المغرب يلعب على الوتر الروحي في توجيه علاقاته الخارجية بإفريقيا.. كيف؟
بصورة لافتة، يسجل الجانب الديني والروحي دورا كبيرا ومميزا للنشاط الدبلوماسي للمملكة المغربية في علاقاتها مع إفريقيا، خصوصا بلدان غرب القارة.
المغرب المعروف بثقل الرمزية الدينية في شرعيته الحاكمة والتاريخية، حرص على توجيه علاقاته الخارجية في غرب إفريقيا من خلال الأنشطة الإسلامية، سواء بتشييد المساجد أو إقامة الفعاليات الدينية أو إرسال طلائع الأئمة والخطباء.
المغرب وغرب إفريقيا
وفي الآونة الأخيرة استخدمت الرباط الدبلوماسية الدينية بقوة للتقارب مع النيجر. حيث أرسل وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، أحمد التوفيق وفدا دينيا إلى نيامي في مطلع فبراير/ شباط 2024، للاحتفال بشهر رمضان الذي سيبدأ في مارس/ آذار المقبل.
وتأتي الزيارة بعد أن كلف وزير داخلية النيجر الجنرال محمد بوبكر تومبا رئيس الجمعية الإسلامية بالنيجر الشيخ جبريل سوميلا كارانتا بإرسال دعوات إلى المغرب للترحيب بأئمته ومسؤولي الشؤون الدينية لديه.
ويعد الشيخ كارانتا زائرا منتظما للعاصمة المغربية، حيث حضر العديد من الاحتفالات الرمضانية التقليدية في عهد الملكين محمد السادس والحسن الثاني.
وأبقاه المجلس العسكري في نيامي في منصبه بعد الانقلاب. وفي عام 2023، مثل رئيس القسم النيجري لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة عبد الله بن إدريسا ميغا النيجر في المؤتمرات الدينية الملكية.
ورغم انسحاب النيجر في 29 يناير/ كانون الثاني 2024 من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إكواس"، إلى جانب بوركينا فاسو ومالي.
فقد امتنعت الرباط عن الانضمام إلى جوقة الإدانات لانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني في 26 يوليو/ تموز 2023.
بل على العكس من ذلك، يريد المغرب تشكيل تحالف مع دول الساحل الثلاث (النيجر - بوركينا فاسو - مالي) لذلك تم استقبل وزراء خارجيتهم في مراكش نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وتتمثل فكرة الرباط في منح هذه البلدان غير الساحلية والمعزولة دبلوماسيا إمكانية الوصول إلى المحيط الأطلسي، مقابل حصول الشركات المغربية على منافذ جديدة.
لذلك من أهم طرق تواصل المغرب مع تلك الدول هي دبلوماسية الروابط الدينية.
وقد علقت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات على تلك الاستراتيجية في 10 فبراير 2024.
عندما أصدرت تقريرا أوردت فيه: "أن الدولة المغربية حافظت دائما على حيوية العمق الروحي في توجيه علاقاتها الخارجية، وفاء لذاكرة إسلامية مشتركة مع شعوب الجوار خاصة الإفريقية".
وأتبعت: "وكذا بالنظر إلى إمكانات استثمار تلك الذاكرة في بناء تحالفات سياسية واستراتيجية مع مجموعة البلدان التي تستقي مرجعياتها الروحية الى حد بعيد من مراكز مذهبية وصوفية مغربية تحديدا في دول الساحل والغرب الإفريقي".
وأكملت: "هذه العلاقات اكتسبت في الآونة الأخيرة أبعادا جديدة مهمة، في سياق عودة الإستراتيجية المغربية القوية الرامية إلي التوغل نحو عمق القارة، والاتجاه نحو تعاظم رهانات المملكة الأمنية والسياسية وكذا الاقتصادية".
المغرب والسنغال
وتعد السنغال من أكثر البلاد الواقعة تحت تأثير الدبلوماسية الروحية المغربية، والتي أحيانا يطلق عليها دبلوماسية "العارفين بالله".
بحسب الموقع الرسمي لـ "وزارة الشباب والثقافة والتواصل" المغربية، فإن السنغال يعد البلد الذي حظي بأكبر عدد من زيارات الملك المغربي محمد السادس.
وذكرت الوزارة أن العلاقات الدينية بين البلدين متميزة وتعود لماض بعيد.
