سلطات واسعة وأهداف خبيثة.. السيسي يقرر إنشاء مجلس أعلى للتخطيط والإدارة
في ظل ديكتاتورية شرسة قادرة على تطويع الدستور والقانون، بدأ رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في صياغة شكل جديد للحكم عبر استحداث مؤسسات وتحجيم دور أخرى.
هذا ما كشفت عنه وثيقة "صوت مصر" التي جرى تداولها بشكل واسع خلال الفترة الماضية، والتي روجت لها شخصيات حزبية وسياسية في مصاف ركب نظام الرئيس المصري.
وحملت الوثيقة مقترحا بإنشاء ما يسمى المجلس الأعلى للتخطيط والإدارة، فما هو ذلك المجلس؟ وما مهامه المنتظرة؟ ومن وراء تلك الدعوة؟ ولماذا يدفع السيسي إلى تدشينه؟
سلطة رابعة
في 14 يوليو/تموز 2023، جرى تداول ما يعرف بـ "وثيقة صوت مصر" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي حملت مقترحا بإنشاء "المجلس الأعلى للتخطيط والإدارة"، وقالت إنه سيكون بمثابة سلطة سيادية رابعة مستقلة في يد الرئيس.
وأضافت أنها ستعلو السلطة التنفيذية ويكون من شأنها وضع خطة قومية للبلاد.
وتطرقت إلى أن ذلك المجلس سيكون له سلطة المتابعة والرقابة والمحاسبة والتفتيش والتطوير على جميع قطاعات ومؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية والإدارية.
وأشارت إلى أن تشكيل المجلس سيتم بإجراء تعديل على الدستور الحالي، بحيث يوضح مهامه واختصاصاته، شريطة أن يكون الرئيس (السيسي) هو القائد الأعلى للمجلس.
وتحدثت وثيقة "صوت مصر"، عن التشكيل المتوقع للمجلس الأعلى للتخطيط والإدارة، حيث سيشمل عضوية رؤساء: "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ووزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة والجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية وجهاز حماية التنافسية".
وكذلك: "جهاز حماية المستهلك وهيئة تقييم الأداء ومراقبة الجودة وهيئة تطوير التعليم وهيئة التنمية البشرية وهيئة التفتيش الفني وهيئة المقترحات والشكاوى وجهاز الاستخبارات الاقتصادي".
وفي 19 يوليو 2023 ذكرت جريدة "الأنباء الدولية" المحسوبة على النظام المصري، بأنه جرت مناقشة إنشاء ذلك المجلس، بإشراف العميد عمرو رفعت، المنسق العام لحزب التيار الوطني المصري، الداعم للسيسي.
ومن الذين شاركوا أيضا في صياغة الوثيقة الأمين العام لحزب أبناء مصر محمد والي، وقد حصل هذا المقترح على دعم وموافقة العديد من الشخصيات المؤيدة للنظام.
إذ تعاهدوا على الترويج له ودعمه، بحسب الصحيفة المصرية، التي كشفت عن رسائل بهذه الكيفية في إحدى جروبات "واتساب" التي تعمل ضمن إطار حملة ترشيح السيسي لانتخابات 2024.
هدف النظام
وعلق المحامي المصري كريم اليعقوبي، على مقترح التعديلات الدستورية لتأسيس المجلس الأعلى للتخطيط والإدارة، قائلا: "مصر شهدت الكثير من تجاوزات الدستور والقانون في حقب مختلفة، لكنها لم تشهد مثل هذه الحقبة التي امتهنت فيها جميع الإجراءات والخطوط القانونية المتعارف عليها دوليا".
وأضاف في حديثه لـ"الاستقلال": "السيسي مهووس منذ اللحظات الأولى بتشكيل جمهورية جديدة، ولطالما أعرب عن معاناته من المؤسسات القديمة بما فيها المؤسسة العسكرية والشرطة والقضاء والأجهزة الرقابية، حتى إنه استخدم عبارة -شبه دولة- للتعبير عن نظرته للمؤسسات التي ضاق بها ذرعا".
وأورد: "على سبيل المثال استحدث السيسي دوائر قضائية خاصة، وانتدب إليها قضاة بعينهم وهذا مخالف للدستور، وعدل من قانون اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا، ليتجاوز اختيار العضو الأقدم سنا، إلى الاختيار من مجموعة من الأعضاء المعينين من قبله".
ثم عقب: "لذلك فإن تأسيس هذا الكيان الجديد يأتي في هذا الإطار، مع عدم إغفال أن مقصده الأول السيطرة الكاملة والمطلقة على الهيئات الرقابية، حتى في أدق تفاصيلها، من حيث القرارات التنفيذية، وطبيعة العمل والتوجيهات والمهام".
