أعمال بناء متسارعة قرب مفاعل ديمونا النووي.. ماذا تفعل إسرائيل؟

أي حادث تسرب أو ضربة عسكرية أو حتى خلل فني داخلي قد يحول المنطقة إلى مسرح كارثة إشعاعية عابرة للحدود
بينما تنشغل المنطقة بالإبادة الإسرائيلية في غزة والتصعيد المفتوح مع إيران ولبنان والخلافات التي تطل برأسها مع مصر وتركيا، يطل من صحراء النقب تهديد آخر، لكنه يتوارى خلف جدران الخرسانة، متمثلا في مفاعل ديمونا النووي.
الصور الأخيرة التي كشفتها وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية في 3 سبتمبر/ أيلول 2025، أظهرت أعمال بناء متسارعة قرب المفاعل القديم تعيد إلى الواجهة سؤالا ظل مطروحا منذ عقود، ماذا يعني امتلاك إسرائيل ترسانة نووية في قلب الشرق الأوسط المشتعل؟
والخطر هنا ليس افتراضيا أو بعيد المدى، فالمفاعل القائم منذ ستينيات القرن العشرين يجاور جغرافيا أربع دول عربية على خط التماس المباشر، مصر والأردن ولبنان وسوريا.
وأي حادث تسرب أو ضربة عسكرية أو حتى خلل فني داخلي قد يحول المنطقة إلى مسرح كارثة إشعاعية عابرة للحدود، تفوق في تداعياتها ما عاشه العالم في تشيرنوبل الأوكراني أو فوكوشيما الياباني.
في هذه الدول، حيث الكثافة السكانية العالية وموارد المياه المشتركة، ستكون آثار أي انفجار أو تسرب نووي مضاعفة، من تدمير الزراعة وتسميم المياه الجوفية إلى تشريد ملايين البشر.
مفاعل جديد
وتظهر صور الأقمار الصناعية الجديدة مشهدا مختلفا لكنه شديد الترابط مع هذا الصراع المتفجر، أعمال بناء مكثفة داخل مركز شمعون بيريز للأبحاث النووية في ديمونا، قلب البرنامج النووي الإسرائيلي السري منذ ستة عقود.
الصور التي التقطتها شركة "بلانيت لابز" وحللها خبراء في منع الانتشار النووي، لـ "أشوشيتد برس"، أظهرت حفرة عملاقة باتت اليوم مغطاة بجدران خرسانية سميكة، تمتد على عدة طوابق تحت الأرض، مع رافعات تشير إلى عمل متواصل.
وبرغم غياب قبة احتواء نووية – التي عادة ما تميز مفاعلات الماء الثقيل – فإن طبيعة الموقع وقربه من المفاعل القديم في ديمونا جعلت أغلب الخبراء يرجحون أن إسرائيل تبني مفاعلا نوويا جديدا أو منشأة لتجميع الرؤوس الحربية.
الحدث ليس تقنيا بحتا، فإسرائيل التي تنكر أو تؤكد امتلاكها السلاح النووي، تتهم منذ عقود بالاعتماد على مفاعل الماء الثقيل في ديمونا لإنتاج البلوتونيوم والتريتيوم، المادتين اللتين تشكلان عماد ترسانتها الذرية.
ووفق تقديرات "نشرة علماء الذرة"، فإنها تمتلك نحو 90 رأسا نوويا، لكن بناء منشأة جديدة يثير تساؤلات أبعد، هل تسعى تل أبيب فقط إلى تجديد بنيتها المتهالكة التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي، أم أنها بصدد إعادة صياغة معادلة الردع النووي في الشرق الأوسط؟
هذا السؤال يكتسب وزنا مضاعفا إذا ما وضعنا التطور الأخير في سياقه السياسي والعسكري.
فإسرائيل، التي قصفت مع واشنطن مفاعل أراك الإيراني قبل أشهر بحجة منع طهران من إنتاج قنبلة نووية، تمضي في المقابل بهدوء في تعزيز قدراتها السرية، خارج أي رقابة دولية، كونها من الدول القليلة التي لم تنضم إلى معاهدة حظر الانتشار النووي.
إنها المفارقة التي تجعل خطابها حول "الخطر النووي الإيراني" يبدو مزدوج المعايير، وتفتح الباب أمام موجة انتقادات دولية قد تتصاعد قريبا.

