40 مليارا لا 400.. ما دلالات تكذيب صندوق النقد مزاعم السيسي عن ثورة يناير؟

12

طباعة

مشاركة

على مدار عقد كامل، ظل رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي يُحمل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 الموبقات والمشاكل كافة التي تعاني منها مصر في ظل حكمه، للهروب من مساءلته عن الفشل وتضييع أموال المصريين.

لكن تقارير حديثة أكدت مدى وهمية الأرقام التي يولع السيسي بذكرها، مثل زعمه أن مصر تحتاج إلى تريليون دولار كل سنة، أي قرابة 40 تريليون جنيه، و"أنفقنا 400 مليار دولار لتطوير البنية التحتية، و"لو معايا 100 مليار دولار هتبرع بيهم لمصر.

وزعم أن خسائر ثورة 25 يناير تقدر بـ 400 مليار دولار سنويا، أي قرابة 4 تريليونات دولار (4 آلاف مليار دولار) في السنوات العشر من 2011 حتى 2021، رغم أنه هو الذي يحكم مصر وأغرقها في المشاكل الاقتصادية والديون.

أكد في تصريحات في 16 أكتوبر/تشرين أول 2021 أن حجم الخسائر المباشرة التي استنزفتها مصر في (ثورة 25 يناير) بلغت 400 مليار دولار بما يبلغ نحو 6 تريليونات جنيه، زاعما أن "البلد كادت أن تدمر كما دُمرت دول أخرى".

لكن صندوق النقد الدولي برأ ثورة يناير، وأكد أن حجم الخسائر التي لحقت باقتصاد مصر بسببها كانت "طفيفة"، ولا تتعدى 10 بالمئة من حجم الاقتصاد الكلي.

وهو ما يتنافى مع التصريحات المتعددة للسيسي، الذي ما فتئ يُحمل الثورة مسؤولية الانهيار الاقتصادي، ويستعملها "شماعة" لتعليق فشله والفساد الذي شهدته مصر عليها، هي والإخوان المسلمين، منذ استولى على الحكم.

الصندوق والسيسي 

ولا يفوت السيسي أي فرصة ليمسك الميكروفون ويخطب في أي مؤتمر وهو يدير ظهره لمن معه ليؤكد لهم أنه ليس المسؤول عما وصلت إليه مصر من تدهور اقتصادي، وإنما هي ثورة يناير أو حرب أوكرانيا.

وخلال الاحتفال بالذكرى الـ 71 لعيد الشرطة 23 يناير 2023 قال إن الأزمة الاقتصادية ليست بسبب مشروعاته الفاشلة، وإنما بسبب الأزمة العالمية، ولم ينس أن يحمل ثورة يناير 2011 المسؤولية عن "هدم الدولة" كلها.

لكن، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي، بلغ حجم الخسائر التراكمية التي أصابت الاقتصاد المصري خلال العقد التالي لثورة 2011 حوالي 10 بالمئة فقط، مما كان من الممكن تحقيقه لو لم تحدث الثورة واضطرابات البلاد.

التقرير، الذي نشر تفاصيله موقع "مدى مصر" 11 يونيو/حزيران 2023، أكد أن الخسائر تعادل قرابة 40 مليار دولار خلال العقد (10 سنوات) الذي أعقب الثورة أي منذ 2011 حتى 2021.

وهو ما يختلف جذريا مع تقديرات السيسي المبالغ فيها والتي ليس لها أي أصل أو دراسة تثبتها، والذي كرر أكثر من مرة أن تأثير ثورة 2011 كان كبيرا للغاية، وقدره بـ 400 مليار دولار في عام واحد فقط، دون كشف طريقة حساب هذا الرقم.

الصندوق احتسب أثر الربيع العربي على اقتصاد مصر، اعتمادا على منهجية مُستحدثة خصيصا لتقييم الآثار المماثلة، من خلال مقارنة الاقتصادات المتأثرة بصدمات مفاجئة مع عدة اقتصادات أخرى مشابهة ولم تتأثر بتلك الصدمات. 

ويشمل المقياس عدة تقديرات إحصائية منها سعر ثابت للدولار كعملة عالمية، ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

وانتهت تقديرات الصندوق إلى أن الاقتصاد المصري كان سينمو في حالة عدم قيام الثورة من 9.2 نقاط، في 2010 ليصل إلى 9.38 نقاط تقريبا بحلول 2020. 

