رغم مليارات الدعاية.. إسرائيل تتلقى ضربات قاسمة بالمهرجانات الفنية العالمية

إسماعيل يوسف | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في مشهد يعكس خسارة إسرائيل معركة الصورة، تحولت العديد من المهرجانات الفنية العالمية أخيرا إلى منصات احتجاجات سياسية تدين عمليات الإبادة والتجويع في قطاع غزة.

فقد حركت صور جرائم الحرب والتجويع الإسرائيلية بحق أهالي غزة الضمير العالمي وغيرت الرأي العام لتخرج مظاهرات واحتجاجات غير عادية، تطالب بوقف العدوان، وانتقلت أخيرا من الشوارع إلى الفعاليات على اختلاف أشكالها وآخرها الفنية.

وحاولت تل أبيب منذ بداية الحرب تشكيل صورة زائفة لما يجرى بزعم أنها ضحية هجوم حركة المقاومة الإسلامية حماس، وأن مشاهد الإبادة والتجويع غير صحيحة، لكن ذلك لم ينطلِ على أحرار العالم الذين رأوا على مدار 23 شهرا جرائم إسرائيل عبر البث المباشر.

السينما تدين إسرائيل

وفي افتتاح مهرجان فينيسيا (مدينة البندقية الإيطالية) السينمائي، 30 أغسطس/آب 2025، تحول هذا الحدث العالمي إلى مظاهرة ضخمة شارك فيها الآلاف تضامناً مع الفلسطينيين، والدعوة لمقاطعة إسرائيل.

ونجح رواد المهرجان ولأول مرة، في إجبار إدارته، ليس فقط على منع السينمائيين الإسرائيليين من حضوره، بل وإعلان بيان رفض لما يفعله الاحتلال في غزة.

إذ شهد المهرجان توجيه رسائل مفتوحة تدين الحرب الإسرائيلية على غزة، وبيانات من ألف شخصية سينمائية عالمية بارزة، ومطالب بسحب دعوات لممثلين بسبب مواقفهم المؤيدة للعدوان.

وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في 30 أغسطس: “أدت التظاهرة المؤيدة للفلسطينيين خلال مهرجان البندقية السينمائي الدولي الثاني والثمانين إلى تحويل الانتباه عن الحدث الضخم وتوجيهه بدلاً من ذلك نحو الأزمة الإنسانية في قطاع غزة”.

نظم نحو 5000 محتج مسيرة قرب السجادة الحمراء، ورددوا شعارات مثل "من النهر إلى البحر" و"فلسطين حرة"، ورفعوا لافتات تطالب بوقف المجازر والمجاعة عن غزة.

حولوا تركيز مهرجان البندقية السينمائي عبر نقل الأضواء من السجادة الحمراء إلى الأزمة الإنسانية في القطاع، وذلك من خلال مظاهرات شارك فيها عشرات المنظمات السياسية والشعبية الإيطالية تحت عنوان "أوقفوا الإبادة الجماعية - حرروا فلسطين".

ووقع نحو ألفي شخص من بينهم ممثلون وشخصيات من صناع السينما على رسالة مفتوحة من “مجموعة البندقية من أجل فلسطين" التي أسسها 10 مخرجين إيطاليين مستقلين، تدعو المهرجان “أن يكون أكثر شجاعة ووضوحا في إدانة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الإسرائيلي في فلسطين”.

وحثوا المنظمين على سحب الدعوات الموجهة إلى الممثلين جيرارد بتلر وغال غادوت بسبب دعمهما السابق لإسرائيل، ما انتهى بغيابهما فعليا عن المهرجان بسبب الانتقادات.

وقالت الممثلة الإيطالية تيكلا إنسوليا لصحيفة "كورييري" إن استبعاد الممثلة الإسرائيلية غادوت "هو الحد الأدنى الذي يجب أن نطلبه من أولئك الذين يؤيدون الإبادة الجماعية علناً وهذا لا يعد تمييزًا".

وكان عرض فيلم "صوت هند رجب" ضمن المسابقة الرسمية في 3 سبتمبر/أيلول 2025، الذي يتناول قصة استهداف الاحتلال طفلة فلسطينية في السادسة من العمر مع أفراد عائلتها ومسعفين بعشرات الرصاصات، أقوى في رسالته الدعائية ضد الاحتلال.

ودفع هذا صحيفة "الغارديان" البريطانية للقول، في 27 أغسطس: إن "إسرائيل تخسر معركة الرأي العام بسبب حجم الضحايا المدنيين وصور غزة التي لا يمكن إنكارها”.

