لهفة العسكر على كرسي الحكم.. ما أسباب تزايد الانقلابات في إفريقيا؟
يتواصل أنين أم القارات "إفريقيا" على وقع الانقلابات العسكرية في أطراف عدة من بقعتها الجغرافية، فما علة هذا الوضع المأزوم؟ وهل من سبيل للخروج من المأزق القائم؟
آخر هذه الانقلابات كان في دولة النيجر، 26 يوليو/تموز 2023، والذي نفذه الحرس الرئاسي على الرئيس محمد بازوم.
وبعد احتجاز بازوم، أعلن رئيس الحرس الرئاسي وقائد الانقلاب الجنرال عمر تشياني تعيين نفسه رئيسا للمجلس الانتقالي.
وإضافة إلى النيجر، وقعت سلسلة انقلابات عسكرية بدول إفريقية عدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ومنها مالي في أغسطس/آب 2020، والذي أسقط خلاله الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا.
ثم بعدها وقع انقلاب عسكري ثان، أسر على إثره الرئيس باه نداو المعين من لدن الجيش، وتولى العسكر حكم البلاد بشكل مباشر.
بدورها، شهدت تشاد في أبريل/نيسان 2021، أحداثا غير عادية، حيث قُتل الرئيس إدريس ديبي، الذي حكم البلاد لمدة ثلاثة عقود، حكم فيها عقب وصوله للسلطة بانقلاب عسكري سنة 1990 بدعم فرنسي.
وفي مارس/آذار 2021، كانت هناك محاولة انقلاب فاشلة في النيجر، حين حاولت وحدة عسكرية الاستيلاء على القصر الرئاسي بالعاصمة نيامي، أياما قبل أداء الرئيس محمد بازوم لليمين الدستورية، عقب انتخابه رئيسا للبلاد.
وفي سبتمبر/أيلول 2021، أطيح بالرئيس الغيني ألفا كونكري، بعد انقلاب عسكري قاده العقيد مامادي دومبويا، بمعية جنود النخبة، الذين استولوا بعدها على السلطة.
ثم في أكتوبر/تشرين أول 2021، استولى المكون العسكري في السودان بقيادة عبد الفتاح البرهان على السلطة، وأزاح رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، وعطل العمل بالوثيقة الدستورية التي تنص على تقاسم الحكم بين المدنيين والعسكريين.
وفي بوركينا فاسو، أطاح الجيش بالرئيس روك كابوري في يناير/كانون ثاني 2022، وعلق الجيش العمل بالدستور، وحل الحكومة والبرلمان وأغلق الحدود.
وقاد الانقلاب العسكري سانداوغو داميبا، وهو ضابط مشاة كبير في الجيش البوركيني، تخرج في المدرسة العسكرية في باريس، وحصل على الماجستير في العلوم الجنائية بمعهد (CNAM).
خلفيات العودة
لفهم خلفيات هذه العودة المتنامية للانقلابات العسكرية بالقارة الإفريقية، قال رئيس المركز المغاربي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية نبيل الأندلوسي، إن أسبابها متعددة ومختلفة، باختلاف الدولة الواقع فيها، لكن هناك أمورا رئيسة مشتركة في كثير منها.
ومن هذه الأسباب، يقول الأندلوسي لـ "الاستقلال"، التدخلات الأجنبية في شؤون الدول الإفريقية، ورغبة قوى دولية وإقليمية في صناعة نخب حاكمة، مدنية وعسكرية، موالية وتابعة.
وتابع أن "هذا الهدف لا يتأتى في حالات معينة إلا بدعم الانقلابات العسكرية للتمكين لهذه العناصر الموالية، خاصة أن القارة الإفريقية غنية بالثروات الطبيعية والمعادن النفيسة".
وهو ما يفتح شهية هذه القوى والدول لصناعة أنظمة طيعة قادرة على تمكينها من استغلال ثروات هذه البلدان التي أصبحت نقمة عليها.
وأضاف الأندلوسي، أن من الأسباب "انعدام الاستقرار السياسي وهشاشة النظام الدستوري، وضعف الهياكل والمؤسسات في الدول الإفريقية".
هذا إضافة إلى "هشاشة وضعف الوضع الاقتصادي، بسبب غياب الاستقرار، وحدوث اضطرابات أمنية تهيئ بيئة مواتية للانقلابات".
ورأى رئيس المركز البحثي، أن من أسباب هذه الانقلابات أيضا، "غياب ممارسات راسخة في التناوب على السلطة، وعدم الإيمان بالآليات الديمقراطية كوسيلة للحكم وتدبير شؤون الدولة".
