سؤال العدالة الغائبة في "دولة السيسي".. إلى من يحتكم الجنرال؟

داود علي | a year ago

12

طباعة

مشاركة

قامت الدساتير والديمقراطيات على مبدأ الفصل بين السلطات، الذي صاغه المفكر الفرنسي مونتسكيو (1689 إلى 1755) خلال القرن الثامن عشر، وعليه قامت الدول والجمهوريات الحديثة، لإقرار القانون ومحاسبة الحكومات والأفراد. 

بعد قرون ومن باريس إلى الإسكندرية، وتحديدا في 15 يونيو/ حزيران 2023، كان رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، في حديث على الهواء مباشرة، وقال في معرض كلامه عن أحد المواطنين: "قولت (قلت) يتقبض عليه وميخرجش". 

كانت كلمة السيسي وحدها كفيلة بأن يلقى الرجل في السجن، ولا يخرج منه إلا حسب شروط الرئيس، هكذا بلا نيابة ولا محكمة ولا دستور أو قانون.

العدالة الناجزة

ذكرت تلك الواقعة بتسريب للسيسي وهو وزير للدفاع عام 2013، عندما كان في لقاء خاص مع ضباط للقوات المسلحة، صرح فيه بأن "الضابط اللي (الذي) هيضرب قنابل غاز وخرطوش وحد (أحد) يموت أو يحصله (يحدث) حاجة (شيء) في عينه مش (لن) هيتحاكم".

رسمت تلك الكلمات والمواقف بعناية مسيرة رئيس النظام المصري بعد ذلك، عندما أسقط من حساباته القوانين والتشريعات، وحكم وفقا لرؤيته الخاصة بلا قواعد مؤسسية أو ضوابط تشريعية. 

تنص المادة 184 من الدستور المصري لعام 2014 على أن "السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكاما وفقا للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شؤون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم".

كذلك تنص المادة 94 على أن "سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة، وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء، وحصانته، وحياديته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات".

فيما ضرب السيسي عرض الحائط بهذه المواد عندما أعلن في 30 يونيو/ حزيران 2015 أن "يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين"، ومنذ ذلك الحين بدأ مسار جديد في ساحات المحاكم المصرية.

وكان السيسي قد أمر بتشكيل 6 دوائر متعلقة بالإرهاب، 4 منها في القاهرة، و2 في محافظة الجيزة، ومع الوقت تم استحداث "الدائرة 11 إرهاب" برئاسة المستشار محمد شيرين فهمي (قاضي الإعدامات) ليصبح إجمالي عدد الدوائر 7.

وتمثل الهدف الرئيس للسيسي من كلمة "العدالة الناجزة" و"دوائر الإرهاب" تسريع عملية أحكام الإعدام في القضايا السياسية، لأنه رأى أنها معقدة من حيث الإجراء والتنفيذ، بداية من الاعتقال إلى الإحالة على ذمة قضية، وصولا إلى حبل المشنقة. 

تسريع الإعدامات

وأحكام الإعدام في القضايا السياسية، هي مسارات متشابكة يمر بها المحكوم في سياق يحمل بين طياته الكثير من الثغرات، وفي النهاية يقود إلى الموت إذا ما قررت الأجهزة المعنية التنفيذ، ولكن إرادة السيسي كانت ترمي إلى تنفيذ مزيد من الإعدامات في أسرع وقت ممكن. 

وبالفعل خلال السنوات التالية حتى يونيو 2022، كشف تحقيق وكالة "رويترز" البريطانية تحت عنوان "الإعدامات في مصر في عهد السيسي" عن إعدام 179 مصريا خلال 6 سنوات على خلفية قضايا سياسية، إضافة إلى صدور 3 آلاف حكم بالإعدام خلال نفس الفترة. 

وهو ما وصفته مؤسسة "كوميتي فور جستس" الحقوقية الأميركية، بأنه الرقم الأكبر من الإعدامات في تاريخ البلاد، ويزيد عن ضعفي عدد أحكام الإعدام طوال 30 عاما من حكم الرئيس حسني مبارك. 

تدخلات السيسي وتأثيره على مسار القانون والقضاء في مصر، جعلها في ذيل الأمم، حيث استقرت على مؤشر "مشروع العدالة العالمية" الصادر في يونيو 2020 في مؤخرة ترتيب دول الشرق الأوسط، إذ حلت في المرتبة الـ125 من بين 128 دولة على مستوى العالم، بانخفاض 5 نقاط سنويا منذ عام 2016، متخلفة بذلك عن أفغانستان وكمبوديا. 

