حرب المصطلحات.. كيف زيف الإعلام الغربي حقائق العدوان على غزة؟
تعد "حارس البوابة الإعلامية" من أبرز نظريات الإعلام وفنون الاتصال، والتي ساهم في صياغتها عالم النفس الألماني الأميركي "كورت ليوين" عام 1943، فيما تؤطر النظرية عملها في مسار الرحلة التي تقطعها المادة الإعلامية من المصدر إلى المتلقي.
إذ توجد بوابات عليها حراس، يجرى بموجبهم اتخاذ قرارات بما يسمح بمروره أو تعديله أو منعه، وكلما طالت المراحل التي تقطعها المادة الإعلامية ازدادت البوابات، وتعددت مهام الحراس.
وقد يكون حارس البوابة، السلطة أو الصحفي أو المراسل أو السياسة التحريرية أو المؤسسة الإعلامية أو وكالات الأخبار أو الفكرة الأيديولوجية أو السياسية أو من بيده القرار أيا كان.
تلك النظرية التي تطبق بشكل دائم وبمراحل ومستويات مختلفة، تجلت في العدوان الأخير على غزة والذي بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
إذ تفاعلت معظـم وسائل الإعلام الغربية مع الحدث بتباينات فجة وتعتيم مقصود، وصل إلى درجة العنصرية والانتقائية ضد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين.
ظاهرة للدراسة
وبعد أشهر من العدوان الإسرائيلي وتحويل غزة إلى منطقة منكوبة، أصبح التعاطي الإعلامي الغربي ظاهرة تستحق الدراسة وفهم خلفياتها.
فمئات الصحفيين والمراسلين والمذيعين في قنوات الإعلام الأوروبية والأميركية الرئيسة، يفيضون عنصرية تجاه الفلسطينيين.
لهذا بدأت تظهر محاولات لتوثيق الظاهرة، وتحويل التنظيرات والأحاديث المرسلة إلى أرقام يصعب إنكارها أو الجدال معها.
وفي 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عمدت الباحثة الأميركية "هولي جاكسون"، طالبة الدراسات العليا في علوم الحاسوب بجامعة "بيركلي" في "كاليفورنيا"، إلى نشر دراسة تعتمد على تسجيل المرات التي ذكر فيها "القتلى" الفلسطينيون والإسرائيليون.
واعتمدت في بحثها على ثلاث صحف أميركية كبرى هي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"وول ستريت جورنال".
واختارت الفترة ما بين 7-22 أكتوبر 2023، مع مقارنتها بعدد القتلى الفعليين طبقا لسجلات الأمم المتحدة.
وقالت: "إن اللافت حقا أنه بعد الأسبوع الأول، عندما كانت حصيلة القتلى الفلسطينيين قد تجاوزت نظيرتها الإسرائيلية المعلنة من حكومة إسرائيل، فإن عدد مرات ذكرهم ظلت أقل".
انتقائية المصطلحات
وفي دراسة أخرى عملت عليها الصحفية البريطانية من أصل عراقي "منى شلبي" وهي كاتبة في صحيفة "الغارديان" البريطانية وحاصلة على جائزة "بوليتزر"، واحدة من أرفع الجوائز الصحفية العالمية، تناولت تعاطي الإعلام الغربي مع الأحداث في غزة.
وطبقت معاييرها البحثية على تغطية شبكة "بي بي سي" البريطانية تحديدا من 7 أكتوبر إلى 2 ديسمبر/ كانون الأول.
واكتشفت شلبي أنه "حتى مع ذكر القتلى الفلسطينيين لمرات لا تتناسب مع عددهم أبدا، فإن صحفيي بي بي سي (البريطانية) غالبا ما يعمدون لاستخدام أوصاف مجهلة أثناء تغطية أخبارهم".
فيستخدمون ألفاظا مثل "أناس" أو "أشخاص" أو حتى بدون ذكر للمبتدأ من الأصل، على غرار "150 ماتوا اليوم في غزة جراء العمليات الإسرائيلية العسكرية".
بينما على العكس يقدم القتلى الإسرائيليون بأوصاف علاقاتهم الأسرية والاجتماعية على غرار "أم" و"جدة" و"صديق" و"أخ" و"ابن" و"حفيدة".
الأمر الآخر الذي ذكرته دراسة "منى شلبي" أن الفلسطيني عادة ما "يموت" أو "يهلك" أو "يتوفى" في تغطية "بي بي سي"، وذلك على عكس الإسرائيلي الذي غالبا ما "يُقتل" أو "يُذبح" أو "يُمثل بجثته".
والشاهد في المجمل هو نزع الإنسانية عن الفلسطينيين بتجهيلهم، وكأن هؤلاء "الناس" أو "الأشخاص" لم يكونوا إخوة وأحفادا وأمهات وجدودا وجدات وأزواجا وزوجات.
وبالتالي يصعب على المتلقي تكوين صلة إنسانية ما بحالتهم، والتعاطف معهم، وكأنهم أتوا من العدم وعادوا إليه.
1000 مقال
وفي 10 يناير/كانون الثاني 2024، نشر موقع "ذا إنترسبت" الأميركي، تحليلا نوعيا لتغطية العدوان على غزة، كشف فيه مدى تحيز الصحف الأميركية الكبرى ضد الفلسطينيين.
التحليل الذي أعده الصحفيان آدم جونسون وعثمان علي قالا فيه إن معظم الصحف الأميركية الكبرى حبذت الجانب الإسرائيلي على مدار أسابيع العدوان.
وكشفت التغطيات التي نشرتها صحف مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"لوس أنجلس تايمز" عن تحيز ثابت ضد الفلسطينيين.
