شعبية احتجاجا على زيادة الأعباء عليهم.
واحتل الكينيون البرلمان وأحرقوه وسقط منهم 23 قتيلا، وعشرات المصابين برصاص الشرطة، ولايزالون يصرون على اقتحام القصر الجمهوري وإسقاط الرئيس.
المظاهرات في بدايتها كانت ضد زيادة الضرائب وغلاء الأسعار والفقر، ثم تحولت إلى ثورة شعبية عارمة ودعوات لإسقاط الرئيس، حيث قام المتظاهرون خلالها بإحراق البرلمان وبعض المرافق الحكومية وتحولت لمجازر في شوارع العاصمة نيروبي
وكان مشروع القانون الذي فجر الثورة الكامنة هو جمع ضرائب إضافية بقيمة 2.7 مليار دولار ضمن تحركات السلطة لخفض عبء الديون الثقيل، إذ تستهلك مدفوعات الفائدة وحدها 37 بالمئة من الإيرادات السنوية.
وتعاني كينيا، شأنها شأن كثير من الدول الإفريقية، من أزمة اقتصادية مريرة أدت إلى انخفاض قيمة "الشلن" الكيني بنسبة 22 بالمئة مقابل الدولار الأميركي منذ عام 2022، مما تسبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنقل والطاقة، في حين ظل الدخل على حاله إلى حد كبير.
مع هذا قدم صندوق النقد الدولي خلطته السامة لحكومة كينيا بضرورة رفع الأسعار وزيادة الضرائب لزيادة الإيرادات وخفض عجز الموازنة والاقتراض الحكومي.
ففي أبريل/ نيسان 2021 أقرض صندوق النقد، كينيا 2.34 مليار دولار، من أجل "إنعاش النمو في الاقتصاد والحد من نقاط الضعف المتعلقة بالديون"، مقابل برنامج إصلاح يستهدف زيادة الإيرادات.
وبسبب فشل البرنامج تم تمديده في يوليو/ تموز 2023 لمدة 20 شهرا، لكن السلطات استمرت فيه بقرارات زيادة الإيرادات بالضرائب ورفع الأسعار التي أثارت غضب الشعب.
وكينيا مدينة بنحو 6.7 مليارات دولار للصين، وفقا لتقارير صندوق النقد الدولي لعام 2022، وكانت مدينة بمبلغ 7.1 مليارات دولارات أخرى لحاملي السندات.
إضافة إلى 3.8 مليارات دولار للدول الصناعية، و3.5 مليارات دولار لبنك التنمية الإفريقي، و1.9 مليار دولار للبنوك التجارية الدولية، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" في 26 يونيو 2024.
ولتجنب العجز عن السداد، تضطر بلدان مثل كينيا ومصر، إلى اقتراض المزيد من الأموال، لتجد أن إجمالي عبء ديونها أصبح أثقل، وكلما زاد حجم الدين، قل ميل المقرضين إلى تقديم تمويل إضافي.
وقبل الثورة الشعبية، وافق البرلمان على مشروع القانون وقدمه لقراءة ثالثة ثم أحاله إلى الرئيس للتوقيع عليه، لكن الشعب ثار ولم يتحمل وأحرق البرلمان وهرب النواب بعد الهجوم عليهم داخل المؤسسة التشريعية.
خرجت المظاهرات الواسعة في 19 من أصل 47 مقاطعة في كينيا، حين أقر النواب مشروع قانون المالية في قراءته الثانية، ولم يلتفت البرلمان ولا الرئيس لحجم الغضب وانتقلوا للقراءة الثالثة والأخيرة.
اقتحم المتظاهرون مبنى البرلمان، وقاموا بتخريب مقتنياته الداخلية وإشعال النار في أجزاء من المجمع، كما تمت سرقة الصولجان الاحتفالي الذي يرمز إلى سلطة المجلس التشريعي".
وانطلقت حركة "احتلال البرلمان" على وسائل التواصل الاجتماعي عقب تقديم الحكومة مشروع ميزانية 2024-2025 إلى البرلمان في 13 يونيو 2024.
الميزانية الجديدة نصت على فرض ضرائب جديدة بينها ضريبة القيمة المضافة وتطبيقها بنسبة 16 بالمئة على الخبز، وفرض ضريبة سنوية بنسبة 2.5 بالمئة على السيارات الخاصة.
"الآن فهمتكم!"
الرئيس الكيني روتو، الذي ينتمي للتيار المسيحي الإنجيلي المتشدد، وحليف لأميركا، والمدافع بقوة عن إسرائيل، والداعم الوحيد لها من إفريقيا بعد "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هاجم المتظاهرين بعنف ووصفهم بـ"الخونة".
وأعطى أوامر للشرطة بالتعامل بعنف مع الشعب الغاضب، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والمصابين، وهددهم بنشر الجيش لإنهاء الاحتجاجات التي وصفها بـ"الخائنة".
