فوائد الديون تنهش جسد الاقتصاد المصري في زمن السيسي.. من يدفع الثمن؟

داود علي | منذ ساعتين

12

طباعة

مشاركة

تسببت الموازنة العامة المصرية للعام 2023/ 2024 في معركة شرسة داخل مجلس النواب المصري، بين 3 وزراء من جهة، ونائب برلماني معارض من جهة أخرى. 

ففي 14 أبريل/ نيسان 2025، كان وزراء المالية أحمد كوجوك، والشؤون النيابية والقانونية محمود فوزي، والتخطيط والتنمية الاقتصادية رانيا المشاط، يستعرضون تقريرهم عن الحساب الختامي للموازنة، قبل أن يتدخل النائب عن حزب الوفد، محمد عبد العليم داود.

وطالب داود في الإحاطة التي قدمها إلى رئيس مجلس النواب حنفي الجبالي، بإحالة تقرير الوزراء إلى الجهاز المركزي للمحاسبات لمراجعته، وإحالة الحكومة إلى النائب العام لمحاسبتها.

ووجه كلمات شديدة اللهجة في حضرة الوزراء، عندما قال: “ليس أمام ضمير أي نائب حلف على إرادة الأمة، إلا أن يطالب بإحالة الحكومة للنائب العام”، وأن على النواب "تقديم استجواب لسحب الثقة من الحكومة". 

فلماذا اعترض النائب المعارض على تقرير الحساب الختامي للموازنة؟ وما التفاصيل التي أدت إلى المطالبة بإحالة الحكومة إلى النائب العام؟ 

أرقام كارثية 

حمل الحساب الختامي للموازنة، رفضا شديدا من قبل اقتصاديين وأحزاب وشخصيات بارزة، حيث أطلقوا تحذيرات مما وصفوه بـ"الوضع الصعب والخطير"، مع أرقام كارثية وردت فيها، تتعلق برفع الدعم وزيادة الحصيلة الضريبية على المواطن.

وهو ما قد ينعكس على حياة وظروف الشعب المصري، الذي يمر بالأساس بأزمة اقتصادية وإجراءات تقشفية منذ سنوات. 

وخاصة أن الأمر يأتي في ظل  توقعات باستمرار تراجع قيمة الجنيه بالضغط عليه (بعد أن اقترب من حاجز الـ 51 أمام الدولار).

وأيضا ازدياد الرسوم والضرائب وأسعار السلع والخدمات وانتهاء دعم الوقود والسلع التموينية الأساسية (الزيت - السكر - الدقيق - الملح). 

وكانت "فوائد الديون" واحدة من أكثر النقاط الجدلية في الموازنة الجديدة، حيث بلغت وحدها أكثر من نصف الموازنة بمقدار 2298 مليار جنيه بنسبة 50.2 بالمئة. 

فيما بلغ الدعم 742.6 مليار جنيه، بنسبة 16.2 بالمئة، وبند الأجور، وتعويضات العاملين 679.1 مليار جنيه بنسبة 14.8 بالمئة. 

أما بند شراء أصول غير مالية فإن المخصص له 434.9 مليار جنيه بنسبة 9.5 بالمئة، وبند شراء السلع والخدمات فمقرر له 4.8 بالمئة، والمصروفات الأخرى وصلت إلى نسبة 4.4 بالمئة.

وقد كشفت القراءة الرقمية لبيانات موازنة العام المقبل 2025/ 2026 عن انخفاض نسبة باب الأجور وتعويضات العاملين، من إجمالي استخدامات الموازنة العامة بنسبة تقترب من 50 بالمئة، مقارنة بعام 2014 (سنة تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة النظام). 

كما كشفت  عن زيادة الدين العام الحكومي، إذ ارتفع دين أجهزة الموازنة العامة والهيئات الاقتصادية إلى نحو 18.4 تريليون جنيه، ما يمثل حوالي 90 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي  البالغ نحو 20 تريليون جنيه، وفقا لبيانات الموازنة.

أما  مدفوعات الدين فقد ارتفعت  من 1.1 تريليون جنيه في 2020/ 2021 إلى 4.38 تريليون جنيه في موازنة 2025/ 2026. 

وقال الخبير الاقتصادي، ورئيس تحرير صحيفة “الأهرام” الأسبق ممدوح الولي، معلقا على هذه الأرقام: “أبواب الإنفاق بالموازنة المصرية هي، الأجور وتعويضات العاملين، وشراء السلع والخدمات، والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، وحيازة الأصول المالية المحلية والخارجية، وسداد القروض المحلية والخارجية، والمصروفات الأخرى، تحديدا الخاصة بالجيش”.