كما أوضحت صحيفة "واشنطن بوست"، أن إسرائيل "عزلت نفسها أخلاقيًا رغم دعم البيت الأبيض العسكري والسياسي".

ولم يكن مهرجان فينيسيا فقط الذي تأثر سياسيا بحرب غزة وانتهى بخسارة تل أبيب "حرب الصورة" أمام جحافل المتظاهرين ضدها.

فقد شهد مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية (IDFA 2023)، ديسمبر/كانون الأول 2024، احتجاجات تطالب بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها.

وخلال افتتاحه اقتحم ناشطون المنصة وهتفوا: "من النهر للبحر.. فلسطين حرة"، وانسحب عدد من صانعي الأفلام بعد موقف إدارة المهرجان منع هذا الشعار الاحتجاجي ضد إسرائيل.

وعرض المهرجان أفلامًا وثائقية، وثقت المعاناة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة، ما سلط الضوء على الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية وجهود مقاطعة إسرائيل.

وألغي مهرجان مومباي السينمائي (الهند 2024–2025) فعاليات "مهرجان إسرائيل السينمائي" داخله بعد حملة توقيعات من نجوم سينما محليين استنكارًا للعدوان الإسرائيلي.

كما اُلغى مهرجان قرطاج السينمائي (تونس 2023) كليًا تضامناً مع الفلسطينيين في غزة.

واضطر مهرجان برلين السينمائي عام 2024، لاستبدال شعار المهرجان في حسابه الرسمي ليزعم دعمه لغزة، بعدما أعلن فنانون وعمال تضامنهم مع القطاع وطالبوا بوقف إطلاق النار، ثم سحب إدارة المهرجان الشعار رسميًا واعتُبر “قرصنة”.

وكان ما جرى في مهرجان غلاستونبري، يونيو/حزيران 2025، وهو أحد أبرز الفعاليات الموسيقية الصيفية في المملكة المتحدة، مؤشرا آخر بعد أن تحولت بعض عروضه إلى منبر لهتافات سياسية أطلقها الجمهور وصلت لحد الهتاف لقتل الجيش الإسرائيلي بسبب المجازر ضد الفلسطينيين.

فخلال عرض فرقة "بوب فايلان" الإنجليزية، ردد الجمهور هتافات من أبرزها: "الموت للجيش الإسرائيلي" و"حرروا فلسطين"، في أداء بثته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” مباشرة عبر منصتها الرقمية "آي بلاير"، مما أثار ضجة.

كما ظهرت فيديوهات تُظهر أعضاء الفرقة وهم يهتفون “تحيا حماس، يحيا حزب الله” اللبناني.

حرب الصورة

اعتادت إسرائيل كسب "حرب الرواية" عبر الإعلام الغربي والحملات الدعائية الموجهة للخارج (الهاسبارا)، لكن في حرب غزة الأخيرة تفوقت صور الضحايا القتل والمجاعة على الدعاية الإسرائيلية الكاذبة، وباتت أقوى من الخطاب السياسي، ليؤيد الرأي العام العالمي الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى. 

كثير من التحليلات الإعلامية الغربية أكدت أن إسرائيل تخسر "حرب الصورة" أو "حرب الرأي العام" نتيجة مشاهد الإبادة والدمار في غزة، رغم امتلاكها أدوات دعائية ضخمة.

أوضحت أن إسرائيل تواجه خسارة متسارعة في الرأي العام العالمي، حيث تبدو الدعاية الرسمية (البروباغندا)، أو ما يُعرف في العبرية بـ"الهاسبارا"، عاجزة عن مواجهة صور المجاعة والدمار والضحايا المدنيين التي تتدفق يومياً عبر شاشات العالم، ما أدى إلى انهيار سردية تل أبيب.

وقد اعترفت تل أبيب بذلك، حين خصصت حكومة بنيامين نتنياهو 150 مليون دولار إضافية في موازنتها لتمويل ما تسميه "حملات شرح الموقف الإسرائيلي للعالم"، وهو مبلغ يعادل 20 ضعفاً مما كان مخصصاً في السنوات السابقة، وفق صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" 29 ديسمبر 2024.

ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، هذه الجهود الدعائية بأنها جزء من "حرب الوعي"، وأكد أنه سيوظف الميزانية في حملات إعلامية دولية، ونشاط مكثف على منصات التواصل الاجتماعي، وبرامج خاصة في الجامعات الأميركية "لمواجهة المد المتزايد من التضامن مع الفلسطينيين".

لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية، رغم مليارات الدولارات التي تُنفقها الحكومة على حملات “الهاسبارا”، فقد أظهرت تقارير متعددة أن الخطاب الإسرائيلي فقد فعاليته عالمياً.

وتركز بـ “الهاسبارا” على تحسين وتبييض صورة تل أبيب عالميًا وتقديم رواياتها الرسمية في الإعلام والجامعات ومراكز الفكر، وتبرير جرائمها بما يُسمى: "مكافحة الإرهاب" و"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".

وأدوات الهاسبارا، هي المتحدثين الرسميين مثل أفيخاي أدرعي بالعربية، ومتحدثين بالإنجليزية وجيوش إلكترونية منظمة للترويج للرواية الإسرائيلية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

أما اللوبيات، فهي مثل منظمة أيباك في الولايات المتحدة، التي تدعم الرواية الإسرائيلية وتؤثر في السياسات، بجانب تنظيم رحلات "تجربة إسرائيل" لإعلاميين وسياسيين منهم نواب في برلمانات العالم.

ومن أدوات البروباغندا الإسرائيلية أيضا استغلال الفن والثقافة، أي محاولة تلميع صورة إسرائيل عبر السينما، مهرجانات الموسيقى، أو إبرازها كدولة "تكنولوجيا وابتكار"، وهي الصورة التي انهارت في مهرجانات السينما والموسيقى الأخيرة.

وقد أوضح "مات ليب"، مقدم بودكاست Bad Hasbara، في مقطع فيديو نشره على إكس، أن الإستراتيجية الإسرائيلية تعاني مأزقاً جوهرياً.

قال: "يمكنك أن تقنع الحكومات الغربية بدعم إسرائيل، لكنك لا تستطيع أن تقنع الناس العاديين الذين يرون المجازر بأعينهم.

وأكد أنه "كلما حاولت إسرائيل تبرير الفظائع، زاد إدراك الجمهور أنها مجرد دعاية صرفه".

ووصف "ليب" مراهنة حكومة الاحتلال على المشاهير والمؤثرين لدعمها، بأنها "عقيمة" لأن "الناس لا يبنون قناعاتهم الأخلاقية أو السياسية بناء على ما يقوله هؤلاء".

وقد حذر موقع "NZZ" السويسري المستقل، 29 أغسطس 2025، من أن "إسرائيل تواجه خطر خسارة الحرب الدعائية"، مؤكدا أنها تجد صعوبة في ترويج روايتها للأحداث في غزة. 

أوضح أنها "تتعرض لضغوط في حرب الدعاية بشأن غزة، والسبب هو صور المعاناة والدمار التي حولت صورة إسرائيل من "دولة صغيرة مُهددة" إلى أخرى "مُعتدية متعجرفة".

وقد أكد هذا الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مقابلة مع صحيفة "دايلي كولر" مطلع سبتمبر/أيلول 2025، حذر فيها من أن استمرار الحرب على غزة يضر بإسرائيل دعائيًا، مشددا على أنها تخسر معركة الرأي العام العالمي (حرب الصورة) ما سيضر بمصالحها الإستراتيجية على المدى البعيد.

وأردف ترامب: بالرغم من تقدم إسرائيل عسكرياً في غزة، إلا أنها "تخسر معركة العلاقات العامة"، أي حرب الصورة، و"سيضطرون لإنهاء الحرب ولا شك أنها تضر بهم".

وقال إن إسرائيل كانت تملك أقوى لوبي شاهده طوال حياته السياسية في أميركا، لكنه لم يعد يتمتع بالقوة نفسها اليوم، وتراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، بعدما كان يتمتع بسيطرة شبه كاملة على الكونغرس. 

وانعكس الفشل في "حرب الصورة" أيضا على تآكل الدعم الغربي الرسمي، بعد الشعبي، في صورة إعلان أكثر من 15 دولة غربية اعتزامها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر 2025.

وسبقه تعزز موجات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل وتعرض العديد من المرشحين في انتخابات الكونغرس لحملة انتقادات حادة من مرشحيهم في مهرجاناتهم الانتخابية واتهامهم بتقاضي أموال من تل أبيب.

أسباب الخسارة 

يري الخبير في الإعلام والاتصال التنموي الدكتور أحمد لبيب، أن أهم ما حققته "معركة الرواية" هو خسارة إسرائيل الدعاية المكثفة التي قامت عليها بصفتها "واحة للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" في المنطقة العربية.

أوضح لـ "الاستقلال" أن "الهمجية الصهيونية ومن يدعمها من سدنة الاستبداد في عالمنا كشفت زيف الصورة التي لطالما رسمها الإعلام الصهيوني واللوبي الداعم له بأنها أول دولة ديمقراطية فيما يسمى بالشرق الأوسط الكبير".