وجمع الموقع ألف مقال من تلك الصحف، وتتبع طريقة استخدامها لعدد من المصطلحات والسياق.
وكشف التحليل عن عدم توازن صارخ في الطريقة التي جرت فيها تغطية الرموز المؤيدة لإسرائيل والإسرائيليين مقارنة مع الأصوات الفلسطينية والمؤيدة لهم، حيث استخدمت سرديات مؤيدة للإسرائيليين على حساب الفلسطينيين.
وأورد أن تلك الصحف التي تلعب دورا مهما في تشكيل المواقف من النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لم تلتفت للأثر الذي تركه الحصار على غزة وحملة استهداف الأطفال والنساء في الغارات والقصف المدفعي.
وبالمقابل أكدت الصحف الأميركية على الوفيات الإسرائيلية في النزاع واستخدمت لغة عاطفية لوصف قتل الإسرائيليين وليس الفلسطينيين، وقدمت تغطية غير متوازنة لما يسمى معاداة السامية في الولايات المتحدة
وكذلك تجاهلت بشكل كبير معاداة المسلمين أو الإسلاموفوبيا التي انتشرت في أعقاب هجمات 7 أكتوبر.
مدلول الكلمات
المثير أن المحققين ركزوا في جانب آخر من التحليل على التقارير الإخبارية وليس المقالات أو الرسائل للمحررين، والتي من المفترض أنها أكثر حيادية.
ولاحظ التحقيق أن كلمة إسرائيل والإسرائيليين وردت أكثر من الفلسطينيين أو فلسطين في الصحف الثلاث (نيويورك تايمز - واشنطن بوست - لوس أنجلس تايمز) حتى مع ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين.
وبالمعدل ذكرت إسرائيل والإسرائيليين ثماني مرات أو 16 مرة لكل وفاة مقابل كل ضحية فلسطينية.
كما استخدمت الصحف الثلاث كلمات عاطفية لوصف القتلى الإسرائيليين، حيث خصصت كلمات مثل "ذبح - مذبحة - مرعب" لهم وأنهم قتلوا على يد الفلسطينيين.
ولم تستخدم نفس الكلمات لوصف ضحايا القصف الإسرائيلي من الفلسطينيين.
فحسب التقرير استخدم المحررون والمراسلون كلمة "ذبح" لوصف قتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 60-1.
أما "مذبحة" فظهرت بمعدل 125- 2. واستخدمت كلمة "مرعب" لوصف القتلى الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بمعدل 36- 4.
ويشدد التقرير أنه مع أن العدوان على غزة تعد الأكثر دموية بالنسبة للأطفال في التاريخ الحديث فإنه من النادر الإشارة إليهم في عناوين الصحف الأميركية.
نفس الوضع بالنسبة للصحفيين، حيث تعد حرب غزة واحدة من أكثر الحروب دموية لهم، ومع ذلك لم تظهر كلمة صحفي ومراسل ومصور إلا في تسع مقالات فقط.
في وقت استشهد فيه أكثر من 109 صحفيين وعاملين في المجال الإعلامي، بحسب تقرير المرصد الأورومتوسطي في 18 يناير 2024.
واختتم التقرير أن رهانات الإعلام الغربي للتقليل من حياة الفلسطينيين أعلى منها هذا الوقت (مرحلة العدوان الحالية) حيث تتزايد حصيلة القتلى وتهدُّم مدنٍ بكاملها بشكل يجعل الحياة فيها مستحيلة وتم محو عائلات بكاملها من السجل المدني، وهو ما يعطي ذلك الإعلام فشلا وسقوطا مهنيا وأخلاقيا.
قيمة ثابتة
رأى الباحث الإعلامي طارق محمد أن ما يفعله الإعلام الغربي في تغطيته لحرب غزة يمثل قيمة ثابتة لطبيعة تعاطيه مع القضية الفلسطينية وانحيازه الكامل لإسرائيل.
وفي حديثه لـ"الاستقلال"، علل ذلك بأن جزءا كبيرا من الذين يمتلكون وسائل الإعلام الغربية يهود وجزءا من تمويل تلك المؤسسات يأتي من شركات ورجال أعمال يهود.
والأهم أن قطاعا من مديري المؤسسات الإعلامية والعاملين بها يهود، فأنت تتحدث عن آلة إعلامية يتحكم بها اليهود بشكل كبير.
وأردف: "لن نقول سقطت المهنية الإعلامية الغربية، لكنها ببساطة انكشفت لأن الاختبار كان قويا وقاسيا عليهم".
ومن هنا سقطت جميع مفردات الحياد والمهنية التي تشدقوا بها طوال تاريخهم، لدرجة أنهم رأوا أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الصحفية والإعلامية إنما هي قيمة غربية في الأساس.
وأضاف الباحث الإعلامي: "لنعقد مقارنة بين تناول القنوات الأوروبية للحرب الروسية الأوكرانية، وللعدوان على غزة، سنجد أن الإنسانية أصبحت مختزلة في الرجل الأبيض، وبقية الشعوب تحديدا العرب والمسلمين لا حق لهم ولا يتم التعامل معهم بنفس المنطق".
وشدد أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الحكومات العربية والإسلامية وعلى الشعوب في خلق روايتهم وسرديتهم بأنفسهم كما تفعل روسيا والصين.
إذ قطعوا شوطا قويا في ترسيخ روايتهم، أو على الأقل لم يعودوا في حاجة إلى الإعلام الغربي ولا يعيرونه اهتماما، وفق تقديره.