"جهاز الردع" و"اللواء 444".. ماذا وراء الصدام بين أكبر قوتين تحميان طرابلس؟

12

طباعة

مشاركة

خلط جديد للأوراق في المشهد الليبي، بعد اشتباكات عنيفة شهدتها العاصمة يومي 14 و15 أغسطس/ آب 2023، بين أكبر قوتين عسكريتين تحميان -مع قوى أخرى- طرابلس، وهما "جهاز الردع" التابع للمجلس الرئاسي، و"اللواء 444" التابع لحكومة عبد الحميد الدبيبة.

الاشتباكات التي أسفرت عن 55 قتيلا و146 جريحا، وأسرى من الطرفين، وقعت في أعقاب احتجاز "جهاز الردع" الذي يقوده السلفي المدخلي، عبد الرؤوف كارة، لآمر "اللواء 444"، محمود حمزة، خلال سفره عبر مطار معيتيقة الذي يسيطر عليه الأول.

ورغم انتهاء الاشتباكات بعد يومين والاتفاق على تسليم حمزة لطرف ثالث محايد، لا يزال الغموض يسود حول ما جرى وتداعياته، خصوصا على خطة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ظل وجود مليشيات مسلحة بالعاصمة.

الطرفان المتصارعان

وطرحت هذه الاشتباكات بين أقوى فصيلين من الفصائل المسلحة نفوذا في المدينة، تساؤلات حول أسبابها وعلاقة ما حدث بالتحركات غير العادية شرق ليبيا، حيث تتمركز مليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر المدعومة إماراتيا.

وهل ما جرى خلط مستهدف للأوراق في طرابلس لتشتيت قوات حماية وتأمين العاصمة كمقدمة لاجتياح مليشيا الانقلابي حفتر للمدينة التي ظلت عصية عليهم، أم أن الأمر يدخل في إطار صراع النفوذ بين الأجهزة ورغبة كل فريق في فرض سطوته وصوته علي الحياة السياسية؟.

ويوجد في طرابلس خمسة مليشيات أو قوى عسكرية رئيسة تحميها، أولها "قوات الردع" وهي من أكبر المجموعات المسلحة في العاصمة، ويقودها عبد الرؤوف كارة.

وتتخذ هذه القوات من مجمع مطار معيتيقة مقرا لها، وتتكون من حوالي 1500 عنصر وتحل محل الشرطة في طرابلس.

والثانية "كتيبة ثوار طرابلس" التي يقودها أيوب بوراس وهي أكبر المليشيات المسلحة المسيطرة على المدينة، وتضم 9 مجموعات مسلحة متوزعة في غالبية مناطق طرابلس، وتتخذ من مناطق الفرناج وعين زارة وبئر الأسطا ميلاد مقرا لها.

ويتراوح عدد أفراد "كتيبة ثوار طرابلس" بين 2800 و3500 عنصر، وقد تكفّلت هذه العناصر بحماية المجلس الرئاسي والمواقع الإستراتيجية.

والثالثة قوات "اللواء 444" التي ظهرت منذ عام ونصف فقط، لكنها بدأت تنتشر وتقوم بأدوار هامة في حماية الحكومة والمجلس الرئاسي، ما أثار قلق بقية القوى العسكرية بالعاصمة منها، وأيضا الحكومة.

والرابعة "النواصي" التي تضم مقاتلين غالبيتهم من "الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة"، ويبلغ عدد مقاتليها نحو 2000 عنصر، وهي تمتلك أسلحة متوسطة.

وهناك أيضا "قوة الردع المشتركة" التي يقودها عبد الغني الككلي الملقب بـ"غنيوة" كخامس أكبر القوى في العاصمة.

تصفية حسابات

ويشير تاريخ العلاقة بين آمر "اللواء 444"، حمزة، ومسؤول جهاز الردع، كارة، إلى انفصال الأول عن قوات الثاني ووجود خلافات بينهما.

وهو ما عده محللون ليبيون "دليلا قاطعا" على أن ما فعله كارة، والقيادي في جهاز الردع، علي الجابري، مع حمزة لا يتعدى كونه "تصفية حسابات".

ورغم دورها في حماية العاصمة من عصابات المخدرات ومنع الجريمة والحفاظ على الاستقرار، تثار علامات استفهام حول قوة الردع أو "جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة" بسبب ما يراه ليبيون أن أفراده "أسوأ من في السلفية المدخلية المتشددة" التي تنتشر في إفريقيا.