لكن ما حدث أدى إلى تباطؤ نموه ليصل إلى 9.28 نقاط تقريبا فقط، بفارق 0.1 نقطة.

أكد هذا بيانات البنك الدولي، التي أشارت إلى أن الناتج المحلي الإجمالي بلغ في 2010، العام السابق على الثورة، 288 مليار دولار تقريبا.

وارتفع خلال العشر سنوات التالية ليصل في 2020 إلى 412 مليار دولار، ما يعني نمو الناتج الإجمالي بحوالي 45 بالمئة.

في ضوء هذا، فإن خسارة الاقتصاد 400 مليار دولار بحسب سيناريو السيسي تعني أن الناتج المحلي الإجمالي كان سيصل إلى أكثر من 680 مليار دولار، بنمو يبلغ 136 بالمئة.

وهو ما يوسع الفارق بين ما تحقق فعليا وما كان ممكنا تحقيقه (وفق مزاعم السيسي) إلى حوالي 91 بالمئة، وهو تقدير لا يتناسب إطلاقا مع تقديرات صندوق النقد الدولي، بحسب "مدى مصر".

ولذلك انتقد ناشطون زعم السيسي أن ثورة 25 يناير كبدت الاقتصاد المصري خسائر تقدر بـ 400 مليار دولار، مشيرين لتكذيب صندوق النقد له، وقالوا إن هدفه تخويف المصريين من أن سقوط نظامه سيؤدي لكارثة اقتصادية.

الإعلامي حافظ المرازي تساءل ساخرا: "من أين جاء السيسي بأن خسائر مصر بسبب الثورة بلغت أربعمائة مليار دولار؟"، بعدما قال صندوق النقد إن كل الخسائر 10 بالمئة.

وقال الصحفي جمال سلطان إن ما أعلنه السيسي هو "هبد" أي "أكاذيب" فندها صندوق النقد الدولي. 

وبرغم نص الدستور المصري في ديباجته على أن ثورة 25 يناير 2011 "فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، وقد انحازت لها القوات المسلحة"، فإن السيسي هاجمها قرابة 7 مرات منذ توليه السلطة.

كما حملها كل الخطايا الاقتصادية التي وقعت في عهده، لكنه، في تصرف مناقض، كان يشيد بالثورة "الخالدة في تاريخ الثورات"، حسبما قال في 23 يناير 2019.

وكان آخرها خلال الندوة التثقيفية الـ 37 للقوات المسلحة 9 مارس/آذار 2023، حين حذر من افتعال ثورة أخرى على غرار 25 يناير، وتحدث عما أسماه "المؤامرة وأبعادها الكاملة".

وأشهرها حين هاجم السيسي وهو محتد يوم 31 يناير 2018، الثورة ومن يدعون لتكرارها ضده قائلا: "إن ما حدث قبل 7 سنوات لن يتكرر مرة أخرى".

فقاعة المليارات

يؤكد خبراء المال أن السبب الفعلي لأزمة مصر الاقتصادية الحالية هو سوء الإدارة وتضييع السيسي أموال المصريين، وحتى الديون التي استدانها باسم الأجيال المقبلة في مشاريع للوجاهة والشهرة، فضلا عن فساد بيزنس الجنرالات.

يرون أن المليارات التي أضاعها السيسي، وراء محاولاته تحميل غيره مسؤوليتها، تارة باسم الإخوان وأخرى باسم ثورة يناير، مشيرين لـ "بلاعة" العاصمة الإدارية للأموال.

تقرير صندوق النقد الذي فند مزاعم السيسي، تزامن مع نشر مؤسسة بوميد (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط) 7 يونيو 2023 تقريرا يشرح كيف ابتلعت العاصمة الإدارية أموال مصر التي يشكو السيسي ضياعها.

التقرير الأميركي الذي جاء بعنوان "فقاعة السيسي في الصحراء" يلقي نظرة على العاصمة الجديدة التي يملكها رئيس النظام والجنرالات وأنفق فيها 58 مليار دولار من أموال المصريين ثم يقال إنها خارج موازنة مصر.

