في الذكرى 1054 لتأسيسها.. كيف حوّل السيسي القاهرة إلى عاصمة "بلا ملامح"؟

في 6 يوليو/ تموز 2023, احتفلت العاصمة المصرية القاهرة بالذكرى 1054 لتأسيسها على يد القائد العسكري جوهر الصقلي، في العام 969 ميلادية، خلال بداية حقبة الدولة الفاطمية.
وما كانت القاهرة في الأساس إلا امتدادا لمدينة "أون" التي قامت منذ آلاف السنين في عهد ما قبل الأسرات الفرعونية، ثم تطورت إلى "هليوبوليس" أو "عين شمس" في العصر الفرعوني.
ومع الفتح الإسلامي على يد الصحابي عمرو بن العاص أصبحت "الفسطاط"، ثم مدينة "العسكر" التي أقامها أول ولاة العباسيين على مصر، صالح بن علي، وأخيرا جاءت القاهرة بشكلها الحالي، وكل عصر من العصور ترك عليها بصمته.
لكن التحولات التي شهدتها القاهرة بشكل متسارع منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013, وصعود عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، كانت فارقة ومقلقة لعدد من الباحثين والمؤرخين.
ذلك أن القاهرة في عشرية حكم السيسي، طرأت عليها متغيرات لمست بشكل سلبي معالمها التاريخية والحضارية، فضلا أن العشوائية والتلوث أتوا على البقية الباقية من جودة الحياة بداخلها.
وهو ما تنبأ به من قبل الكاتب الروائي المصري الراحل، أحمد خالد توفيق، في روايته "يوتوبيا" عندما قال: "سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها وتندثر ظلما وقهرا وفقرا ومرضا، وسيذهبون إلى عاصمتهم الجديدة، حتى لا تتأذى أعينهم بكل ذلك الدمار".
القاهرة في أرقام
تلوث وعدم نظافة أجواء العاصمة المصرية التي يقطنها 22.1 مليون نسمة، هي أكبر مهدد للحياة بداخلها.
حتى إنه في 14 مارس/ آذار 2023، تصدر مشروع إدارة تلوث الهواء في القاهرة الكبرى، وتبعات تغير المناخ، مناقشات مصر مع بعثة البنك الدولي.
ووفق بيانات موقع البنك الدولي، فإن مساحة الغابات في القاهرة تساوي "صفر".
وفي نفس اليوم، كشفت إحصاءات وبيانات موقع "iqair" المتخصص في رصد التلوث البيئي عالميا، وتحديدا ما يخص جودة الهواء، أن القاهرة تحتل المركز 126 من 130 عالميا في قائمة أكثر العواصم تلوثا.
وكانت القاهرة قد احتلت المدينة الأكثر تلوثا في العالم، وفق تصنيف موقع "إيكو إكسبرتس" للعام 2018.
وذكر الموقع أيضا أنها ثالث أكثر المدن الحضارية الصاخبة في العالم.
وفي أغسطس/ آب 2022, نشرت مجلة "فوربس" الأميركية، تقريرها عن خطورة التلوث في القاهرة، وأوردت أنه يصيب مواطنيها بأمراض مستعصية، مثل (سرطان الرئة، أمراض الجهاز التنفسي، الأمراض القلبية)، كما يؤثر على القدرات الذهنية والإدراكية لسكانها.

لكن المثير أن الصحف المحلية الناطقة باسم النظام، تحدثت عن المعضلة التي تواجه القاهرة وسكانها.
وفي 28 سبتمبر/ أيلول 2020, كتبت صحيفة "الوطن"، تحقيقا تحت عنوان "الخروج من القاهرة بات ضروريا"، أوردت فيه أن العاصمة باتت تضم أكثر من 15.5 بالمئة من العشوائيات في مصر، وطالبت السكان بالتوجه نحو العاصمة الإدارية (التي بناها السيسي في الصحراء شرق القاهرة).
وفي أكتوبر/ تشرين الثاني 2020, أصدر "معهد الدراسات الحضرية الياباني"، تقريره عن مؤشرات الحياة في 48 عاصمة عالمية.
ووفق التقرير نفسه، احتلت القاهرة المركز 45 من 48 في مؤشر البيئة، والمركز 43 من 48 في جودة وسائل المواصلات.
كما احتلت القاهرة المركز الـ57 من 60 في المدن الأقل أمنا، وفق تقرير صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية الصادر عام 2021.
وفي 14 مايو/ أيار 2023, أصدر موقع "world population review" تقريره عن المدن الأكثر ازدحاما في العالم، وجاءت القاهرة في المركز السابع عالميا، والأول إفريقيا.
مذابح الأشجار
وعلى نفس النسق، فإن مذابح الأشجار في القاهرة، شاهدة على ما آلت إليه المدينة من القبح، حيث واصل النظام حملات قطع الأشجار المعمرة، وتدمير الحدائق والمنتزهات التاريخية، التي بدأها منذ سنوات لاستغلال مواقعها الحيوية، بزعم تحويلها إلى مناطق جذب سياحية وتجارية.
