"توزّع جغرافي".. إلى أي مدى استطاع تنظيم الدولة ترميم هيكله الأمني بسوريا؟

"تنظيم الدولة ليس لديه مناطق سيطرة يمكن عدها أهدافا تقليدية"
لا يمكن قراءة التصعيد اللافت في وتيرة الرصد الأمني ضد تنظيم الدولة في سوريا بوصفه إجراءً أمنيا معزولا أو استجابة ظرفية لتهديدات طارئة، بل يأتي في سياق تحول أوسع في مقاربة دمشق لملف مكافحة الإرهاب، يعكس إعادة تموضع محسوبة في شبكة التوازنات الإقليمية والدولية.
فالتشديد المتزايد على تحركات التنظيم، ومحاولات تجفيف هوامش المناورة أمامه، يشير إلى سعي واضح لمنع أي ارتداد أمني يعيد إنتاج مشاهد الفوضى السابقة، وفي الوقت نفسه يفتح نافذة تنسيق متقدمة مع التحالف الدولي بقيادة واشنطن، في لحظة تعيد فيها سوريا رسم أولوياتها الأمنية والسياسية على السواء.
وفي هذا الإطار، لا تبدو المعركة مع تنظيم الدولة مجرد مواجهة أمنية تقليدية، بل اختبارًا لقدرة الدولة السورية على الإمساك بالجغرافيا، وضبط الإيقاع الأمني، وتقديم نفسها كشريك قادر على إدارة ملف الإرهاب بما يتجاوز منطق الاحتواء إلى منطق الإغلاق الكامل لمسارات عودته.

ضربات استباقية
في انتقالٍ واضح لمواجهة دمشق مع تنظيم الدولة إلى مرحلة أكثر عمقًا وتنظيمًا، أعلنت وزارة الداخلية السورية، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2025، وبالتعاون مع جهاز الاستخبارات العامة، وبتنسيق مشترك مع قوات التحالف الدولي، مقتل محمد شحادة، المكنّى بـ“أبو عمر شدّاد”، في بلدة البويضة بريف دمشق، وهو أحد القيادات البارزة في تنظيم الدولة بسوريا، ويشغل منصب ما يُعرف بـ“والي حوران” (جنوب سوريا) داخل هيكل التنظيم.
وتزامنًا مع هذه العملية، نفذت وزارة الداخلية السورية عملية أمنية نوعية أخرى في بلدة حتيتة التركمان بريف دمشق، أسفرت عن إلقاء القبض على متزعم خلية تابعة لتنظيم الدولة، من دون الكشف عن اسمه.
وذكرت الوزارة أن العملية جاءت بعد عمليات “رصد ومتابعة”، وأسفرت عن ضبط كميات من الأسلحة المتنوعة والذخائر المختلفة، إلى جانب وثائق ومستندات تثبت تورطه المباشر في أنشطة إرهابية تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”.
كما أعلنت وزارة الداخلية السورية، في 24 ديسمبر/كانون الأول 2025، عن تنفيذ عملية أمنية منفصلة في بلدة المعضمية بريف دمشق، أسفرت عن إلقاء القبض على من يُعرف بـ“والي دمشق” في تنظيم الدولة، ويدعى طه الزعبي الملقب بـ“أبو عمر طبية”، إضافة إلى عدد من مساعديه.
وأوضحت الداخلية السورية أن هذه العمليات تأتي “تأكيدًا على فاعلية التنسيق المشترك بين الجهات الأمنية الوطنية والشركاء الدوليين”، في إشارة واضحة إلى تطور مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي في ملف مكافحة التنظيم.
وكانت سوريا قد أعلنت، خلال زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، انضمامها رسميًا إلى التحالف الدولي الذي تأسس عام 2014 بقيادة الولايات المتحدة لمكافحة تنظيم الدولة، وذلك بعد أن كان التنظيم قد سيطر على مساحات واسعة في العراق وسوريا، قبل دحره تدريجيًا من البلدين بين عامي 2017 و2019.
وشكّلت هذه الخطوة فرصة غير مسبوقة للسلطات السورية منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، للمضي قدمًا في مواجهة تنظيم الدولة الذي ما زالت خلاياه تنتشر في أكثر من منطقة داخل الأراضي السورية.
وفي هذا السياق، ركزت الدولة السورية الجديدة منذ سقوط الأسد على ملاحقة التنظيم، ونفذت سلسلة عمليات أمنية استهدفت خلاياه، أسفرت عن مقتل واعتقال عدد من عناصره، ومصادرة أسلحة ومواد لوجستية.
وبالتوازي مع الجهد السوري، واصل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تنفيذ غارات جوية متفرقة ضد مواقع لتنظيم الدولة في سوريا، ضمن إطار استهداف بقايا التنظيم ومنع إعادة تشكّل بنيته القتالية.
