بعد رحيل رياض سلامة.. لماذا يرفض حاكم مصرف لبنان الجديد تمويل الحكومة؟

منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

تواجه الحكومة اللبنانية عوائق كبيرة في تمويل مصروفات الدولة بالدولار من مصرف لبنان المركزي الذي تحاول قيادته الجديدة عدم تبديد السيولة المتوفرة لديه إلا ضمن الأطر القانونية.

ويرجع ذلك لتشدد جديد من مصرف لبنان حول السحب من رصيد مخزونه المالي، لم تشهده من قبل السلطة الحاكمة في لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة منذ عام 2019.

رفض تمويل الحكومة

وجديد ذلك، إعلان حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في مؤتمر صحفي عقده في 25 أغسطس/ آب 2023 أنه "لن يجري توقيعا على أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقا خارج القانون".

وقال منصوري إن "موجودات المصرف محدودة لذا لا بد من الانتقال إلى وقف تمويل الدولة بالكامل"، مقدرا أن "الحل الوحيد لوقف اعتماد الدولة على (المصرف المركزي) يكمن بتحسين المالية العامة".

وراح منصوري وهو سادس شخصية تتعاقب على مهام مصرف لبنان منذ تأسيه عام 1963 يقول "ننظر إلى فترة انتقالية قصيرة تسمح بتمويل الدولة بموجب قانون".

ويدير منصوري وهو قانوني ومصرفي، مصرف لبنان مؤقتا منذ مطلع أغسطس بعد انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة نهاية يوليو/تموز 2023، والتي استمرت ثلاثة عقود من "الفساد"، حيث يُتهم بأنه المسؤول الأول عن انهيار لبنان الاقتصادي.

وراهنا يحاكم سلامة أوروبيا بقضايا فساد وغسيل أموال وسوء استخدام السلطة، حيث أدخل البلاد في واحدة من أخطر الأزمات المالية والاقتصادية، ومن دولار يوازي أقل من 2000 ليرة إلى 100 ألف ليرة للدولار الواحد.

ويبدي منصوري (51 عاما)، منذ تسلمه دفة المصرف المركزي تصلدا تجاه السياسات المالية الحالية، إذ ينادي بشكل علني بـ"ضرورة الانتقال إلى سياسة جديدة وهي وقف تمويل الحكومة اللبنانية بالكامل".

وشدد منصوري في ذات المؤتمر الصحفي بمقر البنك المركزي، على أن الأخير لن يطبع العملة المحلية لإقراض الدولة أو لتغطية العجز المتوقع في البلاد، وحث السلطات على إجراء إصلاحات مالية عاجلة.

وحذر منصوري من أن عدم إقرار القوانين الإصلاحية سيؤدي إلى تنامي الاقتصاد النقدي، ما سيؤثر سلبا على الاستقرار الاقتصادي، ويعرض لبنان لمخاطر عزله عن النظام المالي الدولي.

وقال منصوري كذلك إن "مشروع الموازنة لعام 2023 تضمن عجزا للدولة بمقدار 46 تريليون ليرة أي ما يفوق 24 بالمئة".

وحسب إحصاء لوكالة "رويترز" فإن هذه النسبة تبلغ نحو 500 مليون دولار بالسعر الموازي للعملة المحلية المنهارة.

وقال منصوري إن الاستقرار النقدي له أولوية، وسيتم المحافظة عليه بالوسائل النقدية التقليدية، لكنه أوضح أن المصرف لا يمكنه المحافظة على هذا الاستقرار دون التعاون مع مجلس النواب والحكومة.

وتؤكد وسائل إعلام محلية، أن الحكومة اللبنانية تحتاج إلى نحو 200 مليون دولار شهريا، لتغطية فواتير الأدوية المخصصة للأمراض المستعصية والمصاريف الخارجية للدولة، والاحتياجات الملحة لمؤسسة الكهرباء.

فضلا عن مقتضيات تلبية صرف مخصصات القطاع العام بالدولار، وتخصيص مبالغ لدعم سعر الصرف، عند الاحتياج.

