محترفون في تزوير التاريخ.. لماذا تتهرب اليونان من مسؤولية احتلال غرب الأناضول؟
لا تزال المناقشات حول الاحتلال اليوناني لغرب الأناضول عام 1919 والأحداث التي جرت آنذاك مستمرة، حيث تحاول أثينا ومن يدعمها من الجمهور الغربي تحميل الأتراك مسؤولية ما حدث في تلك الفترة.
ومن خلال الضغط على أنقرة تسعى دول الاتحاد الأوروبي لتقبل تركيا "الكذبة" التي تقول إن الأتراك في تلك الفترة قاموا "بإبادة جماعية" ضد اليونانيين.
ويرجح أن السبب في ذلك، هو محاولة الاتحاد الأوروبي الهروب من مسؤوليته تجاه تاريخه الحافل بجرائم "الإبادة الجماعية" ومحاولة إلقائه اللوم على أطراف آخرين في هذه المسألة.
من المذنِب؟
ونشرت وكالة "الأناضول" التركية الرسمية مقالا للكاتب، خلوق سلوي، قال فيه إن "الأحداث التي تم طرحها بما يسمى (البونتوس) أو (الإبادة الجماعية الهيلينية) في أنشطة الضغط اليوناني على تركيا، نشأت نتيجة لأهداف الغرب في إطار (إخراج الأتراك من الأراضي الأوروبية)، وهذا بمثابة دلالة على الاستمرارية التاريخية للأهداف الغربية واليونانية".
وأضاف "كما يوضح هذا مدى احترافية وسائل الإعلام الغربية واليونانية في تزوير التاريخ".
وشدد الكاتب على أن "المسؤولين الرئيسين عما حدث بين عامي 1919-1922 في فترة الاحتلال اليوناني التي اكتسحت غرب الأناضول آنذاك واضحين ومؤكدين بالأدلة التاريخية، إلا أن سلوك أثينا والإعلام اليوناني بهذا الشأن يؤكد أن الأمر محض تاريخ متكرر".
وتابع: "عند النظر في التاريخ، نجد أن اليونانيين الذين كانوا يعيشون في الإمبراطورية العثمانية بداية القرن الـ19 يشكلون حوالي 15 بالمئة من السكان، كما كانوا يشكلون الأغلبية غير المسلمة داخل الدولة".
ولفت سلوي إلى أن "الروم كانوا منتشرين في جميع أنحاء البلاد، حيث برزوا في أمور التجارة والدبلوماسية، بل وكان من نفذ أكثرية عمليات التجارة الخارجية في السواحل العثمانية والأوروبية من الروم".
وذكر أنهم "كانوا يمتلكون آنذاك أسطولا تجاريا ضخما مكونا من 600 سفينة، كما كان لديهم حق التسلّح أيضا للدفاع عن أنفسهم ضد قراصنة شمال إفريقيا".
وحسب ما ذُكِرَ في المصادر التاريخية، فقد منحت الدولة العثمانية بطريركية "فينير روم" صلاحية تعيين قساوسة وخطباء يونانيين في جميع الكنائس الأرثوذكسية المتشكلة من الصرب والبلغار والرومان.
وحتى بعد بدء الثورة في اليونان ضد الدولة العثمانية، فقد كانت الطقوس الدينية تقام في هذه الكنائس، بل جرى اعتبار هؤلاء القساوسة اليونانيين الذين عينتهم الدولة العثمانية من فئة النخبة بين الجماعات المسيحية الأخرى، يوضح الكاتب التركي.
ومنذ قدوم الأتراك إلى الأناضول كان اليونانيون يتمتعون بجميع حرياتهم الدينية والاقتصادية والثقافية، كما كان الأمر أيضا مع باقي الشعوب غير المسلمة.
أداة سياسية
وفي عصر الصحوة الجديدة في أوروبا، ذكر الكاتب أن "الأدب اليوناني والفهم اليوناني القديم للديمقراطية قد جذب انتباه الدبلوماسيين الليبراليين والقوميين".
واستطرد: "قد ناقش هؤلاء في مجالس الدول بمختلف أنواع الروايات المكتوبة والشفوية أن (الهيلينيين) الذين أسسوا حضارات عظيمة في التاريخ قد عاشوا تحت حكم الأتراك بما فيه الكفاية، وأن هذا الوضع يجب أن ينتهي في أسرع وقت ممكن".
وبدأت القوى العظمى وخاصة روسيا تهتم بمصير اليونانيين الذين يعيشون في الأراضي العثمانية، وخاصة في البيلوبونيز (الاسم الروماني لشبه الجزيرة اليونانية).
كما كانت جميع الطبقات الفكرية في إنجلترا وفرنسا، موطن الليبرالية والقومية، مهتمة باليونانيين، بل وبلغ التعاطف معهم أنهم خصصوا مساحة واسعة لهذه الأمة في أعمالهم الأدبية، حيث وصفوا علاقة الأتراك واليونانيين بالعدائية وشبّهوها بعلاقة زيوس وهاديس (من آلهة الإغريق القدامى).