وفي 30 أغسطس 2021، قررت الحكومة تحويل مساحات خضراء، تقدر بـ7500 متر من مستشفى "العباسية" الشهير للأمراض النفسية إلى محال تجارية ومقاه وأماكن ترفيهية، يديرها الجيش، كونها تحتل موقعا متميزا بالقاهرة.
وكذلك في أبريل/ نيسان 2021، جرى إحاطة حديقة "قصر عابدين" الشهير بسور حديدي وبوابات إسمنتية، وأكشاك لبيع المأكولات.
مواطنون انتقدوا تشويه القصر الأثري والشاهد على تاريخ مصر الحديث، ومقر الحكم منذ 1863 للخديوي إسماعيل، والخديوي توفيق، وعباس حلمي الثاني، والملكين فؤاد وفاروق، والرئيس الأسبق أنور السادات.
وفي فبراير/ شباط 2021، أثار قرار إنشاء كوبري بمصر الجديدة يمر قرب كنيسة "البازيليك" الأثرية التي ترجع لنحو 111 عاما الكثير من المخاوف على المباني الأثرية والتراثية وعلى الأشجار النادرة المحيطة بها.
وفي يناير/ كانون الثاني 2021، نفذت محافظة الجيزة (تابعة للقاهرة الكبرى)، مجزرة بقطع أشجار "الكافور" الضخمة والمعمرة بكورنيش العجوزة، التي ترجع لعهد الخديوي إسماعيل.
وخلال العامين 2020 و2021، جرت أفظع مجزرة للأشجار بشوارع "مصر الجديدة" و"مدينة نصر" شرق القاهرة، لإنشاء كبار علوية محلها، وإنشاء محال ومقاه وجراجات أسفل الكباري يديرها الجيش بمقابل مادي كبير.

سحق التاريخ
ومع تلك الأوضاع هناك خطر من نوع آخر يواجه عاصمة المصريين، يتعلق بهوية المدينة نفسها.
وكانت القاهرة من أكثر المدن تنوعا حضاريا، بصفتها شهادة على العديد من الحقب التاريخية، فأصبحت وكأنها متحف مفتوح يضم معالم فرعونية ورومانية وإسلامية.
لكن النظام الحالي بقيادة السيسي ضرب بكل ذلك عرض الحائط، وفي 21 يوليو 2020، شهدت مصر حالة من الذهول والصدمة تلاها جدل عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي بعد انتشار صور لعمليات هدم المقابر بالجرافات في منطقة صحراء المماليك.
وتقع "صحراء المماليك" التاريخية شرقي القاهرة، إذ يقدر عمر آثارها بأكثر من 500 عام، وتضم أكثر من 30 أثرا مسجلا، دفن بها السلطان قايتباي وبرقوق، وغيرهما من سلاطين المماليك.
بالإضافة إلى قبر شيخ الإسلام الإمام العز بن عبد السلام، وغيره من عظماء رموز العالم الإسلامي وكبار مؤرخيه وقادته في تلك الحقبة الآثرة من تاريخ مصر.
وتضم أيضا مدفن المفكر والفيلسوف أحمد لطفي السيد، رائد من رواد النهضة والتنوير، ووزير المعارف ثم الداخلية، ورئيس مجمع اللغة العربية ومدير الجامعة المصرية.
ومدفن نازلي هانم حليم ابنة محمد عبد الحليم باشا، وحفيدة محمد علي باشا الكبير، ومدفن أسرة عبود باشا، وهو اقتصادي ورجل أعمال مؤسس شركة السكر وخط البريد الخديوي وشركه الأمنيبوس، وأول مدير مصري لشركة قناة السويس ومن مؤسسي بنك مصر، وعلى اسمه تم تسمية "موقف عبود" المعروف بوسط القاهرة.
وبها أيضا مدفن حسن باشا صبري الذي تولى عدة مناصب سياسية ودبلوماسية كان آخرها سنة 1940 حيث تولى رئاسة الوزراء، والذي توفي داخل مجلس النواب (البرلمان) أثناء إلقاء خطبة العرش أمام الملك فاروق، ومنهم مدفن مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية في عهد الملك فاروق الأول.
هذه المنطقة التاريخية بقصصها ومعالمها تعرضت لمعول هدم نظام السيسي، الذي دشن محور الفردوس على أنقاض الآثار التاريخية العريقة، ما أثار حفيظة المؤرخين والمفكرين المصريين.
_1.jpg)
المنابر والمقابر
ما حدث لـ"صحراء المماليك" لم يكن عابرا، بل منهجية دارجة استخدمها النظام على مدار السنوات السابقة.
ففي 13 مايو/ أيار 2018، تم الإعلان عن قرار تفكيك ونقل 55 منبرا أثريا من مساجد القاهرة التاريخية، جلها يعود إلى العصر المملوكي في القاهرة الإسلامية تمهيدا لعرضها بالمتاحف القومية، بحجة أنها معرضة للسرقة.