سياسة المكابح

ويرى مراقبون أن اقتراحات منصوري تسير في الاتجاه الصحيح، كونه يسير بعكس اتجاه سلامة الذي كان ينفذ مصالح الطبقة الحاكمة، ما أدى إلى سرقة ودائع اللبنانيين في البنوك المحلية.

وبين الفينة والأخرى تتكرر احتجاجات في لبنان ضد المصارف؛ جراء فرضها قيودا على أموال المودعين بالعملة الأجنبية منذ عام 2019، إضافة إلى تحديدها سقوفا قاسية على سحب الأموال بالليرة.

وضمن هذه الجزئية، يشير الكاتب والباحث السياسي اللبناني، أسعد بشارة، إلى أن "منصوري يتبنى سياسة المكابح والمتمثلة بالاعتراض على كل ما يستنزف مخزون مصرف لبنان بشكل غير قانوني حتى ولو وصل الأمر لرفض مد الحكومة بتسهيلات مالية كانت تحصل عليها سابقا دون نقاش".

وأضاف لـ"الاستقلال": "يعمل منصوري وفريقه على منع الحكومة من استنزاف ودائع الاحتياطي الإلزامي البالغة قيمتها 10 مليارات دولار وهي تعود للمودعين وليس للمصرف المركزي، الأمر الذي يفتح الباب أمام سماح المصرف للحكومة بالاستدانة من ودائع الناس".

وانطلاقا من هذه النقطة راح بشارة يقول: "إنه من الخطأ القول إن المصرف المركزي هو من سيمول الدولة بل إن ودائع المواطنين هي من ستمول الدولة".

إذ يشترط منصوري أن يقدم 600 مليون دولار للخزينة الحكومية لكي تصرف بها مع بعض الاشتراطات بأن تعود هذه الأموال بالعملات الصعبة إلى مصرف لبنان، يوضح بشارة.

ومضى يقول: "ولهذا فإن ذلك يتطلب ضمانة من الحكومة اللبنانية المهترئة والفاسدة من أن تعيد هذه الأموال التي هي بالأصل من جيوب اللبنانيين المودعين".

الملاحظ أن منصوري يحاول تجنيب فترة تسلمه للمهام أي سقطات قانونية لحين انتخاب حاكم جديد لمصرف لبنان.

إذ يؤكد مراقبون أن منصوري سيقى في منصبه لحين انتخاب رئيس جمهورية جديد للبنان بعد دخول البلاد في حالة شغور رئاسي منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022 حينما انتهت ولاية الرئيس السابق ميشال عون.

ووسيم منصوري هو من أبناء بلدة عيترون الجنوبية وترعرع في بيئة "حركة أمل" الشيعية التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان سابقا يتخذ منصوري وكيلا قانونيا له.

عمولات غير شرعية

لكن رغم ذلك، فقد أصر منصوري في أغسطس على رفض تحويل ليرات مؤسسة كهرباء لبنان إلى دولارات.

وذلك وفق الآلية المتفق عليها سابقا بين الحاكم السابق رياض سلامة ووزارة المالية والقاضية بتحويل 10 ملايين دولار، لحساب المشغل المذكور بموجب عقد تشغيل وصيانة محطتي توليد "دير عمار" و"الزهراني".

ونتيجة لذلك أوقفت شركة "برايم ساوث" المشغلة لمعملي توليد الطاقة الرئيسين في البلاد "دير عمار" و"الزهراني" اللذين يوفران حوالى 550 ميغاواط من الطاقة، بسبب نقص السيولة وعجز الدولة عن دفع مستحقاتها ما أغرق لبنان في الظلام الشامل خلال أغسطس.

فضلا عن توقف تزويد مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت بالتغذية الكهربائية، حيث انتقل للعمل موقتا على المولدات الخاصة به حتى نفاد مادة المازوت لديه، وكذلك توقفت محطات ضخ المياه إلى معظم المناطق اللبنانية.

وأظهر تقرير أولي لشركة "ألفاريز ومارسال" للتدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي في لبنان "سوء إدارة" وثغرات جذرية في آلية عمل المصرف طوال خمس سنوات، والمرتبطة بشكل أساسي بحاكمه السابق رياض سلامة.