و"أحيانا يكون البعد القبلي حاضرا، في العمليات الانقلابية، خاصة أن التركيبة القبلية تهيمن على الخريطة السياسية في بعض الدول الإفريقية".
وتوقف الأندلوسي عند عامل ضعف الولاء الوطني لبعض الجيوش الإفريقية، خاصة تلك التي تتلقى تدريبات في دول أخرى، مما يمكن ضباطا من نسج شبكة علاقات يمكن أن تستغلها بعض الدول لاختراق المنظومة الوطنية.
في المقابل، يستدرك الباحث الأكاديمي: "يمكن أن تكون وطنية الجيش هي السبب في حدوث بعض الانقلابات".
إذ إن الفساد الذي ينخر العديد من الأنظمة الإفريقية، يمكن أن يكون هو الدافع لدى قيادات عسكرية وطنية، للانقلاب على فساد النظام رغبة في التغيير.
وخلص الأندلوسي إلى أن أحد الأسباب أيضا لهذه الإشكالية، يرتبط بضعف آليات الردع القانوني للانقلابات، والذي "يبقى من أبرز أسباب استمرار الظاهرة".
تحولات مخيفة
قال الرئيس السابق لمفوضية حقوق الإنسان في السودان، عبد المنعم عثمان طه، إن "ما يشهده العالم من ظروف جديدة في ظل العسكرية الدولية وتأثيرها في إفريقيا تأكيد لتحولات ما تزال تشهدها القارة".
ورأى أن هذا " دلالة على عدم نضج سياسي واجتماعي واقتصادي تعانيه معظم دولها، لتشكل هذه الحيثيات جميعها دوران الأحداث"، وفق ما قال لـ "إندبندنت عربية"، 29 يوليو 2023.
وتوقع ألا يكون انقلاب النيجر، الأخير في القارة، وفي منطقة الساحل على وجه الخصوص، بسبب مشكلات الغذاء والمال، وما تمثله وتلعبه الدول الكبرى مثل روسيا وفرنسا وغيرها من أنماط استغلال وعقلية استعمار وأدوار سالبة تجاه حاجات دول إفريقيا واستقرارها، وفق تقديره.
وأردف، ذلك أنها "بدلا من المساعدة على البناء لتمكين القدرة الذاتية لهذه البلدان وتحقيق الاستقرار، تستغل هذه الدول (الكبرى) على حاجة القارة وثرواتها على حد سواء".
وذكر طه أن "الواقع الاقتصادي المتردي يمثل كبرى المشكلات، إضافة إلى عدم استقرار المجتمعات الإفريقية نتيجة الحروب الداخلية، والتنافس السياسي والديني والإثني".
أما إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض في مراكش، فركز على إشكالية هشاشة الدولة في القارة الإفريقية، بصفتها السبب الرئيس لوقوع الانقلابات العسكرية.
ورأى لكريني في تصريح نقله موقع "هسبريس"، 28 يوليو 2023، أن هذه الانقلابات "تشوش على إفريقيا التي بدأت تظهر كقارة شهدت إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية".
وأفاد المتحدث ذاته بأن ما جرى ويجرى في النيجر وعدد من البلدان الأخرى "يحيل إلى وجود إشكالات اجتماعية واقتصادية لم يجر حسمها مقارنة مع الانتعاش السياسي، وبروز شخصيات سياسية أفرزتها صناديق الاقتراع في إطار ديمقراطية إفريقية فتية".
وشدد الأستاذ الجامعي أن النيجر، شأنها شأن عدد من البلدان الإفريقية، "تعيش على إيقاع معضلات اقتصادية واجتماعية وأمنية، مرتبطة بهشاشة الوضع الأمني".
وأوضح أن "إفريقيا بالنظر إلى إمكانياتها وثرواتها البشرية والاقتصادية والطاقية، أصبحت تشهد تهافتا كبيرا من قبل القوى الدولية والإقليمية الكبرى".
وذكر أستاذ العلاقات الدولية أن هذا التهافت شكل "عاملا أسهم فيما حدث في النيجر، وهو راجع بالأساس إلى هشاشة الدولة وعدم بنائها على مقومات قوية".
وبين الأكاديمي المغربي أن التداعيات اليوم تبين أن "التهافت والتنافس على إفريقيا لم يعد ذا طابع اقتصادي صرف، وإنما أصبح يشتغل بمقومات وآليات عسكرية وصلت حد التحريض على الانقلابات والتأثير على أمن واستقرار الكثير من البلدان الإفريقية".