ورغم انضمام سوريا رسميًا إلى التحالف الدولي، شهد المشهد الأمني خرقًا لافتًا في 12 ديسمبر/كانون الأول 2025، في محيط مدينة تدمر بريف حمص، أسفر عن مقتل ثلاثة أميركيين، بينهم جنديان ومترجم، في هجوم نسبته دمشق وواشنطن إلى تنظيم الدولة.
وعقب الهجوم، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب متوعدًا بالرد على التنظيم، وقال: إن الهجوم وقع في “منطقة شديدة الخطورة في سوريا، لا تسيطر عليها الحكومة السورية بشكل كامل”.
وفي 20 ديسمبر/كانون الأول 2025، أعلنت القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم” أنها نفذت ضربات جوية استهدفت أكثر من 70 هدفًا في مناطق متفرقة من وسط سوريا، باستخدام طائرات مقاتلة ومروحيات هجومية، وذلك بعد أسبوع واحد فقط من هجوم تدمر.
وبحسب بيان “سنتكوم”، أسفرت هذه الضربات عن مقتل عدد من عناصر تنظيم الدولة، وتدمير مواقع أسلحة وبنى لوجستية تابعة له.
ويحمل هذا العدد الواسع من الضربات دلالات متعددة، تتعلق بطبيعة الأهداف المستهدفة ونوعيتها، إضافة إلى طبيعة انتشار عناصر تنظيم الدولة جغرافيًا، والمناطق التي شملها القصف، في ظل غياب مناطق سيطرة واضحة للتنظيم داخل الأراضي السورية، وانتقاله إلى نمط الخلايا المتحركة والعمل السري.

ضربة نوعية
ينظر خبراء ومحللون إلى العمليات الأمنية المشتركة الأخيرة بين دمشق والتحالف الدولي على أنها حققت مستوى مرتفعًا من النتائج، لا سيما أنها نالت قيادات من الصف الأول في تنظيم الدولة داخل سوريا، وهو ما يشكل ضربة نوعية لقدرة التنظيم على إعادة تنظيم صفوفه.
وبحسب الخبراء، فإن تنظيم الدولة عاد في الآونة الأخيرة إلى اعتماد أسلوب التقسيمات الجغرافية داخل سوريا، على غرار محاولاته السابقة إبان سعيه لفرض ما سماه “الخلافة”، عبر توزيع البلاد إلى ولايات ومناطق نفوذ افتراضية، في محاولة لإعادة إنتاج بنيته التنظيمية ولو بصورة سرية.
وانطلاقًا من ذلك، فإن مقتل واعتقال عدد من القادة الكبار في التنظيم خلال الفترة الأخيرة يُعد مؤشرًا واضحًا على رفع مستوى التنسيق الاستخباراتي، لا سيما على صعيد تدفق المعلومات النوعية التي يوفرها التحالف الدولي لدمشق، والتي مكّنت الأجهزة الأمنية السورية من تنفيذ عمليات دقيقة استهدفت شخصيات محورية في هيكل التنظيم.
وشكّلت هذه الخطوة من جانب دمشق علامة فارقة على تحول مهم في السياسة السورية الإقليمية والدولية، في سياق إقليمي شديد التوتر، كما تعكس رغبة واضحة لدى الدولة السورية في إعادة بناء علاقاتها مع المجتمع الدولي، خصوصًا مع الولايات المتحدة، عبر التعاون في ملف مكافحة الإرهاب الذي يمثل تهديدًا مشتركًا للطرفين.
ويشير خبراء إلى أن هذا التوسع في وتيرة ونوعية العمليات الأمنية يعكس تقاطعًا متزايدًا بين دمشق وإدارة عمليات التحالف الدولي؛ حيث باتت سوريا تتلقى معلومات استخباراتية حيوية تُستخدم مباشرة في مواجهة التنظيم على الأرض، وهو ما يدل على نشوء مستوى من الثقة المتبادلة بين الجانبين، بعد سنوات من القطيعة والتباين.
ويُعد التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الذي تشكّل في سبتمبر/أيلول 2014 بقرار من الولايات المتحدة عقب التوسع السريع للتنظيم وسيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا، أكبر تحالف عسكري دولي في القرن الحادي والعشرين. ويضم التحالف اليوم أكثر من 90 دولة، إلى جانب منظمات دولية فاعلة، من بينها الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي ضوء هذه التطورات، أُثيرت تساؤلات حول مدى قدرة تنظيم الدولة على إعادة هيكلة هرم قيادته في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ولا سيما في ظل الضربات المتتالية التي تستهدف قياداته الميدانية والأمنية.
ويزداد هذا التساؤل أهمية في ظل واقع أن التنظيم لا يمتلك حاليًا منشآت ثابتة، ولا مراكز قيادة واضحة، ولا مناطق سيطرة يمكن تصنيفها كأهداف تقليدية، وهو ما يدفعه إلى الاعتماد على نمط الخلايا المتحركة والعمل السري.
وتمنح البادية السورية التنظيم قدرة نسبية على التخفي والمناورة، فهي منطقة شاسعة لا تُعد صحراء مكشوفة بالكامل، ولا تحتوي على مرتفعات عالية باستثناء سلسلة الجبال التدمرية، الأمر الذي يجعل رصد التحركات فيها مهمة معقدة، خصوصًا في غياب الطيران المسيّر أو قدرات الاستطلاع الجوي المتقدمة.