ولما رأى اليونانيون الدعم الغربي والروسي لهم، قرروا التخلص من الحكم العثماني تحت سطح جمعية "فيليكي إيتيريا"، والتي تمّ تأسيسها في أوديسا عام 1814 بتشجيع من مستشار القيصر الروسي ألكسندر إبسيلانتي.
وبدأت الثورة الأولى ضد الإدارة العثمانية عام 1817، وانتشرت في البيلوبونيز عام 1821، وبذلك تأسست اليونان بموجب معاهدة أدرنة الموقعة بعد الحرب العثمانية الروسية 1828-1829، وعدت جميع كنائس أوروبا هذه الثورةَ بمثابة "حملة صليبية".
بل وجاء الكاتب الإنجليزي اللورد بايرون إلى البيلوبونيز لدعم اليونانيين وحروبهم التي كان يتعاطف معها بشدة.
وفي سبيل منع الدولة العثمانية من إيقاف الفوضى، قامت إنجلترا وفرنسا وروسيا بتدمير الأسطول العثماني في نافارين رغم عدم وجود حرب بينهما.
ويرى الكاتب أن إنشاء الدولة اليونانية بدعم من الجمهور الأوروبي قد أدى أيضا إلى استفزاز الفئات المسيحية الأخرى التي تعيش في كنف الإمبراطورية العثمانية.
وأصبح اللجوء إلى العنف ونشر أخبار كاذبة عن مجزرة ارتكبت بحقهم وتضليل الجمهور وتعبئة المشاعر الدينية هو الشغل الشاغل للجماعات اليونانية.
وأشار الكاتب خصيصا إلى "تمهيد الرأي العام الأوروبي الأرضية لذلك".
انقلاب فينيزيلوس
حسب قول الكاتب، عدت اليونان كل الأزمات التي واجهتها الإمبراطورية العثمانية وكل حرب خسرتها على أنها "فرصة".
ففي نهاية حروب البلقان، استولت اليونان على جزء كبير من مقدونيا وبعض جزر بحر إيجه، بما في ذلك جنوب إبيروس وسلانيك، كما ضمت اليونان جزيرة كريت أيضا إلى أراضيها.
وكشفت الانتفاضة في جزيرة كريت عن بطل قومي يوناني جديد اسمه "فينيزيلوس".
فعندما بدأت الحرب العالمية الأولى، كان قسطنطين ملكا لليونان في حين كان فينيزيلوس رئيسا للوزراء.
ويظن الكاتب أن العامل الأكبر في مشاركة اليونان في الحرب العالمية الأولى هو إمكانية حصولها على أراض جديدة غرب الأناضول، وتحقيق فكرة ميغالي (آمال إحياء الإمبراطورية البيزنطية) وهي الفكرة المثالية والهدف الأسمى لجمعية "فيليكي إيتيريا".
وحاول فينيزيلوس الانقلاب على الملك الذي كان مترددا في الانضمام إلى الحرب، لكنه تراجع دون جدوى إلى سلانيك، وأسس هناك حكومة فعلية وحارب الجيوش البلغارية والتركية على الجبهة المقدونية كحليف لإنجلترا وفرنسا.
وغزت إنجلترا وفرنسا لاحقا اليونان عام 1917، وخلعت الملك قسطنطين عن العرش نصّبت ابنه الأصغر ألكسندر ملكا، ووضعت فينيزيلوس مسؤولا عن البلاد.
كما فعلت روسيا شيئا مماثلا عندما حصلت اليونان على استقلالها، فعينت أوتتو من سلالة بافاريا ملكا على اليونانيين بحجة أنهم كانوا غير قادرين على حكم أنفسهم.
وخلال الأيام التي كان فيها فينيزيلوس الحاكم الوحيد لسلانيك، أدى الحريق الذي اندلع بسلانيك في 18 أغسطس/آب 1917 إلى تغيير البنية الاجتماعية والثقافية للمدينة بالكامل.
وفي نهاية الحريق الذي استمر 32 ساعة، احترقت مساحة مليون متر مربع أي 32 بالمئة من المدينة، وأصبح 9500 منزل غير صالح للاستخدام وتشريد 72 ألف شخص.
وقد أثَّر الحريق بشكل خاص على المنطقة التي يتركز فيها السكان الأتراك واليهود في المدينة.
وهكذا تمت مصادرة المنطقة وتوطين اليونانيين فيها بعد الحريق، وتغير التركيب السكاني للمدينة ضد الأتراك واليهود، لتتحول سلانيك إلى مدينة يونانية بالكامل.
وحسب قول الكاتب، فقد كان هذا الأمر بمثابة بداية للنهج اليوناني في التهجير، وهكذا استمر اليونانيون على هذا الأمر من عشرينيات القرن التاسع عشر حتى سبعينيات القرن العشرين، حيث فعلوا نفس الشيء بمنطقة إزمير في سبتمبر/أيلول 1922.