ثروات جاذبة
وبدوره، قال خالد شيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول في مدينة وجدة المغربية، إن الانقلابات في إفريقيا لها سببان أساسيان، أولهما داخلي وثانيهما خارجي.
وأوضح شيات لـ "الاستقلال" أن العامل الداخلي يتعلق بظروف نشأة الدولة بمناطق الانقلابات، والتي قامت في نطاق جغرافي على إرث استعماري غير متزن.
وذكر أن هذا جعل التداخل مع مفهوم الدولة الحديثة في مجموعة من المناطق مسألة صعبة.
وأيضا بسبب الوجود القبلي والإثني، المخالف لمنظومة السلطة في هذه الدول، التي لم ترتق بعد إلى مفهوم العيش المشترك الجالب للاستقرار.
وقال الأستاذ الجامعي إن هذا وضع طبيعي، بالنظر إلى أن بناء الدولة الوطنية في إفريقيا أمر جديد، وفي إطار تناقضات موضوعية، سواء على مستوى النطاق الجغرافي أم البنية الاجتماعية والسياسية.
وتابع: "وأيضا لغياب التأطير السياسي الطبيعي الذي يتناسب مع طبيعة الثقافة الإفريقية، بما في ذلك مفهوم الأحزاب".
وأما العامل الخارجي المؤثر في تنامي الانقلابات بإفريقيا، فقال شيات إن مرده أن القارة غنية، وفيها الكثير من المعادن النفسية والنادرة، وهذا جعلها دائما محل أطماع كثيرة.
وذكر الأستاذ الجامعي أن هذه الأطماع كانت أساسا من قِبل القوى المؤثرة، وبالخصوص القوى الأوروبية التقليدية، وأيضا قوى جديدة، كأميركا وروسيا والصين وغيرها، والتي تفضل أن تتعامل مع منظومة سلطوية غير ديمقراطية بدول القارة.
وأوضح أن التعامل مع أنظمة سلطوية يسهل على الدول الغنية أو الغربية استغلالها، في حين أن المنظومة الديمقراطية فيها أنواع كثيرة من الرقابة والمراقبة، وهو ما يصعب وصول الدول المذكورة إلى الموارد المطلوبة.
ولذلك، يردف شيات، أن كثيرا من الدول تفضل أنظمة سياسية غير ديمقراطية، بل إنها تتدخل في كثير من الأحيان لدعم التغييرات غير الدستورية للسلطة في الدول الإفريقية، بما فيها المساعدة على الانقلابات.
دراسة فاحصة
في دراسة سابقة للمركز الإفريقي للدراسات الإستراتيجية، نشرها في 3 يناير/كانون ثاني 2022، ذكر أن من بين الأسباب التي تجعل القارة تشهد انقلابات عسكرية، أن منفذيها يعتقدون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب بأقل تكلفة ممكنة.
وتوقفت الدراسة التي نشرها المركز على موقعه الإلكتروني، عند سبب آخر، ويتمثل في تراجع استعداد الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لفرض قواعد مناهضة للانقلاب في إفريقيا.
ورأت أن هذا جاء نتيجة تلاقي عدة عوامل، بما في ذلك الركود الديمقراطي الإقليمي، وميل الهيئات الإقليمية للتفاوض على حلول وسط مع قادة الانقلاب، والتحفظ على التدخل العسكري، وتشتيت انتباه الجهات الفاعلة الدولية من خلال الأزمات الداخلية وغيرها.
وشددت الدراسة أن الجهات الفاعلة الدولية تلعب دورا حاسما في تمرير الانقلابات.
وتابعت، أنه "من خلال التعامل مع الانقلابات على أنها وسيلة مؤسفة ولكنها طبيعية لنقل السلطة في إفريقيا، تقدم الجهات الفاعلة الدولية عن غير قصد يد المساعدة لقادة الانقلابات للوصول إلى خط النهاية لتعزيز انقلابهم".
ورأت الدراسة، أن أهم عمل يمكن أن يقوم به المجتمع الديمقراطي الدولي لعكس اتجاه الانقلابات في إفريقيا هو تحفيز الديمقراطية.
وشددت على أنه يجب على الحكومات الإفريقية التي تلتزم بالممارسات الديمقراطية وتدعمها أن تحصل على دعم دبلوماسي أكبر بكثير، ومساعدة تنموية وأمنية، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار الخاص بها.