وأشار إلى أن هدم هذه الصورة التي جرى رسمها لإسرائيل على مدار عقود، بعد افتضاح جرائمها وصور الإبادة الجماعية والتجويع في غزة، والذي كان هدفه دعم محاولات دمجها والتطبيع الرسمي والشعبي مع كيانها المغتصب للحقوق الفلسطينية "انهارت".

لفت إلى أن المفارقة أن "أول من أسقط هذه السردية الزائفة هي الشعوب الأوروبية والغربية والمجتمع المدني المؤطر لحراكها السلمي بعد ما روعتهم مخلفات الآلة العسكرية الهمجية لإبادة شعب قرر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن يقاوم دفاعا عن بقائه وحقوقه التاريخية".

ولأن السينما والفن والحريات الثقافية لا تنتعش وتبدع إلا في أجواء الحرية، فقد عبر فنانون عالميون بأفلامهم الطويلة والقصيرة عن حراك شعوبها على عكس تماما الشعوب العربية التي يرزح معظمها تحت الاستبداد القميء مما جعل حراكها خافتا باهتا.

ويشدد الدكتور "لبيب" على أن الرابح في "سردية" معركة طوفان الأقصى، في عالمها الثالث، هو الشعب الفلسطيني، والخاسر هو العدوان ومن يقف معه داعما ومؤيد.

أضاف أن "تاريخ النضال من أجل التحرر يؤكد السردية المقابلة بأن الشعوب الحية هي من تحرر أرضها بيدها لا بيدي غيرها وكل ما هو مطلوب، العمل على دعم الفلسطينيين وصمودهم في وجه البربرية الصهيونية".

وتشير تقارير غربية إلى أن من أسباب خسارة إسرائيل حرب الصورة: المشاهد اليومية من غزة، وصور الأطفال تحت الركام، المستشفيات المدمرة، المجاعة وانتشار الكارثة الإنسانية التي صارت محورًا في نشرات الأخبار العالمية.

أكدوا أن هذه الصور تناقض خطاب إسرائيل التي تزعم "الدفاع عن النفس"، وخاصة في ظل انتشار الإعلام البديل.

إذ كسرت وسائل التواصل الاجتماعي سيطرة الإعلام الغربي التقليدي والصورة المزيفة التي ينقلها الإعلام الإسرائيلي والداعمين له.

وكثفت إسرائيل من قتل الصحفيين في قطاع غزة أخيرا لإيقاف نقل الصور الفظيعة منها، حيث قضى أكثر من 265 منهم خلال العدوان حتى الآن.

كما ساهم في خسارة إسرائيل حرب الصورة تفاعل الرأي العام في الغرب مع قضية غزة وفلسطين، في صورة المظاهرات الطلابية والاحتجاجات في شوارع أميركا وأوروبا، التي جعلت الجامعات والاتحادات تضغط لمقاطعة تل أبيب.

وحدد الموقع السويسري، "NZZ"، الذي أبدى تعاطفا مع تل أبيب، أربعة عوامل تُؤدي إلى خسارة إسرائيل في حرب العلاقات العامة هي:

الأول، عدم تكافؤ الصراع: فبينما تعد إسرائيل دولة متفوقة تكنولوجيًا وجيشًا فعالًا، ينظر إلى غزة على أنها منطقة مُدمرة تُعتبر رمزًا للعجز، ويرى العديد من المراقبين أن هذا الاختلاف الهيكلي يُمثل تفاوتًا أخلاقيًا أيضا.

والثاني، إضفاء الصبغة العاطفية على التقارير الإخبارية، حيث تعتمد وسائل الإعلام الحديثة بشكل كبير على الصور وتثير صور الأطفال القتلى التعاطف.

والثالث، الضعف الإستراتيجي في جهود التواصل الإسرائيلية: فبينما تعتمد حماس عمدًا على المشاعر المنتشرة، غالبًا ما تحاول إسرائيل الشرح بدلًا من الإقناع، ومع ذلك، فإن معركة جذب الانتباه في هذه الحالة لا تُقاس بالحجج، بل بالتأثير.

والرابع، روح العصر: ففي عالم يزداد استقطابًا، وتتحكم فيه الهوية، تجد إسرائيل صعوبة في تصوير نفسها عبر مواقع التواصل كدولة تتعرض للهجوم فهي المعتدي بغض النظر عن الأحداث التي سبقت 7 أكتوبر.