خط كركوك – بانياس.. أنبوب نفط قد يعيد رسم خرائط الطاقة بالشرق الأوسط

هذا المشروع يمكن أن يغيّر جزءاً من معادلات الطاقة في المنطقة
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة والاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية، عادت فكرة إعادة تشغيل خط أنابيب كركوك– بانياس النفطي إلى الواجهة من جديد، والذي يمتد من شمال العراق وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي السورية.
هذه الخطوة التي تبحثها كل من بغداد ودمشق ليست مجرد مشروع طاقة فحسب، بل تحمل في طياتها أبعادا اقتصادية وإستراتيجية وسياسية عميقة قد تعيد رسم توازنات المنطقة في المرحلة المقبلة، وفق ما يرى مركز سيتا التركي للأبحاث والدراسات.

خلفية سياسية وجيوسياسية
وأردف المركز في مقال للكاتب التركي "محمد ألأجا" أنه: منذ سقوط نظام البعث في سوريا ديسمبر/كانون الأول 2024 وتشكّل النظام الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تسعى دمشق لتعزيز علاقاتها مع الدول المجاورة وإعادة بناء اقتصادها المنهك، لا سيما في قطاع الطاقة.
في هذا السياق، أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في أغسطس/آب 2025، أن حكومته بدأت دراسة إحياء خط كركوك – بانياس بهدف تنويع قنوات تصدير النفط وزيادة القدرة التكريرية للعراق.
وقد أثار هذا الإعلان اهتماما كبيرا في الأوساط الإقليمية والدولية، خاصة أنه يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة إعادة تشكيل لموازين القوى بعد انهيار النظام السوري السابق وصعود حكومة سنية جديدة في دمشق.
وعلى الرغم من أن هذا التحول أثار بعض القلق داخل الأوساط الشيعية في العراق، فإن بدء الحوار بين الجانبين بعد أقل من عام على التغيير السياسي في سوريا يُعد تطورا إيجابيا يبشّر بإمكانية انفتاح جديد في العلاقات الثنائية. وفق الكاتب.
ويعد خط كركوك– بانياس من أقدم خطوط النفط في المنطقة؛ إذ يعود تاريخه إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي.
يمتد على مسافة تقارب 850 كيلومترا من حقول كركوك الغنية بالنفط شمال العراق إلى ميناء بانياس على الساحل السوري.
تصل طاقته القصوى إلى نحو 1.4 مليون برميل يوميا، وقد كان في فترات سابقة ينقل النفط العراقي إلى الأسواق الأوروبية.
لكنّ مسيرة الخط كانت دائما مرهونة بالتحولات السياسية، فقد توقفت عملياته عام 1982 بعد أن وقفت سوريا إلى جانب إيران بالحرب العراقية – الإيرانية.
ثم تراجعت تدفقاته إلى الحد الأدنى خلال التسعينيات بسبب عقوبات الأمم المتحدة على العراق عقب غزو الكويت.
وبعد فترة قصيرة من التشغيل عام 2000، أُغلق الخط مجددا إثر الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 نتيجة تردي حالته الفنية وغياب الصيانة.
ولم تكن فكرة إعادة تشغيله جديدة؛ إذ طُرحت أيضا عام 2009 قبل اندلاع الحرب السورية، ثم عادت للنقاش خلال الخلاف بين بغداد وأنقرة حول خط كركوك – جيهان، الذي أُوقف عام 2023 بقرار تحكيمي دولي.
وقبل إعادة تشغيل الأخير بين العراق وتركيا في سبتمبر/أيلول 2025 كانت هناك مفاوضات محدودة أجريت حول كركوك – بانياس قبيل سقوط نظام الأسد مباشرة.

أبعاد اقتصادية وإستراتيجية
واستدرك الكاتب التركي: إذا ما أُعيد تشغيل الخط بطاقة أولية تصل إلى 300 ألف برميل يوميا، سيمنح ذلك كلا من العراق وسوريا مكاسب كبيرة.
فمن الناحية السورية، سيمثل ذلك مصدراً حيوياً لإحياء الاقتصاد بعد حرب استمرت أربعة عشر عاما، إذ يتوقع الخبراء أن يدرّ على سوريا ما بين 150 إلى 200 مليون دولار سنوياً.
أما العراق، فسيحصل على منفذ جديد لتصدير نفطه نحو الأسواق الأوروبية دون المرور بموانئ الخليج أو مضيق هرمز، ما يعني تقليل المخاطر الإستراتيجية التي تهدد صادراته النفطية.
وقد جاء هذا التوجه في وقت تشهد فيه المنطقة توترا متصاعدا، خصوصا بعد التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز خلال الاشتباكات الجوية مع إسرائيل في يونيو/حزيران 2025، ما جعل بغداد تفكر جدياً في إيجاد بدائل تصديرية آمنة لتجنب تعرض اقتصادها النفطي للخطر.
فالعراق يعتمد بنسبة 90 بالمئة من دخله القومي على صادرات النفط، ويُنقل 85 بالمئة منها عبر الخليج العربي.
وأردف الكاتب التركي: في أغسطس 2025، اجتمع وزير النفط العراقي حيان عبد الغني بنظيره السوري محمد بشير في بغداد، واتفقا على تشكيل لجنة مشتركة لدراسة حالة خط كركوك – بانياس وتقييم إمكانية تشغيله من جديد.
هذا التعاون يمثل خطوة عملية باتجاه مشروع يمكن أن يغيّر جزءاً من معادلات الطاقة في المشرق العربي، وفق الكاتب التركي.
إضافة إلى ذلك، بدأت الولايات المتحدة بتخفيف العقوبات على وزارة النفط السورية والسلطة البحرية، ما سمح للنظام الجديد في دمشق بتحقيق قدر من الشرعية الدولية وفتح قنوات تعاون جديدة.
ومع أن البنية التحتية السورية ما زالت متضررة، فإن ميناء بانياس ظل فعّالاً، وهو ما يتيح نظرياً نقل النفط العراقي إلى أوروبا عبر أقصر الطرق.