وأكد رئيس الجمعية الدولية لحقوق الإنسان، وانجيري نديرو، لشبكة "بي بي سي" في 26 يونيو 2024 أن ما حدث خلال الاحتجاج "كان كما لو كنا في حالة حرب"، مؤكدا أن الشرطة “استخدمت الذخيرة الحية حتى قبل اقتحام البرلمان”.
واضطر الرئيس في نهاية المطاف، وبعدما تبين له أنها ليست احتجاجات عابرة، ولكن ثورة شبابية يقودها الجيل الجديد، الذي يعاني من عدم القدرة على المعيشة في ظل الغلاء والفساد وإنفاق السلطة ببذخ، إلى التراجع وإلغاء القرارات.
وقال على طريقة الحكام العرب الذين سقطوا في الربيع العربي "الآن فهمتكم"، ودعا إلى حوار مع الشباب الذين كانوا عماد الثورة ضده.
وفي 26 يونيو 2024 أعلن روتو أنه لن يوقع على مشروع "قانون المالية" الذي أثار الاحتجاجات الدامية في البلاد.
وأكد، أخيرا، أنه قرر “الاستماع باهتمام إلى شعب كينيا الذي قال بصوت عالٍ إنه لا يريد القانون”.
واستطرد روتو: "أؤكد أنني أتراجع، وبالتالي لن أوقع على مشروع القانون وسيتم سحبه من البرلمان".
وأضاف: "لقد تحدث الشعب وقال رأيه، وشهدت البلاد تعبيرا واسع النطاق عن عدم الرضا عن مشروع القانون".
فيما طالب المتظاهرون بإلغاء مشروع القانون بأكمله، وليس فقط أكثر بنوده إغضابا لهم، وهو ما وافق "روتو" على القيام به.
فقد كان مشروع القانون الأصلي يقترح فرض ضرائب على الخبز وزيت الطهي وخدمات تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول والمستشفيات المتخصصة والسيارات، وهي كلها نقاط قال الكينيون إنها ستؤدي إلى تفاقم أزمة تكاليف المعيشة.
إصرار على الإقالة
رغم تراجع الرئيس وحكومته عن قانون زيادة الضرائب والأسعار، استمرت الاحتجاجات الشعبية، وأعلنوا أنهم يطالبون الرئيس بالاستقالة وإبعاده وإجراء انتخابات جديدة.
ودعوا إلى مظاهرات كبيرة وأطلقوا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #tutanethursday، ويعني "أراك يوم الخميس" بمزيج من اللغة السواحلية والإنجليزية، وكان يقصدون "اليوم التالي" لإلغاء الرئيس القرارات.
وهناك هاشتاغ آخر استخدمه النشطاء هو unfollowRuto، الذي يشجع أبناء الشعب على إلغاء متابعة الرئيس على منصة "إكس" من أجل الضغط عليه للتخلي عن مشروع القانون، ومواصلة الاحتجاجات.
ورغم تقلص الاحتجاجات والمظاهرات بعد تراجع الرئيس، تم رفع سقف المطالب بتنحي الرئيس عن السلطة جراء الدماء التي سقطت في الاحتجاجات، بعدما كانت تقتصر هذه المطالب سابقا على إلغاء القانون.
وقال منتقدو روتو إنه يطالب الشعب بشد الأحزمة على البطون بينما هو فاسد "دائم السفر بالطائرات الكبيرة" المُكلفة لموازنة الدولة، وأطلق عليه منتقدوه لقب "الرئيس الطائر"، داعين إلى "إصلاح سياسي".
فيما برر أن زياراته الخارجية "ضرورية لجذب الاستثمارات إلى الدولة التي تعاني من ضائقة مالية"، لكنهم قالوا إنه يطالبهم هم فقط بالتضحية على طريقة حكام العالم الثالث الديكتاتوريين، ما اضطره لإعلان تخفيضات شكلية في نفقات حكومته.
واتهمه المتظاهرون والمعارضون بالخضوع للمؤسسات التي يقودها الغرب- مثل صندوق النقد الدولي- ومطالبها التي تستنزف البلاد لمجرد تسهيل الحصول على قرض، لسداد قروض سابقة.
وتشير صحف أجنبية أنه رغم تراجع روتو حتى يستوعب الاحتجاجات، سيظل عالقا بين مطالب المقرضين مثل صندوق النقد الدولي، وبين الشعب الذي يعاني من ارتفاع تكلفة المعيشة.
وبعد بدء الاحتجاجات، أعلنت الحكومة في 18 يونيو 2024، التراجع عن معظم إجراءات الضرائب، غير أن المتظاهرين واصلوا تحركهم مطالبين بسحب كامل للموازنة والتراجع عن كل الضرائب المقررة، خوفا من أن الحكومة ستقوم بفرض ضرائب بأشكال أخرى منها زيادة الوقود بنسبة 50 بالمئة.
وتحول التحرك الذي بدأه أساسا شباب إلى حركة احتجاجية واسعة تنتقد سياسات الرئيس روتو، ومطالبات برحيله، رغم تراجعه والاستجابة لمطالبهم.