وأوضح: "لذلك استخدم السيسي آلية القائم بالأعمال ليكون على رأس المؤسسات الرقابية بغرض سهولة عزلهم والسيطرة عليهم، وتجاوز الدستور الذي يقيد عزل الرئيس لرؤساء الأجهزة الرقابية".
وشدد اليعقوبي: "رغم أن رئيس الجهاز الرقابي غير منتخب، ويعين من رئيس الجمهورية، وهذا لا يحدث في معظم دول العالم المتقدمة، لكنه يخضع لكل هذه التحكمات، حتى لا يخرج عن الإطار تحت أي ذريعة، ويرى السيسي شبح هشام جنينة (رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات سابقا الذي عارضه وكشف أوجه من فساد نظامه) حاضرا بقوة".
واختتم: "لذلك فإن السيسي وفي ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها، سيكون أحرص على منع القلاقل واحتمالات الأزمات في بنية دولته، عبر مزيد من إحكام السيطرة بالجهاز الجديد (المجلس الأعلى للتخطيط والإدارة)".
مسارات التجاوز
وتأتي فكرة إنشاء "المجلس الأعلى للتخطيط والإدارة"، ضمن اختراقات عديدة أحدثها السيسي داخل المؤسسات المدنية، ليس هذا فحسب بل لم يكن بمعزل عن اختراق مواز لأحكام الدستور، والمؤسسة العسكرية نفسها.
فمن المفارقات أن السيسي حين كان وزيرا للدفاع أراد أن يحصن نفسه من العزل، فخصص المادة 234 من دستور عام 2014.
وتنص المادة المذكورة على أن "يكون عزل وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسري أحكام هذه المادة لدورتين رئاسيتين كاملتين بدءا من تاريخ العمل بالدستور".
وفي يونيو/حزيران 2018، جرت الإطاحة بأقوى شريك للسيسي في انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. وبعد سرية تامة وتكتم شديد، أقيل وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي من منصبه.
ولم تذكر وسائل الإعلام المصرية التابعة للنظام فيما إذا كان السيسي قد حصل على موافقة المجلس العسكري لإقالة صبحي أم لا.
غير أن قرار السيسي بعزل صبحي جرى تفسيره بأنه لا يعبأ بمواد الدستور بدليل أنه عزل رئيس جهاز المحاسبات (منوط به مراقبة أجهزة الدولة ماليا بما فيها رئاسة الجمهورية)، هشام جنينة، رغم أن الدستور يحظر على رئيس السلطة التنفيذية عزله، لأنه من رؤساء الهيئات الرقابية.
والمادة 216 من الدستور تمنع إقالة رؤساء الأجهزة الرقابية دون إدانة جنائية واضحة.
وهذه الأخيرة نصت على أن "يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال".
درس الاصطدام
ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة.
ولا يعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويحظر عليهم ما يحظر على الوزراء.
ومثلت واقعة هشام جنينة شكلا آخر من أشكال التجاوز الدستوري، إلى التعامل وفق منطق ما يعرف في مصر بمصطلح "البلطجة"، حيث سلط عليه مجموعة من البلطجية اعتدوا عليه وسحلوه في الشارع.
لذلك، يرى كثيرون أن السيسي تعلم من درس الاصطدام برئيس جهاز رقابي الكثير، وقرر أن يناور مناورة تمكنه من تجاوز الدستور، وتسمح له بإمكانية عزل وإقالة رؤساء الهيئات الرقابية، عبر استخدام منصب القائم بالأعمال.
وفي 30 أغسطس/آب 2020، تحايل السيسي على أحكام المادة 216 من الدستور، والقانون رقم 89 لسنة 2015 بشأن حالات إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية.
إذ أصدر قرارا جمهوريا بتولي مدير إدارة المهندسين العسكريين السابق، اللواء أركان حرب حسن عبد الشافي، مهام القائم بأعمال رئيس هيئة الرقابة الإدارية، خلفا للواء شريف سيف الدين، الذي شغل نفس المنصب بنفس الدرجة منذ 30 أغسطس 2018.
قبلها كان اللواء محمد عرفان جمال الدين، هو آخر من شغل منصب رئيس هيئة الرقابة الإدارية، إلى أن جرت إقالته، في ظل الحديث عن خلافات وقعت بينه وبين مصطفى نجل السيسي.
لذلك فإنه في ظل استعداد رئيس النظام لانتخابات 2024، فهو يعمل على حسم كل الملفات القديمة بأخرى جديدة، كالمجلس الأعلى للتخطيط والإدارة، ما يجعله أكثر سيطرة وأقل عرضة للمناوشات.