وأظهر المؤشر تراجع مصر في جميع فروع التقييم فاحتلت المرتبة الـ125 في سيادة القانون، والـ126 في خضوع الحكام للقانون، والـ127 في إتاحة الحقوق الأساسية، والـ123 في وجود آليات نظامية للدولة، والـ128 (الأخيرة) في انفتاح الحكومة على المواطنين وإتاحة المعلومات الأساسية لهم عن دولتهم. 

ويقيس "مشروع العدالة العالمیة"، ويرمز له بالحروف (WJP)، سيادة القانون بناء على استطلاعات رأي تشمل حوالي 120 ألف شخص وآراء 3800 خبير قانوني حول العالم. 

المعتقلون

الحديث عن المحاكم ودوائر الإرهاب والإعدامات لا ينفك عن المعتقلين، الذين يشكلون القوام الأساسي لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، والمثل على استباحة رئيس النظام لهم بإجراءات خاصة.

فمنذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، يقبع قرابة 60 ألف معتقل في السجون، بحسب المنظمات الحقوقية الدولية، وأبرزهما، "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش".

وفي "المؤتمر الوطني للشباب" بالإسكندرية في 14 يونيو 2023، سئل السيسي مباشرة عن مصير المعتقلين وإمكانية الإفراج عنهم.

وكان المنتظر على أقل تقدير أن يحيل السيسي الأمر برمته إلى النيابة والقضاء، ويعفي نفسه من المسؤولية، لكنه فاجأ الجميع حين قال إن كل ما قام به "كان في سبيل الإنقاذ الوطني". 

ثم ذهب إلى أبعد من ذلك: "اللي يحاسبني عليه مش أنت، اللي يحاسبني عليه ربنا، هيقولي (الله) ضيعت 100 مليون، وتشردوا في كل حتة".

وأردف: "أنا مبخافش أبدا، ولو خفت كنتم كلكم زمانكم في خراب ودمار".

 تضمنت تصريحات السيسي إصراره على صحة مواقفه وضرورة كل الخطوات التي اتخذها في انقلابه العسكري.

وأثارت مخاوف الحقوقيين على مصير المعتقلين السياسيين، معتبرين حديثه إغلاقا لباب إنهاء معاناتهم في السجون، وأن الوضع لا يتعلق بقضاء أو لجان حوار وطني، لكنه متعلق برؤية رئيس النظام وحده.

الإطاحة بالأجهزة

اختراق السيسي للقضاء والمؤسسات المدنية، لم يكن بمعزل عن اختراق موازٍ لأحكام الدستور، والمؤسسة العسكرية نفسها.

فمن المفارقات أن السيسي حين كان وزيرا للدفاع أراد أن يحصن نفسه من العزل، فخصص المادة 234 من دستور عام 2014 تنص على أن "يكون عزل وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسري أحكام هذه المادة لدورتين رئاسيتين كاملتين بدءا من تاريخ العمل بالدستور". 

وفي يونيو/ حزيران 2018، تمت الإطاحة بأقوى شريك للسيسي في انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. وبعد سرية تامة وتكتم شديد، أقيل وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي من منصبه.

ولم تذكر وسائل الإعلام المصرية التابعة للنظام فيما إذا كان السيسي قد حصل على موافقة المجلس العسكري لإقالة صبحي أم لا،.

غير أن قرار السيسي بعزل صبحي جرى تفسيره بأنه لا يعبأ بمواد الدستور بدليل أنه عزل رئيس جهاز المحاسبات (منوط به مراقبة أجهزة الدولة ماليا بما فيها رئاسة الجمهورية)، هشام جنينة، رغم أن الدستور يحظر على رئيس السلطة التنفيذية عزله، لأنه من رؤساء الهيئات الرقابية. 

والمادة 216 من الدستور تمنع إقالة رؤساء الأجهزة الرقابية دون إدانة جنائية واضحة، ونصت على أن "يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال".

ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويحظر عليهم ما يحظر على الوزراء.

ومثلت واقعة هشام جنينة شكلا آخر من أشكال التجاوز الدستوري، إلى التعامل وفق منطق ما يعرف في مصر بمصطلح "البلطجة" حيث سلط عليه مجموعة من البلطجية قاموا بالاعتداء عليه وسحله في الشارع. 