ما المنشأة الجديدة؟
الخبراء يختلفون حول طبيعة المنشأة، لكنهم يتفقون على دلالاتها الإستراتيجية، فإنتاج البلوتونيوم يعني إمكانية زيادة عدد الرؤوس النووية، بينما إنتاج التريتيوم يمنح القدرة على إطالة عمر الترسانة الحالية وتعزيز قوة تفجيرها.
حيث رجح ثلاثة خبراء للوكالة الأميركية، أن يكون الموقع مفاعلا جديدا يعمل بالماء الثقيل، القادر على إنتاج البلوتونيوم، وهو المادة الأساسية في صناعة القنابل النووية.
أربعة خبراء آخرون رأوا أن الموقع ربما يكون منشأة لتجميع أو صيانة الرؤوس النووية، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة بسبب سرية المشروع.
جيفري لويس، العالم بمركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار النووي، قال: "من الصعب تخيل أن يكون شيئا آخر غير مفاعل نووي".
أما إدوين ليمان، عضو اتحاد العلماء المعنيين، بماساتشوستس، في الولايات المتحدة الأميركية، أشار إلى احتمال تصميم مفاعل "صندوقي" بلا قبة مرئية، لافتا إلى أن غياب الشفافية الإسرائيلية يدفع الخبراء إلى التكهن أكثر مما يسمح بالتحقق.
وفي كل الحالات سوف تكون النتيجة واحدة، تثبيت التفوق النووي الإسرائيلي في مواجهة خصومها الإقليميين.
فمنذ أن اختارت تل أبيب سياسة "الغموض النووي" في ستينيات القرن الماضي، كانت تلك الورقة سلاح ردع ضمنيا في معاركها المتكررة مع الجوار العربي. لكن ما يجري اليوم في ديمونا قد ينقل هذه السياسة إلى مستوى جديد، فمع تصاعد الحرب في غزة، وامتداد التوتر مع إيران إلى ضربات متبادلة على مواقع حساسة، يبدو أن إسرائيل تتحضر لتثبيت معادلة ردع نووي أشد وضوحا، وربما أكثر جرأة.
وفي ظل غياب أي تفتيش دولي أو التزام بمعايير الشفافية، يبقى السؤال مفتوحا، هل يمثل البناء الجديد في ديمونا مجرد محاولة لإطالة عمر المفاعل القديم، أم أنه إشارة إلى دخول إسرائيل سباق تسلح نووي إقليمي جديد، يعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط المشتعل؟

معلومات عن ديمونا
ويوصف مفاعل ديمونا بأنه العصب الأهم في برنامج إسرائيل النووي الغامض، المشروع الذي بدأ في أواخر الخمسينيات تحت لافتة "توليد الطاقة للنقب" لم يكن سوى ستار لمخطط إستراتيجي صاغته تل أبيب بدعم فرنسي مباشر، حيث نقلت باريس سرا مواد خاصة عبر سلاحها الجوي، فيما توّلت ألمانيا الغربية المشروع بقرض ضخم بلغ نصف مليار دولار عام 1961.
على الأرض، شارك أكثر من 1500 عالم ومهندس في بناء المفاعل، بينما استوردت إسرائيل الماء الثقيل من النرويج، ليصبح الركيزة الأساسية لإنتاج البلوتونيوم والتريتيوم، المادتين اللتين تستخدمان في صناعة القنابل الذرية.
ورغم أن إسرائيل لم تعلن رسميا امتلاكها للسلاح النووي، فإن سياسة "الغموض النووي" التي تبنتها منذ الخمسينيات باتت عنوانا صريحا للإخلال بتوازن الردع في المنطقة لصالحها.
ووفق تقديرات "نشرة العلماء الذريين" عام 2022، تمتلك إسرائيل نحو 90 رأسا نوويا على الأقل، بينما كشف الجاسوس الشهير موردخاي فانونو (فني نووي إسرائيلي وناشط سلام) في ثمانينيات القرن الماضي أن مفاعل ديمونا أنتج بالفعل عشرات الرؤوس النووية.
وداخل أسوار المفاعل، تتوزع معاهد سرية تشي بقدراته الاستثنائية، "المعهد 2" الممتد لستة طوابق تحت الأرض حيث تتم عملية إنتاج البلوتونيوم وغرف التحكم، و"المعهد 3" المسؤول عن تصنيع قضبان الوقود، و"المعهدان 8 و9" لتخصيب اليورانيوم بما في ذلك باستخدام الليزر، فيما يتكفل "المعهد 4" بمعالجة النفايات المشعة وإنتاج التريتيوم.
قدرة المفاعل التي لا تتجاوز 24 ميغاوات تكفي، وفق خبراء، لإنتاج ما يقارب عشر قنابل نووية كل عام.
وعلى الصعيد العسكري، ظل المفاعل هدفا إستراتيجيا في أي حرب إقليمية؛ إذ وضعت مصر والاتحاد السوفيتي خططا لقصفه عام 1967، وتخشى إسرائيل اليوم من استهدافه بصواريخ إيرانية أو من حزب الله، خاصة في ظل هجوم إسرائيل على المفاعلات النووية الإيرانية خلال منتصف 2025.
ولهذا، عززت تل أبيب إجراءاتها الأمنية بدرجة غير مسبوقة، منها منع كامل لاستخدام الهواتف أو الإنترنت داخل الموقع، منظومات تشويش متقدمة ضد أي محاولة تجسس.

