سياسات العسكر في مصر.. كيف خلقت أزمة كبيرة بقطاع المستلزمات الطبية؟

داود علي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

ليست أزمة المستلزمات الطبية الأخيرة في مصر سوى صورة تختصر كيف تقود عقلية النظام العسكري الحاكم البلد إلى كوارث متتالية. 

فـ"هيئة الشراء الموحد"، التي ولدت تحت شعار الإصلاح والسيطرة على الفوضى، تحولت خلال سنوات قليلة إلى نموذج صارخ لفشل الإدارة العسكرية حين تقتحم مجالات مدنية بالغة الحساسية كقطاع الصحة.

وكان تغول العسكريين في الاقتصاد المصري سببا مباشرا في انهيار قطاعات طالما صمدت لعقود في وجه الأزمات، مثل صناعة وتجارة المستلزمات الطبية. 

فما كان بالأمس سوقا مرنا متنوعا، قادرا على تلبية احتياجات المستشفيات والمرضى، أصبح اليوم غارقا في المديونيات، ومشلولا بقرارات مركزية عقيمة، تحتكم لمنطق الجنرال لا لمنطق السوق.

وقصة هيئة الشراء الموحد لا تكشف فقط عن أزمة مديونية تجاوزت مليارات الجنيهات، بل تفضح كيف أن العقلية التي ترى الاقتصاد ساحة للسيطرة والانضباط العسكري تدمر آليات العرض والطلب، وتدفع الشركات للإفلاس، والمستشفيات للعجز، والمواطن في النهاية ليدفع الثمن من صحته وحياته.

طبيعة الأزمة الحالية 

وفي مشهد يكشف عمق مأزق إدارة القطاع الصحي في مصر، خرجت إلى العلن أزمة خانقة ضربت صناعة وتوريد المستلزمات الطبية والأدوية. 

ففي 27 أغسطس/آب 2025، أعلن محمد إسماعيل عبده، رئيس الشعبة العامة للمستلزمات الطبية بالغرفة التجارية عن توقف عدد كبير من خطوط إنتاج المستلزمات بسبب عجز الشركات عن توفير السيولة، نتيجة عدم التزام هيئة الشراء الموحد بسداد مديونياتها.

وتحدث عبده عن توقف نحو 11 مصنعا عن الإنتاج، بينما تعمل المصانع الأخرى بصعوبة شديدة، وأضاف: "نحن لا نطالب بالدولار وإنما بالجنيه المصري، واقترحنا حتى أن يتم تحويل مستحقاتنا مباشرة للبنوك لسداد المديونيات بدلا من مواجهة شبح الحجز على أصول الشركات".

وعقب: “لكن للأسف، ما نراه هو تعامل غير جاد مع ملف حيوي يخص قطاعا يضم آلاف المصانع ويشغل نحو مليوني عامل مؤمن عليهم”.

وبلغة الأرقام، تراكمت ديون الهيئة على الموردين لتصل إلى 43 مليار جنيه (887 مليون دولار أميركي)، ما دفع ممثلي الشركات لمطالبة رئيس الوزراء ووزير المالية بالتدخل العاجل بعد فشل اتفاقهم مع رئيس الهيئة الجديد، الدكتور هشام ستيت، في صرف دفعة عاجلة من المستحقات.

أما القضية فلا تتعلق فقط بأزمة مالية، بل تعكس قصة أعمق عن آلية إدارة الدولة للقطاع الصحي بعقلية عسكرية، أدت إلى انهيار جزء كبير من السوق، وخلقت فوضى غير مسبوقة في منظومة العلاج.

ما هي هيئة الشراء الموحد؟

وتعود جذور الأزمة إلى تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 (حيث انتقل سعر الصرف من 7 جنيهات إلى 17 جنيها أمام الدولار الواحد)، والذي أدى إلى اضطراب آليات التسعير وظهور نقص حاد في الأدوية والمستلزمات. 

وكعادة النظام، استدعي الجيش ليتدخل عبر اتصالات مباشرة مع الشركات، وكانت آلية الجيش واضحة: "من يورد بالسعر المفروض ينل الرضا، ومن يرفض يواجه العقاب". 

ومع فشل هذه الوصفة في سوق شديد التعقيد، جرى التفكير في صياغة مركزية جديدة لإدارة التوريدات.

لذلك في عام 2019 صدر قرار بإنشاء هيئة الشراء الموحد كجهاز مركزي يتولى شراء الأدوية والمستلزمات الطبية وتوزيعها على المستشفيات. 

ولإدارة الكيان الجديد، جرى استدعاء لواء طبيب من الجيش، بهاء الدين زيدان، بما عكس استمرار النهج العسكري في إدارة القطاعات المدنية الحساسة.

ومن أبرز مهام تلك الهيئة الجديدة آنذاك، أنها تتولى دون غيرها إجراء عمليات الشراء للمستحضرات والمستلزمات الطبية لجميع الجهات والهيئات الحكومية.

وإعداد الموازنة التقديرية السنوية اللازمة للشراء، وإعداد خطط وبرامج وقواعد التدبير والشراء الموحد من الداخل والخارج.

كذلك تتكفل بالتعاقد مع الشركات لشراء المستلزمات الطبية وإدارة تخزينها ونقلها وتوزيعها.