163 مخالفة دستورية

انتهاكات السيسي للقانون تجاوزت الحوادث الكبرى إلى وقائع تفصيلية، وهو ما ذكرته صحيفة "النبأ" المصرية الأسبوعية، في تقرير أصدرته 23 فبراير/ شباط 2017، رصدت فيه 163 مخالفة دستورية لرئيس النظام وحكومته. 

ومن أبرز هذه المخالفات موافقة النائب العام (السابق) نبيل صادق، على طلب المدعي العام الإيطالي بإرسال وفد من المحققين الإيطاليين لزيارة القاهرة، لفحص تسجيلات الاتصالات الهاتفية في الأماكن التي وُجِد فيها الباحث الإيطالي جوليو ريجيني قبل مقتله على يد أجهزة الأمن المصرية عام 2016.

ومن المخالفات الفجة انتهاك مبدأ عدم جواز مصادرة الأموال إلا بحكم قضائي، مثل صدور قرار من لجنة حصر ومصادرة أموال جماعة الإخوان المسلمين، التي تتبع وزارة العدل، بالتحفظ على أموال اللاعب "محمد أبو تريكة"، في مخالفة للدستور، الذي لا يجيز المصادرة بقرار من لجنة شكلها وزير العدل.

المثير في أمر هذه اللجنة المخالفة للدستور، أن الذي يقودها هو المستشار "أحمد سعيد خليل السيسي" الشقيق الأكبر لعبد الفتاح السيسي. 

وستظل واقعة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في 17 يونيو 2017، بعد أن صدق رئيس النظام المصري على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة، هي الأشد في خط انتهاك الدستور. 

فالمادة رقم (1) من الدستور المصري، تنص على أن "جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، ونظامها جمهوري ديمقراطي"، وهو ما أخله السيسي بالتنازل عن الجزيرتين، لصالح حلفائه وداعميه في الرياض. 

خارج القانون

وتعليقا على ما وصل إليه القانون والتشريع في بنية النظام المصري، قال الباحث الحقوقي، مصطفى عزالدين، إن "الأمر بات يذكرنا بأيام الحاكم بأمر الله (المتوفى في 1021 ميلادية) ذلك الذي أقر قوانين خاصة يذكرها المصريون إلى اليوم، مثل تحريم أكل الملوخية والعمل ليلا والنوم نهارا، وكان يقتل معارضيه ويسفك الدماء بلا وازع من ضمير أو قانون". 

وأضاف عزالدين لـ"الاستقلال": "نعيش في أيام الحاكم بأمره الجديد، فإلى أي قانون أو دستور يحتكم السيسي، لا يوجد رئيس في تاريخ مصر الحديث انتهك القوانين والتشريعات كما فعل، فكيف لا وقد قام انقلابه في الأساس على تعطيل العمل بالدستور، وكل الإجراءات التي ترتبت على حكمه بعد ذلك كانت على نفس الشاكلة موتورة وجزافية". 

واستكمل: "بداية من الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي وسجنه، بعد أن أقسم أمامه بأن يحترم الدستور والقانون، ويحمي الرئيس والنظام الجمهوري، فخان كل ذلك، ثم سجن أكثر من 60 ألف معتقل، وصولا إلى الإعدامات والقتل والتصفية خارج نطاق القانون، والإخفاء القسري".

وتابع عزالدين: "على مستوى الدولة تشكيل البرلمان وسجن المرشحين الرئاسيين مثل سامي عنان وأحمد قنصوة، وعمليات التهجير كالتي حدثت في العريش والوراق ومثلث ماسبيرو، كلها تمت بإجراءات استثنائية وبأمر مباشر من السيسي، عابرة القانون ودولة المؤسسات". 

وأورد: "الخطر الذي يقوم به السيسي ليس فقط على المعارضين، بل أضعف بنية الدولة المؤسسية نفسها، من قضاء وحكومة ومؤسسات تنفيذية ومحلية، وسن للحكام سنة سيئة بتسهيل تجاوز كل العقبات القانونية والتشريعية، وهو ما يعود بنا للعصور الوسطى وجمهوريات الموز (مصطلح يطلق على الدول البدائية)".

واختتم عزالدين: "حتى جمال عبد الناصر في صولجانه وحسني مبارك في زمانه لم يستطيعا فعل ذلك، والسادات لما أطلق ثورة التصحيح عام 1971 للقضاء على مراكز القوى الناصرية، استخدم القانون وترزية القوانين والدساتير، ولم يقم بالعملية على نحو مخلّ كما يفعل السيسي، الذي أصبح مهددا لكيان الدولة وللأجيال المقبلة".