هذه القوة ركزت نشاطها الشُرطي على محاربة مروجي المخدرات والخمور ومرتكبي جرائم السرقة والخطف وحتى تجارة العملة.

وقامت أيضا بدور مهم في القبض على خلايا نائمة تتبع "تنظيم الدولة"، مما أكسبها شعبية اجتماعية كبيرة خصوصا في منطقة سوق الجمعة.

وغالبا ما يردد شيخها كارة أنه غير معني بالسياسة، وإنما بالعمل على حفظ أمن الناس، وهو يتبع مفهوم الولاء السلفي التقليدي لولي الأمر، لذلك يرون "المجلس الرئاسي" هو ولي الأمر الحالي.

ولم يكن كارة من وجوه "ثورة فبراير" البارزين عام 2011، لكن برز اسمه عندما شكل "كتيبة النواصي"، التي ركزت على محاربة مروجي المخدرات والخمور، مما أكسبه شعبية بين العائلات التي تخشى على أبنائها من تعاطي المخدرات.

ثم شكل "قوة الردع الخاصة" واتخذ من قاعدة معيتيقة مقرا له، كما انضم إلى عملية "فجر ليبيا" عندما سيطرت على طرابلس عام 2014.

أما "محمود حمزة" قائد "اللواء 444"، الذي أدى اعتقاله في مطار معيتيقة الدولي إلى اندلاع قتال مع "قوة الردع" التي اعتقلته، فقد عمل في مكتب زعيم الجماعة الليبية المقاتلة سابقا، عبد الحكيم بلحاج، في معيتيقة.

وأكمل حمزة مسيرته العسكرية بالانضمام لـ"قوة الردع" التي يقودها كارة، وعمل ناطقا باسمها، وقاد فترة عملياتها الأمنية.

لكنه انفصل عنها وأسس كتيبة "20-20" ومقرها معيتيقة، التي تحولت لاحقا إلى "اللواء 444" وانضمت إلى رئاسة الأركان التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط" في 15 أغسطس/آب 2023. 

ويعد "اللواء 444" من أكثر القوى العسكرية تنظيما، وتنتشر معظم قواتها جنوب العاصمة، كما تسيطر على مدن بارزة في غرب ليبيا، وتحديدا ترهونة وبني وليد، حتى جبل نفوسة غربا، وتخوم مدينة الشويرف جنوبا.

وتقوم بتأمين أجزاء واسعة من الطريق الرابط بين العاصمة وجنوب البلاد، وهذه المساحة الشاسعة التي تسيطر عليها جعلت القوة تتموضع بشكل جيد على الساحة العسكرية في ليبيا.

وتحالف حمزة قائد اللواء الذي أسس في طرابلس عام 2019، مع حكومة الوفاق السابقة برئاسة فائز السراج، ولعب دورا مهما في إحباط الهجوم الذي شنته مليشيا حفتر لاحتلال طرابلس والسيطرة عليها.

ويعد أحد أبرز المقربين من رئيس حكومة الوحدة، وكان في طريقه للانضمام إليه لحضور حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط الكلية العسكرية الجوية بمدينة مصراتة، الواقعة غرب البلاد، قبل احتجاز قوة الردع له.

ولمع نجم حمزة في المشهدين السياسي والعسكري، بعدما لعب دور الإطفائي لإنهاء قتال المليشيات المسلحة، حيث نجح خلال عام 2022 في وقف اشتباكات مسلحة في منطقة سوق الثلاثاء وسط العاصمة بين مجموعات تابعة لقوة النواصي بوزارة الداخلية، وجهاز حفظ الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، ونشر قوة محايدة. 

كما نجح حمزة في إخراج رئيس الحكومة السابق المكلف من البرلمان، فتحي باشاغا، من طرابلس، وقام باصطحابه من منطقة النوفليين إلى خارج العاصمة؛ لإيقاف الاشتباكات التي اندلعت بين مجموعات مسلحة مؤيدة لحكومة الدبيبة، وأخرى داعمة لباشاغا، بعد ساعات من وصول الأخير إلى المدينة لمباشرة أعمال حكومته.

أسباب الصدام

لتبرير اعتقال آمر اللواء 444، والذي تسبب في اندلاع قتال بين قوات الطرفين، قال "جهاز الردع" برئاسة كارة في بيان، إن القبض على حمزة تم وفقا لمذكرة قبض بأوامر من المدعي العام العسكري، لكن مصادر ليبية تقول إنه بسبب صراع النفوذ بينهما.