التقرير تناول دور الجيش في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة وأكد أنه "يفتقر إلى الشفافية والمساءلة"، وقدم نظرة معمّقة في الاقتصاد السياسي الذي يقف وراء هذا المشروع المكلف للغاية.

كان أبرز ما أشار إليه التقرير هو أن مشروع العاصمة الإدارية بمثابة "إعادة توزيع للثروة، ونقلها من الشعب إلى الجنرالات"، حتى في ظل تراكم الديون على الحكومة المدنية. 

أوضح أنه "بعد عشر سنوات من استيلاء المستبد المصري السيسي على السلطة من خلال انقلاب عسكري، ووعده بتحقيق الاستقرار والازدهار، أسهم جنونه في الإنفاق من خلال الديون على المشاريع العملاقة، التي يتولى الجيش إدارتها، في أسوأ أزمة اقتصادية تعيشها مصر منذ عقود".

مؤسسة "بوميد" أكدت أن "جنون السيسي في الإنفاق الذي تغذيه الديون على المشاريع العملاقة، مثل العاصمة الإدارية، التي يقودها شريكه الحاكم، القوات المسلحة، هو أحد الأسباب الرئيسة وراء المشاكل الاقتصادية الحالية في مصر".

أوضحت أن "تصور العاصمة الإدارية الجديدة كان في الأصل أنها مشروع من ثلاث مراحل يمتد على حوالي 170 ألف فدان، وأنه سيتم تنفيذه بالكامل من قبل شركة إماراتية للتطوير العقاري وبتمويل كامل من قبل المستثمرين الخليجيين".

لكن هذه الخطة لم تتحقق، وبدلا من ذلك، جاء معظم تمويل العاصمة الإدارية الجديدة من الموارد العامة في مصر، وتأخر المشروع بشكل كبير، وجرى الانتهاء فقط من 60 بالمئة من مرحلته الأولى.

التقرير أكد أنه رغم زعم السيسي مرارا وتكرارا أن "الدولة المصرية لن تدفع جنيها واحدا" للعاصمة الإدارية الجديدة، فإن معظم الأموال التي تم إنفاقها حتى الآن جاءت بالفعل من الخزينة العامة.

وكان ذلك سواء في شكل مخصصات مباشرة في الموازنة، أم من خلال بيع الأراضي المملوكة للدولة، أم القروض المدعومة منها أم الدين الحكومي الذي ستدفعه الأجيال القادمة من المصريين على مدى عقود قادمة.

أوضح أن فوائد المشروع يجنيها جنرالات السيسي الذين أنشأوا شركة العاصمة لتحصيل عائدات مبيعات الأراضي وإيداع دخلها في حسابهم المصرفي الخاص، لا بموازنة الدولة، ودون أي رقابة مستقلة عليها. 

بين أن المستفيدين منها هم المقربون من النظام، في صورة شركات البناء العقاري التي لها علاقات وثيقة مع النظام ويقودها أعضاء الأجهزة الأمنية ويتم إسناد العمل فيها لهم ضمن شبكات المحسوبية ودوائر التربح، وشركات أجنبية متواطئة.

ويري "بوميد" أن مخاطر العاصمة الإدارية ترجع إلى غموض المشروع وتفشي المحسوبية، ويصفها بأنها "مغامرة محفوفة بالمخاطر بشكل لا يصدق لنظام السيسي".

يشير إلى أن تسريع البناء أدى إلى "أعمال رديئة وإهدار مال"، كما أن إلغاء الإسكان الميسور التكلفة، والتركيز على المساكن الراقية جعل العثور على مشترين لها أمرا صعبا.

لذا يخلص التقرير إلى أنه في أسوأ السيناريوهات، ستنفجر "فقاعة العاصمة الإدارية الجديدة" بسبب "المخططات الاحتيالية" وفساد تساهل الإدارة، واعتماد من يبنون على أموال تذهب لسداد حقوق مستثمرين.

موارد للجنرالات

حذر من أنه "إذا توقف تدفق الأموال، فسينهار المشروع بأكمله، تاركا الكثير من المدينة التي لم تكتمل بعد على شكل رمال في الصحراء".