ولم يعرف إلى الآن مصير هذه المنابر العريقة والعتيقة، وأثار هذا الإعلان غضب واستياء الأثريين والفنانين التشكيليين المصريين، معتبرين أن هذا من شأنه تدمير الآثار الإسلامية الفريدة بسبب التفكيك والنقل والإهمال.
مسجد أبو بكر مزهر الكائن في حارة برجوان، المتفرعة من شارع المعز لدين الله الفاطمي بحي الجمالية الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1480 ميلاديا، كان من المساجد التي تأثرت بالقرار بسبب منبره العتيق.
والمسجد مغلق من قبل وزارة الآثار والأوقاف، لأن حالته من الخارج غير جيدة، وأبوابه مغلقة في وجه مريديه، فضلا عن بعض الشروخ التي اخترقت جدرانه.
وحسب التشكيليين المصريين، فإن منبر ذلك المسجد يعد تحفة فنية، حيث يحوي أشغالا خشبية وصدفية شديدة الدقة والجمال، ويتميز بضخامة حجمه ودقة صناعته.
لكن أعمال الهدم التي أطلقها السيسي عام 2020, في "صحراء المماليك" أعادها مرة أخرى في 15 مايو 2023، بأعمال هدم جديدة واسعة النطاق طالت المناطق الأثرية والتاريخية في القاهرة القديمة.
ووصلت إلى أضرحة ومقابر لشخصيات ضاربة في عمق الحضارة المصرية قديما وحديثا، منهم علماء، وشعراء، وقادة جيوش، وسياسيون وغيرهم.
ومن أبرزهم، الإمام ورش، والإمام الشافعي، والشيخ محمد رفعت، ولم يقف الأمر عند كبار علماء الإسلام والفقهاء فقط.
فأعمال الإزالة وصلت إلى 2700 قبر، ونالت مقابر تعود ملكيتها لعائلات عريقة كانت لها أدوار وطنية في حقب تاريخية مختلفة.
ومنها أشخاص يرتبط بهم تاريخ مصر الحديث، وتدرس سيرهم ومواقفهم في المناهج الدراسية التعليمية، بينهم الشاعران حافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي (كان وزيرا للحربية خلال الثورة العربية عام 1881)، وقبة إسماعيل صدقى باشا ومقبرة شيخ الأزهر السابق محمد مصطفى المراغي.
وأيضا مدفن علي باشا فهمي (كبير الياوران خلال عهد الملك فؤاد) أخطرت عائلته بقرار إزالة المدفن، وهو في حد ذاته يمثل طرازا فريدا للفن والعمارة.
وتعليقا على هذه التطورات، قال أستاذ التخطيط العمراني بكلية الهندسة جامعة الأزهر، إحسان ناجي، إن "القاهرة بما يحدث فيها الآن من تحولات جيوسياسية، وأعمال هدم وبناء عشوائية، تجعلنا نقول إنها دخلت إلى طور الضياع وشبه الاندثار بشكلها التاريخي القديم".
وأضاف ناجي لـ"الاستقلال" أن "نظام السيسي سيخلف عاصمة عشوائية بلا روح ولا ملامح ولا قيمة تاريخية أو سياسية أو اقتصادية، فالعواصم هي بوابة البلاد ورمز قوتها أو ضعفها".
وأوضح أنه "في دراسة الهندسة المعمارية للمدن، هناك قسم خاص بالتاريخ، وهناك المدن والعواصم العتيقة التي لها معاملة ووضع خاص، والقاهرة من أهم هذه المدن في العالم، وعلى شاكلتها إسطنبول وبغداد ودمشق وبكين وروما وأثينا ولندن".
وشدد ناجي على أنه "يجب أن يراعى تماما الجانب الحضاري لهذه المدن عند التوسعة والتحديث، ولا تمس المعالم التاريخية والأحياء القديمة حتى ولو كانت فقيرة ومتهالكة، لأن لها طريقة في التطوير دون أن تطمس معالمها، وهو ما لم يحدث في القاهرة".
واستطرد: "الأنكى أن نموذج التطوير نفسه كان بائسا وبه كثير من الإشكاليات، في طريقة بناء الجسور والكباري وغيرها من المشروعات العشوائية".
المصادر
- العيد القومي لمحافظة القاهرة.. ذكرى مرور 1054 عاما على تأسيسها
- تغير المناخ وتلوث هواء القاهرة يتصدران محادثات مصر والبنك الدولي
- القاهرة ضمن مدن العالم الأكثر ازدحاما بالسكان لعام 2023
- بالأرقام.. الخروج من القاهرة بات ضروريا والحل في العاصمة الجديدة
- مقابر المماليك: مد "محور الفردوس" وهدم أجزاء من "الجبانة الأثرية" يثير غضب مصريين
- جولة في مقابر الإمام والسيدة: هدم 44 مقبرة والمئات في انتظار نفس المصير
- القاهرة أكثر المدن تلوثًا واعتراض وزارة البيئة لن يقلل من تلوثها
- "فوربس": القاهرة أسوأ مدن العالم في تلوث الهواء والضوضاء