مصدر من قوات الردع قال في تصريحات صحفية نشرتها منصة "ليبيا برس" في 15 أغسطس 2023 إن المُدعي العسكري، مسعود رحومة، أصدر أمرا بالقبض على العقيد حمزة "نتيجة وجود محاضر ضده"، وإن حمزة أكد لقيادات اللواء 444 ذلك عقب إطلاقه.

ويصدر المدعي العام العسكري، رحومة، أوامر عدة ولا ينفذ الكثير منها، مثل طلبه في 28 أغسطس 2022، بالقبض على باشاغا، والجنرال أسامة جويلي، ورئيس الحزب الديمقراطي الليبي، محمد صوان، لاتهامهم بما أسماه "العدوان على طرابلس وترويع الآمنين"، لكن لم يتم القبض عليهم.

فلماذا قام مسؤول جهاز الردع بتنفيذ هذا الأمر من المدعي العسكري بالقبض على آمر اللواء "444"؟.

المحلل السياسي، علاء فاروق، أوضح في تفسيره لاعتقال حمزة وما تبعه من صدام جهاز الردع و"اللواء 444"، أن ذلك "يدخل في إطار صراع النفوذ والسيطرة".

وأوضح فاروق لـ"الاستقلال" أن آمر "اللواء 444"، ظهر بقوة في الفترة الأخيرة رغم أنه تشكل منذ عام ونصف بسبب قدرته على منع وقوع صدامات بين كتائب مسلحة غرب البلاد، ما أثار حفيظة جهاز الردع وكارة.

وقال إن "مجموعة الردع" التي تنافس اللواء 444 هي أقرب لفكر المداخلة (السلفي) ومدعومة من السعودية، وهي تريد التفرد بالقرار غرب البلاد والعاصمة، خاصة أنها تسيطر منذ سنوات على مطار معيتيقة الدولي.

فيما تتوقع مصادر ليبية أن يكون تصاعد نفوذ حمزة والاستعراض العسكري الأخير الذي شارك به اللواء 444 بـ6 آلاف مقاتل، أقلق حكومة الدبيبة، وجهاز الردع الذي له عداوات سابقة مع حمزة فاستغل الأخير قلق الدبيبة وقوى أخرى منه واعتقله.

وقالت المصادر إن هناك قلقا أيضا من حمزة واللواء 444 من جانب حكومة طرابلس، لأن لديه تواصلا مباشرا بحكومة الشرق والانقلابي حفتر، وسبق له أن سهل خروج باشاغا من طرابلس للشرق عام 2021.

مع هذا التقى الدبيبة مسؤول الردع كارة برفقة وزير الداخلية، عماد الطرابلسي، وطلب منه إطلاق حمزة الموالي له، لكن رئيس جهاز الردع رفض منتظرا قرارا من المجلس الرئاسي.

وقالت منصة "ليبيا برس"، الموالية لحفتر، في خبر نشرته في 16 أغسطس 2023، إنه في الفترة السابقة تم التشديد على ضرورة استبدال حمزة من منصبه خلال اجتماع لبعض القيادات العسكرية في طرابلس، بحضور ضباط أتراك. 

ونقلت صحيفة "عاجل الإخبارية" عن كارة قوله 16 أغسطس 2023: "أنا تحت إمرة محمد المنفي (رئيس المجلس الرئاسي) القائد الأعلى للجيش، والدبيبة لا يملك أي سلطة على قواتنا".

ورقة قوة

وفسر الصحفي خليل الحاسي، تأخر مجموعة الردع في إخلاء سبيل آمر "اللواء 444" رغم الضغوط والتكلفة الباهظة في القتال، بأمرين، ‏الأول، أن إطلاق قوة الردع سراح حمزة سيجعلهم ضعفاء أمام القوى الأخرى وستكون بداية النهاية لنفوذهم وسيكونون أيضا تحت طائلة التهديد وعمليات الانتقام اللاحقة.

‏والثاني، أن استمرار احتجاز حمزة ورقة قوة مهمة من أجل الحصول على ضمانات المحافظة على مناطق نفوذ مجموعة الردع التي استحوذ عليها حمزة بعد طرد مجموعة أيوب بوراس والنواصي والتاجوري أثناء محاولة باشاغا دخول طرابلس، إضافة لضمانات التهدئة الشاملة.

‏ورأى الحاسي أن جهاز الردع "ارتكب خطأ فادحا باحتجاز حمزة، وسيستهلك هذا القرار الكثير من رصيده الشعبي"، لذا تراجع وأطلق سراحه في 17 أغسطس 2023.