وأوضح أن: “وزارة المالية تقدم في الموازنة تقديرات لكل بند من البنود الثمانية برقم ما، ولكن المفاجأة بأن رقم الفوائد والأقساط مثلا يرتفع؛ لأن الحكومة تقترض من الداخل والخارج، بجانب تغير سعر الصرف".

وهذه كلها "تزيد قيمة الدين، وأقساطه، وفوائده، وأيضا مع تغير سعر الفائدة بالزيادة تزيد قيمة الفوائد على الحكومة".

وأشار في مقال لموقع “عربي 21” إلى أن “خروج الموازنة بهذا الشكل يأتي نتيجة مجموعة من العوامل، على رأسها المطالب بسداد فوائد وأقساط الديون ليتمكن من الاقتراض مجددا، وهذه تمثل أولوية له تأتي على حساب الدعم الاجتماعي والمواطن”.

أعلى نسبة في التاريخ

وفيما يتعلق بالدين العام الحكومي فقد تفاقم بشدة حيث بلغ في نهاية هذا العام نحو 11.4 تريليون جنيه، أي ما يعادل 223.5 مليار دولار، مقابل 8.6 تريليونات جنيه في 30 يونيو/ حزيران 2023. 

وذلك بزيادة قدرها 2.8 تريليون جنيه خلال عام واحد، وبنسبة نمو صادمة بلغت 33.1 بالمئة.

كما بلغت أعباء خدمة الدين العام 2.639 تريليون جنيه، منها 1.355 تريليون جنيه فوائد و1.283 تريليون جنيه أقساط مستحقة، ما يمثل نحو 60.3 بالمئة من إجمالي استخدامات الموازنة، في واحدة من أعلى النسب بتاريخ الموازنات المصرية.

وبحسب ما ذكرته وكالة "رويترز" البريطانية، في 17 أبريل 2025، فإن ذلك يعني أن أعباء الدين ستلتهم حصيلة الضرائب كاملة، وجزءا آخر من إيرادات الدولة، وتطغى على المخصصات الأخرى لها من استثمارات عامة وغيرها.

وفي 28 يناير/ كانون الثاني 2025، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أن "أكثر من 43 بالمئة من مخصصات موازنة مصر العامة توجه لسداد خدمة (فوائد) الدين". وعقب أن ذلك "سيؤثر سلبا على ارتفاع التضخم وزيادة أسعار الفائدة".

وحاول مدبولي تدارك الرقم الصادم، عندما أردف في حديثه مؤكدا "ترحيب الحكومة بجميع الآراء والمقترحات الصادرة عن المختصين، سواء التقليدية أو غير التقليدية، للحد من ارتفاع الدين الإجمالي للدولة".

الحصيلة الضريبية

ومن هذه الأرقام المفزعة، كانت النظرة تتجه إلى التداعيات المنتظرة جراء إعلان الحساب الختامي، وعرض الموازنة الجديدة للعام الحالي والقادم 2025/ 2026. 

وذكرت وكالة "الشرق بلومبيرغ" في 20 أبريل 2024، أن الحكومة تخطط لزيادة الحصيلة الضريبية على السلع والخدمات بنسبة 34.4 بالمئة، لتسجل 1.103 تريليون جنيه. 

وتليها الضريبة على الدخل بنحو 915.7 مليار جنيه، بينما ستشكل الجمارك 135.7 مليار جنيه، فيما تستحوذ الضرائب العقارية على 18 مليار جنيه، مع رفع إيرادات ضريبة القيمة المضافة بنحو 50.2 بالمئة لتبلغ 640.4 مليار جنيه، بزيادة 214 مليار جنيه كاملة عن موازنة العام المالي (2024/ 2025).

وأعلن حزب "غد الثورة" المعارض أن الحساب الختامي للموازنة "يضم مؤشرات كارثية تجسد فشل السياسات المالية للدولة". 

وأكد أن "استحواذ أعباء خدمة الدين على أكثر من 60 بالمئة من إجمالي استخدامات الموازنة يترك أقل من 40 بالمئة فقط لبقية القطاعات الحيوية كالتعليم، الصحة، والدعم الاجتماعي، ويؤكد الطابع غير التنموي للموازنة العامة".

تداعيات صادمة 

وبالفعل بدأت أولى تبعات إعلان الموازنة العامة على الموطنين، عندما أعد حزب مستقبل وطن، الموالي للسيسي، وصاحب الأغلبية في مجلس النواب، مشروع قانون يقضي بإلغاء إعفاء 19 سلعة من أصل 57 من الضريبة المحددة بـ 14 بالمئة. 

ففي 15 أبريل 2025، وبعد يوم واحد من إقرار الموازنة، تقدم الحزب بالمشروع، تحت بند ضمان حزمة من الإصلاحات الهادفة إلى زيادة إيرادات الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وبرر النواب عن الحزب المشروع، بأنه استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي بشأن تقليص الإعفاءات من الضريبة.