قال: "بدون تدفقات جديدة من السيولة، سيفتقد السيسي الأموال لدعم مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ومكافأة الموالين له، وعندما يحدث ذلك، لن يقف حتى عملاؤه العسكريون إلى جانبه، وقد يغيرون ولاءاتهم الانتهازية له".

أي أن هذا المشروع لن يجني أي فوائد وسينهار على الأغلب نتيجة عجز الدولة عن توفير السيولة وضعف قدرتها على الوصول لأسواق القروض واقتراض المزيد، وسيؤدي لانقلاب الجيش على السيسي، وفق هذا التقدير.

وقد لخص تقرير آخر للباحث روبرت سبرينجبورج نشره موقع "رواق" 30 مارس 2023 هذا الاستنزاف لأموال وموارد مصر بتسميته "نموذج الاقتصاد السيساوي للتنمية".

أوضح أن "نموذج السيسي الاقتصادي، يتمثل جوهره في عسكرة اقتصادية مقترنة باستدانة مسرفة من أجل تنفيذ مشاريع مظهرية ذات منافع محدودة".

ومصر ليست فقيرة لكنها تعاني من عدم وجود إدارة جيدة لمواردها ونهبها من قبل أصحاب النفوذ وجنرالات الجيش.

هذا ما تؤكده دراسة للباحثة الاقتصادية "ماجدة حسني" بدعم من مؤسسة "روزا لكسمبورغ"، ونشرتها صحيفة "السفير" اللبنانية 6 يونيو 2019.

ولأن هذه الموارد يهيمن عليها جنرالات الجيش (منذ انقلاب 2013)، ونفوذ الجيش الاقتصادي يتصاعد، وتتوسع قبضة الجنرالات الهائل على موارد مصر، بقوانين مصممة لذلك، تبدو مشكلة مصر في إدارة هذه الموارد التي يجرى نهبها وتبديدها وقلة كفاءة من يديرونها.

الدراسة شرحت بالتفصيل كيف يستغل الجيش موارد مصر ثم يفرض النظام العسكري رسوما وإتاوات على نفس الأنشطة التجارية التي ينفذها العسكر ليفسحوا له مجال الهيمنة والسيطرة وإفقار اقتصاد مصر لحسابهم.

أوضحت أنه رغم وجود "أكبر حقل غاز طبيعي في البحر المتوسط بمصر (يعرف باسم ظهر)"، لم تنخفض فاتورة الغاز والكهرباء التي يدفعها المواطنون لاستهلاك منازلهم، وعلى النقيض، تشهد الأسعار ارتفاعا لا يتوقف.

وحتى حين افتتح السيسي في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، مزرعة "بركة غليون" بشمال الدلتا، التي تعد أكبر مزرعة سمكية في الشرق الأوسط بتكلفة 4 مليارات جنيه وقدمها كـ "مشروع قومي" يضاعف تقريبا إنتاج السمك في مصر والاكتفاء الذاتي، ارتفعت أسعار السمك.

والسبب أن عوائد المشروع لا تدخل الموازنة العامة، كما أنه في عام إنشاء الجيش لشركته للاستزراع السمكي، جرى خفض موازنة هيئة تنمية الثروة السمكية من 128 مليون جنيه إلى 38، بدلا من منحها 438 مليون جنيه التي تريدها ضمن خطتها، فأصيبت بالشلل.

وحدث الأمر ذاته مع مشاريع الجيش مثل الأسمنت والحديد والرخام والجرانيت وغيرها التي أضرت بالمنتجات المحلية وأدت لسيطرة الجيش على موارد مصر.

ويقول الباحث في علم الاجتماع السياسي، "على الرجّال" في دراسة نشرتها صحيفة "السفير" اللبنانية 30 مايو 2019 بدعم من مؤسسة "روزا لكسمبورغ" أيضا، إن مشكلة مصر الرئيسة هي في الفساد والنهب الممنهج على يد النخب العسكرية.

أوضح أن موارد مصر، تكفي لتصبح بلدا ثريا لكن سوء الإدارة يحولها من دولة غنية إلى "فقيرة"، و"تخلف هياكل الاقتصاد المصري، وغلبة الطابع الأمني في إدارة البلاد وتوسع الجيش وأجهزته وهيمنته على الاقتصاد"، سبب المشكلة.