وأضاف المصدر ذاته، أن الجانب الآخر في تقديم الحوافز للديمقراطيين في إفريقيا، يتمثل في الحاجة إلى فرض تكاليف حقيقية باستمرار على صانعي الانقلاب.
واسترسل: "فلا يجب الاعتراف بأولئك الذين يستولون على السلطة خارج نطاق القانون، كما ينبغي تعليق المساعدات المالية ووسائل تخفيف أعباء الديون، وتجميد أصول قادة الانقلابيين وحرمانهم من الوصول إلى النظام المالي الدولي".
ولفتت الدراسة إلى أنه "يجب حرمان الحكومات المنبثقة من الانقلاب من الوصول إلى الحسابات السيادية".
كما نبهت إلى أنه "يجب أن تسير الأمور من خلال التراجع عن الانقلاب أولا، ثم التفاوض، وليس العكس".
مداخل للعلاج
لبناء مستقبل خال من آفة الانقلابات، قال رئيس المركز المغاربي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية نبيل الأندلوسي، إن على القوى الغربية والدول المهيمنة بالمنطقة والمستغلة لثروات إفريقيا، أن تترك القارة لأهلها.
وأضاف الأندلوسي لـ "الاستقلال"، أنه يجب عليها أن "تترك ثروات إفريقيا لشعوب هذه القارة"، مشددا أن "هذا لن يجرى بدون وعي إفريقي بضرورة قطع أي استغلال لثروات بلدانهم".
وتابع أن "من مداخل معالجة الظاهرة، ضرورة بلورة آليات لرفع تكلفة الانقلابات، من قبيل منع الانقلابيين من التصرف في الموارد المالية السيادية، وفرض حصار عليهم ورفض التعامل معهم".
إضافة إلى "تعليق المساعدات المالية لحكومات الانقلابيين"، ودعم الديمقراطية والحرص على نزاهة الانتخابات، كآلية للتداول على السلطة".
من جهته، يرى خالد شيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة، أن نقيض أسباب ظاهرة الانقلابات العسكرية هو علاج هذه المسألة.
ومعنى ذلك، يقول شيات لـ "الاستقلال"، أنه يجب بناء مقومات الدولة الحديثة، وتعزيز قيم العيش المشترك، ومنظومة حزبية سياسية غير إثنية ولا قبيلة، والتحرر من التبعية للمحتل السابق أو القوى الأجنبية.
وعلى أبناء القارة أيضا، يردف المتحدث ذاته، الوعي بأن المستقبل في يدهم، لأنه حين يكون في إدارة شؤون الدولة من يريد لها العزة والتقدم والازدهار والتكامل، فسيتحقق ذلك وستنتهي الانقلابات العسكرية.
وشدد شيات على أهمية عمل القارة على بناء تكامل اقتصادي بين دولها، وتحقيق التنمية وخلق منظومة مصالح تربط بين أبناء إفريقيا واقتصادات دولها.
ورأى أن هذه المداخل كلها ستمكن القارة من الإفلات من الوضع الشاذ الذي تشهده، أي آفة الانقلابات العسكرية.
أما الرئيس السابق لمفوضية حقوق الإنسان في السودان، عبد المنعم عثمان طه، فقال في التصريح المشار إليه سابقا، إن العلاج من الانقلابات العسكرية، يتطلب البدء في تطبيب المشكل الاقتصادي الذي يعد ضمان استقرار الدول.
كما يتطلب "توفير الحماية من التدخلات الأجنبية الطامعة، والتخطيط للمشاريع الاقتصادية المتكاملة والمتعاونة بين مختلف الدول، وتبني خطوات جادة في سبيل البناء الاقتصادي الإقليمي المتكامل".
بدوره، قال لوكا بيونق دينق، الاستاذ والعميد أكاديمي في مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية في جامعة الدفاع القومي في واشنطن، إن القارة الإفريقية بحاجة إلى بناء مؤسسات راسخة تمنع تكرار الظاهرة، إضافة إلى ترسيخ مفاهيم الحكم الديمقراطي والمدني على جميع المستويات.
وأكد دينق في مقابلة مع "سكاي نيوز" عربية، 27 يوليو 2023، أن ظاهرة الانقلابات أقعدت القارة الإفريقية كثيرا، وحرمت سكانها من الاستفادة من الموارد الهائلة المتوافرة.
ويرى أنه من دون العمل الجاد لبناء مؤسسات الحكم المدني ستظل القارة الإفريقية بيئة خصبة للانقلابات العسكرية التي دائما ما تنهك الاقتصادات، وتتسبب في المزيد الهشاشة الأمنية.