أخطار ديمونا
لكن الوجه الآخر لهذا العملاق النووي الذي تقوم إسرائيل بتحديثه باستمرار، مع أخبار تدشين منشأة نووية جديدة، يكشف عن كوارث بيئية وصحية لا تقل خطورة عن ترسانته العسكرية.
خاصة أن إسرائيل أقدمت على تجارب سرية على "القنابل الإشعاعية" في صحراء النقب بين 2010 و2014 ضمن مشروع عرف باسم "الحقول الخضراء".
وقد رصدت هيئة الأطباء الدوليين للحد من الحرب النووية، في 25 فبراير/ شباط 2014، تسريبات إشعاعية وصلت إلى محافظات أردنية مثل الكرك والطفيلة ومادبا، وحتى إلى تبوك في السعودية، وأثرت على المياه الجوفية في ليبيا.
وبحسب مركز "بتسليم" المعني بتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، فإنه كشف في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2017 قيام إسرائيل بدفن نفايات نووية في غزة.
وأنها قامت أيضا بنقل بعضها إلى الضفة الغربية، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير طبية وجود آثار بيولوجية خطيرة على سكان محيط المفاعل والأسرى في سجون النقب ونفحة وإيشل وريمون.
ورغم أن مفاعل ديمونا قائم في عمق صحراء النقب، إلا أن تهديداته المباشرة لا تتوقف عند حدود إسرائيل، فالمسافة الفاصلة بينه وبين الأراضي المصرية تكاد تكون رمزية، 70 كيلومترا فقط عن محور نيتسانا، 91 كيلومترا عن معبر رفح، و169 كيلومترا عن طابا، فيما لا تبعد القاهرة نفسها سوى 389 كيلومترا.
هذه الأرقام تعني أن أي حادث نووي أو استهداف عسكري للمفاعل سيجعل من شمال سيناء خط المواجهة الأول مع الكارثة.

سيناريوهات قاتمة
وفي دراسة أصدرها مركز الحبتور في 22 يونيو/ حزيران 2025 تحت عنوان "ماذا لو هاجمت إيران ديمونا؟" رسمت سيناريو قاتما، سيناء قد تواجه مستويات متوسطة إلى شديدة من التلوث الإشعاعي، بما يهدد حياة نحو خمسين ألف مواطن يقيمون في مناطق تقع ضمن نطاق الخطر المباشر.
ولم تكتف الدراسة بذكر سيناء، بل أشارت إلى أن القاهرة والمدن القريبة ستتأثر أيضاً، وإن بدرجة أقل، في حين قد تتعرض قناة السويس لضرر بالغ يشلّ أحد أهم الشرايين البحرية العالمية.
المخاوف لم تتوقف عند مصر، ففي 20 يونيو 2025، كشف موقع "ناتسيف نت" العبري – نقلا عن عسكريين إسرائيليين – أن مصر ستكون "أكبر الخاسرين" في حال قصفت إيران مفاعل ديمونا.
وبعدها بأيام قليلة، في 25 يونيو، أعاد المشهد إلى الواجهة الموقف اللبناني حين أعلن رئيس الحكومة نواف سلام: "لا نريد سلاحا نوويا في الشرق الأوسط". وبحسب رئيس الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية بلال نصولي، فإن التلوث النووي القادم من إيران سيستغرق خمسة أيام ليصل إلى لبنان، بينما يحتاج يوما واحدا فقط في حال كان مصدره مفاعل ديمونا.
أما الأردن، الأقرب جغرافيا إلى النقب، فيعيش حالة قلق متصاعد، فمع غياب الملاجئ النووية أو خطة وطنية متكاملة لمواجهة التسربات الإشعاعية، يجد الأردنيون أنفسهم أمام سيناريو قاتل، سحب مشعة تنزلق بسرعة عبر الحدود، دون أن تمتلك الدولة وسائل حماية كافية لاحتواء الكارثة.
وفي ظل تصاعد الحرب والضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، يتحول هذا الاحتمال من مجرد تقدير نظري إلى تهديد حاضر يثقل حسابات الأمن الوطني في عمان.
هكذا، يخرج مفاعل ديمونا من كونه مجرد منشأة إسرائيلية "غامضة" إلى خطر عابر للحدود، يجعل من مصر ولبنان والأردن، ومعها قناة السويس وموارد المياه الإقليمية، رهائن لأي خطأ تقني أو مواجهة عسكرية تضع ديمونا في مرمى النيران.
المصادر
- Construction intensifies at site linked to Israel’s suspected nuclear program, satellite photos show
- ما حجم الدمار والضرر الذي سيحصل بحال هجوم أو انفجار بمفاعل ديمونة؟
- التلوث النووي من مفاعل ديمونة الإسرائيلي وصل للمياه الجوفية على حدود ليبيا… وتبوك في السعودية والطفيلة والكرك ومادبا في الأردن وجنوب الضفة الغربية ملوثة بنسب مرتفعة جدا
- لبنان "يتحضّر" لسيناريو انفجار ديمونا منذ العام 2012
- هل تتأثر مصر بضرب إيران لمفاعل ديمونة الإسرائيلي؟.. رئيس هيئة الرقابة النووية يجيب