وقال الصحفي الاقتصادي المصري، مصطفى عبد السلام، معلقا على الموازنة الجديدة ونتائجها علي المواطن: "إن هذا الوضع سيؤدي إلى بيع مزيد من أصول الدولة مثل البنوك والشركات، وهنا نتحدث عن بيع بنوك عملاقة مثل بنك القاهرة، وشركات قطاع عام كبرى".

وتابع في مقالة لصحيفة “العربي الجديد” في 15 أبريل 2025: "سيؤدي أيضا إلى بيع مزيد من أراضي الدولة، وتكرار سيناريو مشروع رأس الحكمة الذي تم بيعه للإمارات خلال العام 2024 بقيمة 35 مليار دولار". 

وتحدث عبد السلام عن الجزئية التي عدها الأخطر بقوله: "سيكون هناك اغتراف للمزيد من القروض الخارجية، وبالطبع يأتي صندوق النقد والبنك الدوليين في مقدمة الدائنين المستهدفين".

وأكمل: "هذا التوسع له مخاطره الشديدة، سواء على النظام السياسي أو الاقتصادي، أو على النسيج المجتمعي، حيث يعمق الأزمات المعيشية والفقر والبطالة ويقضي على ما تبقى من طبقة وسطى".

القهر الاقتصادي

وفي تعليقه على موازنة مصر الجديدة، وسط ما يثار من تحذيرات عن أرقام صادمة ومؤشرات سلبية تنذر بسنة مالية صعبة، تحدث الباحث الاقتصادي المصري أحمد يوسف، عن أن الموازنة الحالية تكشف الواقع المالي من حيث الفجوة الكبيرة بين المعلن والمنفذ.

وأشار في حديثه لـ "الاستقلال"، إلى أن وزير المالية أحمد كوجوك يعتمد في خطاباته على البيان المالي، الذي يظهر أرقاما توحي بزيادة في بنود الدعم الاجتماعي على سبيل المثال. 

وتابع أن تلك الأرقام لا تعكس الحقيقة الفعلية، فالعبرة ليست ببيان الموازنة، بل بالحساب الختامي الذي يرصد ما تم إنفاقه فعليا في نهاية السنة المالية. 

ولفت الباحث المصري إلى أن الحساب الختامي الذي أقره البرلمان أظهر ارتفاعا في المصروفات لقرابة نصف مليار جنيه عن البيان المالي السابق، وهو ما يظهر حجم الفجوة بين التقدير والتنفيذ.

ورأى يوسف أن البرلمان لم يكلف نفسه بتحليل أوجه الخلل أو طرح الأسئلة المحورية، أين ذهبت تلك الأموال؟ وهل ما خصص للاستثمار أو الدعم الاجتماعي قد تحقق بالفعل؟ بصفته الجهة التشريعية المسؤولة عن محاسبة الحكومة. 

وأوضح أن وزارة المالية، أعلنت خلال خطتها السابقة للسنة المالية الحالية محاولتها ضبط الإنفاق.

لكننا فوجئنا بأن أرقام الفوائد والأقساط ترتفع قسرا، نتيجة توسع الحكومة في الاستدانة داخليا وخارجيا، إضافة إلى التغيرات في سعر الصرف وارتفاع أسعار الفائدة.

وتابع، أن الوضع يضاعف عبء خدمة الدين ويجعله أولوية تقدم على أي بند آخر، بما في ذلك الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي.

وهنا تبرز المفارقة الكبرى، بحسب الباحث الاقتصادي، فبينما تحمل الحكومة المواطن أعباء إضافية تحت راية "الإصلاح المالي"، من خلال رفع الدعم التدريجي عن الطاقة والغذاء، وتجميد الأجور، وتقليص الإنفاق على الخدمات العامة.

تأتي الموازنة الجديدة محملة بزيادات ضريبية واسعة النطاق، وتراجعات في الإنفاق الاجتماعي.

وأكمل أن هذا التناقض يفتح بابا واسعا للتساؤل: كيف لحكومة أن تفرض إجراءات تقشفية قاسية على المواطنين، بينما تفشل في كبح انفلات فوائد الديون؟ وهل أصبحت الموازنة العامة مجرد جدول حسابات لخدمة الدائنين، لا المواطن؟

واختتم: "هكذا، يجد المواطن المصري نفسه اليوم مطالبا بالمزيد من التضحيات، بينما تتقلص الخدمات، وتتصاعد الديون، وتحاصر الموازنة بقيود لم يعد له فيها نصيب إلا من القهر المالي والمعيشي".