ويفرض هذا الواقع على الولايات المتحدة الأميركية دورًا محوريًا في توفير الغطاء الاستخباراتي والجوي لأي عمليات عسكرية محتملة في البادية السورية، سواء عبر المراقبة الجوية أو جمع وتحليل المعلومات.
ولهذا، تتركز ضربات التحالف الدولي على استهداف مستودعات أسلحة، وأوكار سرية، ومركبات متحركة، أو تجمعات صغيرة لعناصر التنظيم المنتشرة في عمق البادية السورية.
في المقابل، تتولى القوات الأمنية السورية مهمة تجفيف أوكار التنظيم داخل الأحياء السكنية والمناطق المأهولة، خاصة أن هذه الخلايا تمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا، بالنظر إلى قدرتها على تنفيذ عمليات مفاجئة يصعب التنبؤ بتوقيتها أو أهدافها، ما يجعل تفكيكها أولوية قصوى في إستراتيجية مكافحة التنظيم.

تضييق استخباراتي
يرى مراقبون أن حادثة تدمر جرى التعامل معها من قبل كلٍّ من دمشق وواشنطن بصفتها حدثًا أمنيًا بالغ الحساسية، استدعى مراجعة شاملة للسياسات الأمنية والعسكرية المعتمدة في مواجهة تنظيم الدولة، لا سيما في مرحلة ما بعد انضمام سوريا رسميًا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
وقد تزامن تصاعد التحركات الأمنية لخلايا تنظيم الدولة داخل الأراضي السورية مع تكثيف ملحوظ للجهود العسكرية والأمنية، بهدف حرمان التنظيم من أي فرصة لإعادة بناء قدراته، أو استغلال فراغات ميدانية أو ثغرات أمنية يمكن أن تشكل بيئة مواتية لنشاطه من جديد.
وفي هذا السياق، تشير المعطيات المتوفرة إلى أن ما تشهده الساحة السورية حاليًا لا يرقى إلى مستوى إعادة تشكيل هيكل أمني أو عسكري متكامل لتنظيم الدولة، بقدر ما يندرج ضمن محاولات وُصفت بـ"الفاشلة" لزعزعة الاستقرار، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى توسيع نطاق التنسيق بين الحكومة السورية وقوات التحالف الدولي، ضمن مسعى مشترك لإنهاء التهديد الإرهابي بشكل نهائي.
وضمن هذا الإطار، رأى رئيس مركز "رصد" السوري للدراسات الإستراتيجية، العميد عبد الله الأسعد، في حديث لـ"الاستقلال"، أن "تحركات تنظيم الدولة في سوريا خلال الفترة الأخيرة لا تعكس قيامه ببناء هيكل أمني جديد، وإنما تقتصر على خلايا قائمة تحاول تنفيذ أعمال محدودة تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد".
وأضاف الأسعد أن "خلايا تنظيم الدولة باتت تشعر بخطر حقيقي، وتعيش حالة من التوجس، نتيجة تشديد عمليات الملاحقة والرصد والتضييق الاستخباراتي عليها، خاصة بعد أن أصبحت الدولة السورية، عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا، عضوًا فاعلًا في التحالف الدولي للقضاء على الإرهاب".
وأشار إلى أن "النتائج الميدانية السريعة التي تحققت ضد التنظيم والتي شملت إلقاء القبض على قياداته البارزة في دمشق ودرعا، وضرب أوكاره ومستودعات أسلحته، استنادًا إلى معلومات استخباراتية دقيقة، تعكس خطوة استباقية نفذها الجيش والأمن السوريان بالتعاون مع التحالف الدولي، لإفشال مخططات التنظيم الرامية إلى إعادة بناء هيكله الأمني أو العسكري في ما يُعرف بالخواصر الرخوة من البلاد".
واستدرك الأسعد بالقول: إن "هذه العمليات تؤشر إلى قدرة الدولة السورية الجديدة على توجيه ضربات قاصمة لتنظيم الدولة، والقضاء حتى على الفلول المتبقية منذ مرحلة النظام البائد، الذي كان يوفر للتنظيم دعمًا غير مباشر بوسائل متعددة".
وذهب رئيس مركز "رصد" إلى التأكيد على أن "الرؤية الإستراتيجية العسكرية للدولة السورية الجديدة، بالتنسيق مع التحالف الدولي، نجحت في تأسيس مرحلة جديدة تحول دون إعادة إنتاج مثل هذه الكيانات من جديد؛ إذ باتت كل الأنظار منصبّة على القضاء على تنظيم الدولة، ومنع أي طرف محلي أو إقليمي أو دولي من استغلاله لتنفيذ أجنداته في المنطقة، أو توجيه ضربات تستهدف الدولة السورية أو شركاءها في التحالف الدولي".