التحديات والعقبات
واستدرك الكاتب: يمثل خط كركوك – بانياس من الناحية الجغرافية والسياسية خياراً بديلاً لخط كركوك – جيهان عبر تركيا.
وهذا يجعل بغداد أمام معادلة دقيقة: فهي من جهة تحتاج إلى الحفاظ على شراكتها الإستراتيجية مع أنقرة، خاصة في إطار مشروع طريق التنمية الذي يربط الخليج بتركيا وأوروبا عبر العراق، ومن جهة أخرى ترغب في تنويع مساراتها التصديرية لتقليل الاعتماد على منفذ واحد.
ويرى بعض المحللين أن بغداد قد تستخدم مشروع بانياس كورقة ضغط سياسية تجاه تركيا حال حدوث توتر جديد بين البلدين.
في المقابل، من المتوقع أن تعارض بعض القوى الشيعية العراقية الموالية لإيران المشروع بسبب تحفظها على النظام السوري الجديد ذي الطابع السني.
ورغم الفوائد المحتملة، تواجه عملية إعادة تأهيل الخط عقبات كبيرة، من أبرزها: التكلفة الاقتصادية العالية لإصلاح خط متوقف منذ أكثر من عقدين، وغياب الاستقرار السياسي والأمني في كل من سوريا والعراق.
وأيضا انعدام الثقة السياسية بين دمشق وبغداد، فضلا عن المخاطر الأمنية على طول مسار الخط الذي يمر بمناطق كانت ساحة لصراعات مسلحة.
ويشير خبراء الطاقة إلى أن إصلاح البنية التحتية يتطلب استثمارات ضخمة، وشراكات مع شركات كبرى مثل "بريتيش بتروليوم"، التي وقعت بالفعل اتفاقاً مع بغداد لزيادة إنتاج كركوك.
كما أن نجاح المشروع يعتمد على قدرة البلدين على جذب الاستثمارات الأجنبية، وضمان حماية الخط من أي تهديدات إرهابية أو سياسية، وفق الكاتب.
ورأى أن تركيا تعد اللاعب الأكثر استقراراً وتأثيراً بخريطة الطاقة الإقليمية خاصة مع مشاريعها العملاقة مثل خط كركوك–جيهان ومشروع طريق التنمية.
لذلك، يرى مراقبون أن على بغداد الإسراع في تحديث خط كركوك – جيهان وإقناع القوى العراقية بأن تركيا تمثل المسار الأكثر أماناً وجدوى لتصدير النفط.
في المقابل، من مصلحة أنقرة ألا تنظر إلى خط بانياس كمنافس، بل كمشروع تكميلي يمكن أن يخدم مصالحها على المدى البعيد، خصوصاً إذا شاركت في إعادة إعمار سوريا واستثمرت في بنيتها التحتية الطاقوية.
كما تُناقش حالياً فكرة انضمام دمشق إلى مشروع طريق التنمية، وهو ما قد يخلق تآزراً إقليمياً واسعاً في مجالات النقل والطاقة والتجارة.
وتابع الكاتب: إن مشروع خط كركوك – بانياس لا يزال حتى اللحظة مشروعاً على الورق، لكنّ عودته إلى النقاش تُعبر عن تحول واضح في التفكير الإستراتيجي لكل من بغداد ودمشق، اللتين تسعيان إلى تجاوز القيود التي فرضتها سنوات الحرب والعزلة.
ورغم التحديات الكبيرة التي تحول دون تنفيذه حاليا، فإن المشروع يمثل فرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة الطاقة في الشرق الأوسط، شرط أن تتوافر الإرادة السياسية والتفاهم الإقليمي، وأن يُنظر إليه بوصفه مشروعاً للتكامل لا للمنافسة.
فالعراق يبحث عن منافذ جديدة لتأمين صادراته النفطية، وسوريا تحتاج إلى شريان اقتصادي ينعشها بعد حرب مدمرة، وتركيا تمتلك الموقع والمقومات لتكون همزة الوصل بينهما، وفق الكاتب.
وبين هذه المصالح المتقاطعة، قد يصبح خط كركوك – بانياس يوما ما رمزا لتعاون إقليمي جديد بدلا من أن يبقى حبيس الخرائط. بحسب تقديره.