والتنسيق مع الشركات الطبية لتعزيز المخزون الإستراتيجي الطبي للدولة لمواجهة أي ظروف استثنائية.

وصولا إلى وضع الإجراءات والتدابير الضرورية لمواجهة حالات الطوارئ بالتنسيق مع باقي الجهات المعنية.

وجوه الأزمة 

ومع تراكم المديونيات الضخمة وتكرار الأزمات، خاصة منذ اشتداد الأزمة الاقتصادية في 2022 وما تلاها، جرى الإطاحة باللواء بهاء الدين زيدان مطلع العام 2025 من رئاسة هيئة الشراء الموحد.

وحل محله الدكتور هشام ستيت الذي شغل من قبل منصب نائب رئيس الهيئة، وكان أيضا الرئيس التنفيذي لشركة الجمهورية الحكومية لتجارة المستلزمات الطبية.

ويعد اللواء بهاء واحدا من أبرز العسكريين الذين أداروا القطاع الصحي في مصر خلال السنوات الأخيرة، فقد تولى إدارة مجمع الجلاء الطبي التابع للقوات المسلحة، ورئاسة الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية. 

وقد لمع اسمه بشكل واسع في أبريل/ نيسان 2020 حين ظهر إلى جانب رئيس النظام عبد الفتاح السيسي خلال تفقد معدات وأطقم الجيش المخصصة لمعاونة القطاع المدني في مواجهة جائحة كورونا. 

يومها كشف السيسي عن وجود "احتياطي على جنب" من المستلزمات الطبية لا يتبع الجيش ولا وزارة الصحة، وطالب بهاء صراحة بألا يمس هذا المخزون إلا بإذنه المباشر، في إشارة واضحة إلى طبيعة الإدارة العسكرية شديدة المركزية التي طبقت على القطاع الصحي.

ومع تولي الدكتور هشام ستيت المسؤولية، اتجهت الحكومة إلى محاولة لملمة الأوضاع عبر إجراءات عاجلة، أبرزها رفع ميزانية الهيئة من 50 إلى 100 مليار جنيه في الموازنة الجديدة، والتوصل إلى اتفاق مع الشركات يقضي بسداد جزء من المديونيات المتراكمة. 

غير أن هذه المحاولات سرعان ما تعثرت مع استمرار غياب السيولة، لتبقى الأزمة قائمة بلا حلول جذرية.

“الجيش هو المسؤول”

وفي قراءته للمشهد، قال الطبيب الصيدلي المصري إبراهيم محمود: إن "الأزمة في هيئة الشراء الموحد لا تتعلق فقط بتغيير الأشخاص أو زيادة الميزانيات، المشكلة الحقيقية تكمن في آلية عمل الهيئة نفسها". 

وأضاف لـ"الاستقلال": "حتى الآن، لا يوجد أي تشبيك حقيقي مع المستشفيات من جهة أو الموردين من جهة أخرى، هناك حالة فراغ غير مفهومة في تلك العملية". 

وتابع: "الهيئة بحاجة إلى جهاز إداري قوي يضم كوادر ذات كفاءة من الأطباء، قادرة على التعامل مع السوق بمرونته وتعقيداته". 

وأكمل: "المطلوب كوادر طبية مستقلة بعيدة عن إملاءات جهات أمنية وعسكرية، تعرف كيف تتواصل مع الموردين الكبار والصغار، وتعمل وفق قواعد السوق لا وفق منطق الترغيب والترهيب الذي طبع التجربة العسكرية السابقة". 

ومضى محمود يقول: "علينا أن نقول بوضوح إن الجيش تسبب في تدمير صناعة الدواء والمستلزمات الطبية في مصر، هذه الصناعة التي كانت صامدة لعقود، وكانت مصر من روادها في الشرق الأوسط، أثقلها التدخل العسكري بالديون، ودفعها إلى الفوضى والشلل". 

وأوضح الدكتور المصري أن "القضية ليست فقط في 43 مليار جنيه من المديونيات المتراكمة، بل في الأثر المباشر على حياة المرضى، آلاف المرضى اليوم يعانون نقصا في المستلزمات الأساسية داخل المستشفيات، المواطن هو من يدفع الثمن في النهاية من صحته وحياته."

وأشار إلى جانب آخر من المشهد قائلا: "لا يمكن أن نغفل أيضا حجم التغول الإماراتي الضخم في هذا القطاع منذ عام 2013، إذا استمرت الأوضاع على هذا المنوال، فلن يمر سوى بضع سنوات حتى تحتكر الإمارات صناعة الدواء والمستلزمات الطبية بالكامل وتصبح المتحكم الوحيد فيها داخل مصر". 

وختم مؤكدا: "هيئة الشراء الموحد التي قدمت بصفتها حلا للأزمة، تحولت إلى مشكلة أكبر من الأزمة الأصلية، لقد أثبتت التجربة أن العقلية العسكرية قد تفرض شكلا من الانضباط، لكنها عاجزة عن إدارة سوق حيوي ومعقد مثل سوق الدواء". 

ثم أردف: "إذا لم يحدث إصلاح جذري يعيد السوق لأهله، فإن الانهيار سيتواصل، وسيخسر القطاع الصحي المصري ما تبقى له من قدرة على البقاء".