حيث إن الإسلام بمعينه الصوفي دخل إلى السنغال انطلاقا من المغرب، لا سيما عبر الزاوية التيجانية بفاس.
والتي تعد العاصمة الروحية لهذه الطريقة التي أسسها الشيخ أحمد التيجاني.
كما أن الهيئات الصوفية بالسنغال تجمعها صلات وثيقة بمؤسسة "أمير المؤمنين محمد السادس" الدينية.
وخص المغرب الطلبة السنغاليين، تحديدا المنتمين للزوايا والعائلات الدينية، للحصول على منحة دراسية سنتين بمعهد "محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات".
لكن المميز لسياسة المغرب الدينية في السنغال، الاهتمام بإطار ببناء المساجد والمعاهد الدينية.
ويلاحظ أن كثيرا من مساجد السنغال أسست أو تم تعميرها وفقا للشكل المعماري المغربي.
ومن أبرز الأمثلة بناء مسجد ومركز إسلامي بمدينة "تيفاون" السنغالية عام 1988 بقيمة مليون درهم (أنذاك).
وكذلك تمويل أعمال الزخرفة والنقش عند بناء المسجد الكبير بمدينة "كولاك بقيمة" 700 ألف درهم.
وفي عام 2014 حدثت واقعة مؤثرة في تعزيز العلاقات المغربية السنغالية، عندما أوفد المغرب وفدا رسميا مهماَ إلى داكار يرأسه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق.
وذلك للم الشمل مع التيجانيين العمريين والاحتفال سويا بما يعرف بـ "الزيارة الكبرى"، والتي تعد من بين أهم تجمعات الطريقة التيجانية بالسنغال.
كما قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية في 2016، بطباعة أكثر من 5 آلاف نسخة من كتاب الحاج "عمر فاتيو تال" أحد كبار الطريقة التيجانية التي شكلت مرفأ للعلاقات العريقة القائمة بين المغرب والسنغال على أساس ديني.
المغرب ومالي
الطريقة التيجانية لا تمثل فقط رأس حربة الوجود الإسلامي في السنغال، لكنها ممتدة كذلك إلى مالي.
حيث تعد مدينة "تمبكتو" المالية صلة الوصل بين البلاد الإفريقية المسلمة ومملكة المغرب.
وبها انتشر عدد من الطرق الصوفية من أشهرها الطريقة التيجانية (أصلها بمدينة فاس المغربية) والطريقة القادرية الجيلانية المنتشرة بالمغرب.
وعلل ذلك أستاذ الدراسات الإفريقية الموساوي العجلاوي، في حديث لـوكالة "الأناضول" التركية تم نشره في 12 مارس/ آذار 2013.
وقال: إن "الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء، دفعت المغرب إلى التدخل للمساعدة على إعادة تشكيل الخريطة الثقافية والدينية في المنطقة، لصالح تشجيع الإسلام الصوفي المعتدل في مقابل تزايد نفوذ الجماعات المتشددة".
وأضاف أن "للمغرب امتدادا ثقافيا وروحيًا عميقا في مالي وفي مدينة تمبكتو على وجه التحديد، عبر الزوايا الصوفية المنتشرة في المدينة والتي لها ارتباطات وولاءات بالمراكز وطرق صوفية في المغرب، وبشكل خاص الطريقة القادرية".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا وكيف بدأ المغرب استخدام الدبلوماسية الدينية بهذه الطريقة الموسعة؟
الإجابة تبدأ من العام 1984، وقتها أحدث خروج المغرب من منظمة الاتحاد الإفريقي ثغرات قوية في العلاقة الإفريقية المغربية.
ولم يكن ممكنا للمغرب، السماح بتوسعها وتأثيرها السلبي على قضاياه الرئيسة تحديدا قضية الصحراء.
فأسس عام 1985 رابطة علماء المغرب والسنغال، وكذلك دشن معهد الدراسات الإفريقية سنة 1986.
حيث ركزت الرابطة الأولى اشتغالها على الداخل الإفريقي، في التواصل مع مختلف الفاعلين الدينيين في السنغال، بالأخص قيادات الزوايا الصوفية.
فيما ركزت الثانية على التعريف بالانخراط المبكر للمملكة في التبادل العلمي والثقافي الديني، عبر إبراز وثائق ونصوص وشواهد تاريخية تؤكد ذلك.