ونوه التقرير الذي صدر بتاريخ 11 أغسطس 2023 أنه "لم يجر إظهار هذا التدهور في الميزانية العمومية للمصرف المركزي التي تصدر ضمن بياناته المالية السنوية، والتي جرى إعدادها وفق سياسات حسابية غير تقليدية"، ما أتاح له المبالغة في الإعلان عن الأصول والأرباح وعدم إظهار الخسائر.

ورأت شركة "ألفاريز ومارسال" أن الهندسات المالية كانت "مكلفة". وأوردت أن سلطة سلامة، صاحب القرار الرئيس، لم تخضع لـ"رقابة" كافية.

وبين تقرير الشركة "وجود دليل على حصول دفعة عمولات غير شرعية (...) بقيمة 111 مليون دولار"، مضيفاً "يبدو أن ذلك يشكل استمراراً لمخطط العمولات قيد التحقيق" في لبنان ودول أخرى.

وفرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا عقوبات على رياض سلامة ومقربين منه بتهمة الإثراء الذاتي غير المشروع "من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات عبر شركات وهمية لاستثمارها في قطاع العقارات الأوروبي".

ويُعد التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان خطوة أساسية كونه أحد الشروط التي حددها المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان على الخروج من دوامة الانهيار الاقتصادي المستمر في البلاد.

وقد فشلت الحكومة اللبنانية في تفعيل الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار.

وفي 17 أغسطس/2023 حذر رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، من أن عدم إقرار لبنان لسلسلة من القوانين الاقتصادية المهمة للنهوض بالدولة من عثرتها يهدد الاستقرار الاقتصادي المستقبلي للبلاد.

لكن صندوق النقد الدولي قال أخيرا إنه إذا استمر الوضع الراهن في لبنان فقد يصل الدين العام إلى 547 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027.

تحركات منتظرة

وهناك من يربط سعي من يمسكون بمصرف لبنان المركزي حاليا بعدم تبديد موارد المصرف المالية الحالية على "هوى الحكومة" كما كان ساريا على زمن رياض سلامة بأهداف قريبة الأجل لتطوير العلاقات المصرفية مع بنوك عالمية، بما يحسن سمعته من جديد.

ولعل لقاء نواب لبنانيين بالحاكم بالإنابة منصوري في 23 أغسطس 2023 كشف بعضا من الخطوات التي سيلجأ إليها مصرف لبنان المركزي.

وقال النواب (ميشال دويهي ومارك ضو ووضاح الصادق) الذين زاروا منصوري، إن الأخير على استعداد للطلب من شركة "ألفاريز اند مارسال" استكمال التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.

وذلك بعدما تبيّن أنّ الحاكم السابق رياض سلامة حجب عن الشركة معلومات وبيانات في غاية الخطورة، وفقا لمصادر متابعة بحجة السرية المصرفية.

ولفت هؤلاء وفق ما نقل موقع "نداء الوطن" إلى أن العرض المشروط الذي قدمه مصرف لبنان لاقراض الدولة 1.2 مليار دولار خلال 6 أشهر لم يعد قائما.

وبالتالي، وفقا للمصادر المعنية، أصبح الكثير من حاجات الدولة بلا موارد أو اعتمادات، ما قد يجعل الوضع مأزوما جدا الى حد الانفجار الاجتماعي بعد شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر.

ولهذا يعتزم منصوري زيارة السعودية مطلع أيلول/سبتمبر 2023، فالمملكة التي أقفلت أبوابها ولم توجه دعوات إلى أي من المسؤولين في مجالي المال والسياسة، تستعد لاستقبال حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وتُعد له جدول أعمال يتضمن لقاءات اقتصادية.

وأكثر من مغزى يمكن أن يصب في معنى الدعوة السعودية لمنصوري هو يمثل اعترافا سعوديا بحاكمية منصوري وإعادة الانفتاح على المؤسسات اللبنانية.

وقد حصل التمهيد للزيارة المرتقبة من خلال استقبال السفير السعودي في بيروت وليد البخاري لمنصوري، وتطرق البحث إلى إمكانية أن تؤازر السعودية القوى الأمنية بالموضوع النقدي، على غرار ما تقوم به دول أخرى كدولة قطر التي تصرف مساعدات مالية للجيش اللبناني.