وكان لافتا في قرارات الرئيس الكيني وهو يعلن التراجع عن القرارات الاقتصادية التي أثارت الشعب ضده، تأكيده أنه "سيدخل في حوار مع الشباب"، الذين كانوا في طليعة أكبر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد منذ انتخابه عام 2022.
فالتراجع الذي قام به كان مدفوعا في نهاية المطاف بغضب الشباب بعدما أدرك بنفسه أن شباب كينيا هم الذين أشعلوا النار.
وتتمتع كينيا، مثل غالبية دول إفريقيا بأصغر سكان العالم سنا، وما يقرب من ثلاثة أرباع المواطنين تقل أعمارهم عن 35 عاما، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.
وتظاهر العديد من الشباب للمرة الأولى وحملوا لافتات كُتب عليها: "لا تفرضوا علينا الضرائب"، فيما هتف آخرون "روتو، يجب أن يرحل".
وللضغط على النواب وحشد المتظاهرين كانت الشعارات المستخدمة من جانب هؤلاء الشباب على مواقع التواصل هي: "احتلوا البرلمان"، و"ارفضوا فاتورة التمويل 2024".
وجوه جديدة
موقع "بي بي سي" الإفريقي باللغة الفرنسية رصد دور هؤلاء الشباب في تقرير نشره في 27 يونيو 2024 بعنوان “من هي الوجوه الجديدة للاحتجاج في كينيا؟”
وأشار إلى "ظهور جيل جديد جريء من المتظاهرين الكينيين الشباب في الشوارع، أجبر الحكومة على تعديل مسارها بشأن سلسلة من المقترحات الضريبية التي لا تحظى بشعبية".
وأوضح أن "شرارة الغضب التي اندلعت على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة الشباب، بسبب مشروع قانون الميزانية المثير للجدل، تحوّلت إلى بركان ثورة دون مشاركة الأحزاب".
التقرير أشار إلى ظهور الجيل "Z" من الشباب، في إشارة إلى المصطلح المستخدم عموما لوصف الأشخاص الذين وُلدوا أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بأعداد كبيرة، ويتجاوز سخطهم الهاشتاغات إلى الشارع.
ونقل الموقع عن المتظاهرة "زها إنديمولي" قولها للصحفيين: "نحن الجيل زد، لقد تمكنا من التعبئة، نستخدم منصة تيك توك كمساحة لا تسمح للشباب بالحضور والتظاهر فحسب، بل أيضا لشرح سبب الاحتجاج لهم".
وقد واجهت الشرطة صعوبة في استهداف الأشخاص المشاركين في المظاهرة، لكونها لا تعرف بشكل واضح المجموعة المُحركة التي تقف وراءها، وفق موقع "بي بي سي" الإفريقي.
واعتقلت السلطات الكينية أكثر من 200 متظاهر شاب، لكن تم إطلاق سراح بعضهم بعد تدخل محامين ومنظمات حقوقية.
ومما ساعد في نجاح الاحتجاجات أنها كانت على عكس الاحتجاجات السياسية السابقة المناهضة للحكومة، بدون ذكر أي انتماء سياسي أو عرقي، حيث كان المتظاهرون ببساطة مصممين على إسماع صوتهم الرافض للسلطة.
وكان أحد التكتيكات التي أجبرت نواب البرلمان الكيني على الانتباه لخطورة الوضع هو قائمة أرقام هواتفهم، التي قام الشباب بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي مع رسالة "أرسل رسالة نصية إلى النائب الخاص بك.
النائب ستيفن مولي قال لوسائل إعلام محلية إن هاتفه تلقى 30 ألف رسالة من شباب يطلبون منه رفض مشروع القانون.
واشتكى نواب آخرون من أن هواتفهم أصبحت غير صالحة للاستخدام تقريبا بسبب عدد الرسائل التي يتلقونها.
وتحولت وسائل الإعلام المحلية لمنصة لما يجرى عبر الإنترنت من مناقشات واحتجاجات، مما أدى إلى تضخيم أصوات الاحتجاج.
ودعا الحقوقي الكيني كيفوثا كيبوانا، عبر منصة "إكس"، سلطات بلاده إلى الحوار مع الشباب، مؤكدا أن "أخطر ما تفعله الحكومة هو إعلان الحرب على شبابها".
وتخشى الحكومة منذ فترة طويلة من إمكانية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التظاهرات، ودعت الجهات التنظيمية إلى ممارسة رقابة أكثر صرامة خاصة مع انتشار المجموعة المعروفة باسم الكينيين (KOX) على "إكس".
والمجموعة تشتهر بإدانتها لما يعانيه الشعب من أوضاع اجتماعية صعبة، علما أن كينيا هي واحدة من الدول التي لديها أعلى معدل لاستخدام "تيك توك" في العالم.
وسبق أن هدد وزير الداخلية بتقييد استخدام "تيك توك"، واتهمه بنشر محتوى ضار، لكن المتظاهرين أكدوا أنهم ليس لديهم أي نية للتراجع، وأنهم غير خائفين، وهذه مجرد بداية الثورة"، حسبما قالوا عبر منصات التواصل الاجتماعي.