النموذج الديني المغربي
وفي 6 يوليو 2022، أصدر الباحث المغربي حميمنات، دراسة بعنوان "الإسلام المغربي في إفريقيا: التقاطعات المركبة بين السرديات التاريخية والأطروحات المعرفية".
وكانت الفكرة المركزية للدراسة حول العلاقة المغربية الإفريقية، ورصد تنامي جاذبية النموذج الديني المغربي، واتساع رقعة الاعتراف به داخل مختلف أنحاء القارة.
وذكر الباحث حميمنات: "ذلك يعني أن هناك حركية مؤسساتية دينية تقوم بدور الدبلوماسية الموازية، وتؤطر رؤية المغرب الجديدة تجاه إفريقيا".
ولكن الباحث المغربي عاد وأكد في دراسته أن العلاقة الدينية المغربية الإفريقية تحديدا دول غرب القارة ليست حديثة.
وإنما هي نابعة من تقاطعات تاريخية بين المملكة في عهود مختلفة مع المرابطين والموحدين وغيرها من الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.
وأنها علاقة تفاعلية، وليست ذات تأثير أحادي، وهو ما يمنحها صبغة التدين الإفريقي المركب، الذي ساهم في صياغة "الإسلام المغربي"، حسب اصطلاح الباحث.
كما قال: "إنه يوجد إسلام أفريقي مركب، وهو ما اعتمده المغرب لمزيد من توطيد علاقته بالجسم الإفريقي الكبير".
وأورد أنه "من أدلة هذا استقدام الملك الراحل الحسن الثاني علماء أفارقة عديدين للدروس الحسنية الرمضانية، واستثمار الوجه الشرعي للملكية بصفتها الإمامة الكبرى".
وأضاف: "هذه تحديدا التي شكلت حبل الصلة مع العمق الإفريقي، ولذلك حرص الملك محمد السادس على (البروتوكول المخزني) عبر أداء صلوات الجمعة في عواصم أفريقية مختلفة، واستقبال القادة الدينين، بما فيهم زعماء الزوايا الصوفية، كالتيجانية والمريدية والقادرية وغيرهم".
لكن هناك بعدا مختلفا أورده معهد "بروكينغز" الأميركي في دراسة نشرها في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
قالت: "إن المغرب نموذج للاستخدام المزدوج الفعال، للدين من قبل الأنظمة العربية".
وأوضحت الدراسة الأميركية أن القوة الدينية الناعمة "تعزز شرعية النظام المغربي (في الداخل) عبر تدعيم الجذور الدينية للملكية، وكذلك تعظم من دور المغرب في الساحة الدولية بوصفه صوتا مهما للوسطية الدينية بعيدا عما تعنيه هذه الوسطية على أرض الواقع".
وأشارت الدراسة إلى إعلان مراكش في 2016 الذي خرج في مؤتمر حضره "300 شخصية من علماء المسلمين ومفكريهم ووزرائهم ومفتيهم على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم من أكثر من 120 بلدا".
وذكرته أنه أشار في سطره الأول إلى "الأوضاع المتردية التي تعيشها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي تحديدا إفريقيا، بسبب اللجوء للعنف والسلاح لحسم الخلافات وفرض الآراء والاختيارات".
وأكملت الدراسة إن الإعلان المغربي قوبل بترحيب دولي ودعم من مقومات المغرب وأبرز طموحاتها لتكون مدربا للأئمة "الوسطيين" في العالم الإسلامي، لا سيما منطقة الغرب والوسط الإفريقي.
ويذكر في هذا الإطار أن صحيفة "جون أفريك" الفرنسية، نشرت في تقريرها الصادر في 28 يونيو/ حزيران 2023، أنه في نهاية العام 2022، تخرج 2798 إماما من معهد محمد السادس ينحدرون من عشر دول أفريقية معنية معظمها من غرب إفريقيا.
وذكرت أن تلك الدول هي "السنغال، مالي، الغابون، نيجيريا، النيجر، كوت ديفوار، غينيا كوناكري، تشاد، غامبيا، وتونس".
وأتبعت أن هناك دولا أخرى مثل ليبيا وتنزانيا وموريتانيا والصومال بصدد التفاوض على اتفاقيات للمشاركة في هذا البرنامج، ما يعزز من تصاعد هيمنة المغرب بقوة على الجانب الروحي في تلك المناطق، وترسيخ نفوذها من خلال الدبلوماسية الدينية.