لكن الاشتباكات أثارت أيضا تساؤلات حول أسبابها بالتزامن مع تعيين رئيس جديد للمجلس الأعلى للدولة هو محمد تكالة، وعزل الرئيس السابق خالد المشري.

زادها غموضا إصدار رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، أمرا لجهاز الردع الرئاسي بإحالة آمر "اللواء 444" محمود حمزة، لرئاسة الأركان العامة للجيش، على أن يُشكِل وزير الدفاع لجنة للتحقيق في الأحداث.

بالتزامن مع الاشتباكات، رصدت منصات ليبية تحركات عسكرية لقوات الانقلابي حفتر الذي سبق أن حاول غزو العاصمة مرتين عامي 2019 و2021 وفشل.

منصة "ليبيا برس" عبر فيسبوك نشرت في 16 أغسطس 2023 صورا قالت إنها من تحركات عناصر مرتزقة فاغنر رفقة قوة عسكرية تابعة لحفتر عبر طريق الحنيوة في سرت باتجاه قاعدة الجفرة.

وقال نشطاء ليبيون إن كثرة الخلافات العسكرية تهدد أمن العاصمة وتصب في صالح الانقلابي حفتر وقوى إقليمية أخرى مثل مصر والإمارات، لا ترغب في سيطرة قوى ثورة ليبيا على السلطة والسلاح في ليبيا.

وبالتزامن أيضا نشر موقع "أفريكا إنتليجنس" الاستخباراتي الفرنسي في 16 أغسطس 2023 تقريرا عن أن "الصديق (نجل حفتر) يعزز حضوره الإعلامي ويتطلع لرئاسة ليبيا"، ضمن محاولات والده جعله خليفته وفرضه رئيسا.

ولفت الموقع إلى أن "الصديق، وهو الابن الأكبر للانقلابي خليفة حفتر هو أكبر أفراد عائلة حفتر ويميل إلى حضور المؤتمرات المتعلقة بالاقتصاد، وارتداء الملابس الحديثة لا الزي الرسمي والاستعراضات العسكرية، ويدير صفقات والده السياسية".

تداعيات الاشتباكات

وتركت الاشتباكات أثرا سلبيا وتشاؤما حول نجاح العملية السياسية وإمكانية تحقيق الاستقرار السياسي في ظل حجم النفوذ الذي تتمتع به التشكيلات المسلحة، وإلى متى يستمر هذا الوضع المهتز أمنيا وتتجدد الاشتباكات؟ وكيف يمكن السيطرة على السلاح المنفلت؟.

فهذه ليست أول مرة تحدث فيها اشتباكات بين "الردع" و"اللواء 444"، ففي 28 مايو/أيار 2023 شهدت طرابلس اشتباكات استمرت ساعات بينهما على خلفية اعتقال جهاز الردع أيضا أحد القادة التابعين للواء 444.

ويرى مراقبون استحالة إجراء الانتخابات في مثل هذه الأجواء الموجودة بالعاصمة وغرب ليبيا مهما توصلت الأطراف السياسية إلى توافقات على قوانين الانتخابات وكيفية ووقت إجرائها.

ويؤكدون أن اشتباكات طرابلس الأخيرة أثبتت عدم وجود أي سيطرة على الجماعات المسلحة في العاصمة.

وحذرت المحللة الجيوسياسية الإيطالية، روبرتا لا فورتيتسا، من تصاعد التوترات مرة أخرى في ليبيا نتيجة تغيير التوازن السياسي بها.

وأشارت لا فورتيتسا لوكالة "نوفا" الإيطالية في 16 أغسطس 2023 إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار في طرابلس "جنب البلاد تصعيدا عسكريا وشيكا".

وأوضحت أن إعادة التنظيم العام للتوازن السياسي في ليبيا تُجرى منذ شهور، مشيرة إلى "سلسلة لقاءات بين مقربين من الدبيبة والانقلابي حفتر".

وتوقعت أن يؤدي أي اتفاق حكومي محتمل بين الرجلين القويين في ليبيا "للتأثير بشكل متزايد على توازن الجماعات المسلحة وقيادتها"، حسب قولها.

وشددت لا فورتيتسا على أن الجماعات المسلحة المختلفة الناشطة في ليبيا "لن ترغب في التخلي عن المناصب التي اكتسبتها بالفعل، بل على العكس من ذلك، يمكن أن تزيد الضغط على الشخصيات السياسية الرئيسة في البلاد".