عسكر السودان ماضون في ربط مصيرهم بالاحتلال الإسرائيلي.. هكذا تطور الفخ
كان سقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2019 على وقع احتجاجات شعبية، مؤذنا بنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في الدبلوماسية السودانية.
رحل البشير وجاء بعده جنرالات الجيش ورئيس المجلس السيادي، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الذي يعد حاليا الرجل الأول في البلاد ومؤطر سياستها الإقليمية.
ومن أبرز الملفات التي يتحكم فيها البرهان ويرسم خططها، ملف التطبيع السوداني مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويتمم قائد الجيش في هذه الآونة عملية التطبيع التي بدأت قبل سنوات، وأرادت إسرائيل أن تعبر بها إلى مراحل متقدمة، مستغلة اضطرابات السودان ومروره بمرحلة انتقالية متعثرة وأزمات اقتصادية متصاعدة.
مسار مشين
وفي 2 فبراير/ شباط 2023، كشف البرهان، عن لقاء غير معلن أجراه مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في الخرطوم، بحثا خلاله تعزيز آفاق التعاون المشترك ولا سيما في المجالات الأمنية والعسكرية.
وأشار بيان صادر عن مجلس السيادة السوداني إلى أن اللقاء "بحث سبل إرساء علاقات مثمرة مع إسرائيل وتعزيز آفاق التعاون المشترك بين الخرطوم وتل أبيب في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم ولا سيما في المجالات الأمنية والعسكرية".
فيما أفاد بيان صادر عن الخارجية السودانية، بأنه "مواصلة للاتصالات السابقة بين السودان وإسرائيل، قام كوهين يرافقه وفد من وزارة الخارجية الإسرائيلية، بزيارة للسودان، وتم الاتفاق "على المضي قدما في سبيل تطبيع العلاقات بين البلدين" وتطويرها في المجالات المختلفة.
من جانبه، قال كوهين، إن "توقيع اتفاقية السلام بين تل أبيب والخرطوم سيتم بعد شهور قليلة خلال العام الجاري في واشنطن" دون تحديد تاريخ معين لذلك.
وأشار في مؤتمر صحفي عقب عودته من الخرطوم إلى أن زيارته للخرطوم "تمت بموافقة الولايات المتحدة"، موضحا أن "الطرفين وضعا اللمسات الأخيرة على نص اتفاقية التطبيع".
وأواخر 2020، أعلنت إسرائيل والسودان تطبيع العلاقات بينهما، بعد تعهّد الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب بإزالة اسم البلد العربي من قائمة ما تعدها واشنطن "دولا راعية للإرهاب" وتقديم مساعدات للخرطوم.
إلا أن الطرفين لم يوقعا رسميا حتى الآن على اتفاقية إبراهام.
وقبل الزيارة كشف موقع "والا" العبري في 20 يناير/ كانون الثاني 2023، عن تفاصيل رحلة تطبيع حكام السودان مع إسرائيل.
وأرجع جهود تلك العملية إلى رجل يدعى "رونين ليفي ماعوز" عمل لسنوات مبعوثا إلى إفريقيا، ضمن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
حتى إن باراك رافيد المراسل السياسي لموقع "والا"، ومؤلف كتاب "سلام ترامب.. اتفاقيات التطبيع والانقلاب في الشرق الأوسط" أطلق على "ماعوز" لقب "رجل الظل" لدوره الكبير في إرساء دعائم التطبيع مع الخرطوم.
وبحسب "والا" فإن ماعوز بدأ ينسج شباط إسقاط السودان في فخ التطبيع خلال أواخر عهد البشير، إذ بدت مهمة الدبلوماسي الإسرائيلي صعبة وخيالية.
وزعم الموقع أن البشير لم يرفض إقامة علاقات محدودة مع إسرائيل، وطلب من ماعوز التحدث إلى رئيس جهاز المخابرات السوداني، الرجل القوي، صلاح قوش.
وكان صعبا على ماعوز كسر حاجز الخلافات التاريخية مع الخرطوم، خاصة أن السودان يعرف بأنه دولة معادية للاحتلال، ولديهما عداء طويل الأمد، ولا ترتبطان بعلاقات دبلوماسية، ولسنوات استضاف السودان قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكان حليفا عسكريا وسياسيا لإيران وحزب الله اللبناني.
مفتاح العسكر
لكن كل شىء تغير بسرعة عقب سقوط البشير عام 2019، وصعود البرهان وتحكمه في مقاليد الأمور، رفقة وجوه جديدة من قيادات الجيش، أبرزهم الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع.
وسرعان ما سقطت تلك الطغمة العسكرية السودانية في فخ التطبيع، بعدما اتفق ليفي ماعوز مع محام إسرائيلي بريطاني يعيش في القدس المحتلة يدعى "نيك كوفمان"، وتمثلت مهمة كوفمان في الوصول للخرطوم لمقابلة البرهان، حاملا رسالة له من نتنياهو.
حيث تمت صياغة تلك الرسالة في اجتماع في مكتب نتنياهو بحضور ماعوز، الذي أراد استخدام اتصالات كوفمان في إفريقيا.
وكانت أهم توصيات ماعوز لكوفمان التوجه إلى الدبلوماسية السودانية "نجوى قدح الدم"، التي كانت مهندسة التطبيع، ومفتاحا للعسكر، لأنها تميزت بعلاقة فريدة مع حكام السودان من العسكريين، ومع إسرائيل قبل كل ذلك.
وبالفعل في 1 يناير/ كانون الثاني 2020، استقل كوفمان طائرة متجهة للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا ثم الخرطوم، ونقل الرسالة، الرامية لإقامة علاقات دبلوماسية بين السودان وإسرائيل.
ومن مطار الخرطوم اصطحبه ضباط المخابرات السودانيون، للقاء البرهان، وكانت نجوى قدح الدم، حاضرة للمقابلة.
تقبل البرهان رسالة نتنياهو، وعبر عن استعداده للقاء، وعندما عاد كوفمان لإسرائيل سلم الرسالة لماعوز.
وفي 6 يناير/ كانون الثاني 2020، وطار ماعوز إلى مدينة عنتيبي الأوغندية لعقد اجتماع سري مع قدح الدم وأحد كبار مساعدي البرهان.
وعرض عليهما ما سيجنيه السودان من علاقات متقدمة مع إسرائيل، وأن تل أبيب ستدعم الحكام الجدد للسودان وأكد على مصالحهما المشتركة، وتم الاتفاق على الشروع بعقد قمة للبرهان ونتنياهو في أوغندا.
اللقاء المرتقب
وبالفعل في 3 فبراير/ شباط 2020، التقى نتنياهو بالبرهان، في أوغندا، وهو اللقاء الذي جاء مفاجئا، حيث لم يتم الإعلان عنه مسبقا، ومثل صدمة لمعظم الأوساط السياسية والإعلامية في العالم العربي.
خاصة أن الجنرال البرهان هو أول حاكم سوداني يضع يده في يد دولة الاحتلال جهرة وبشكل مباشر.
حينها أعلنت تل أبيب أن اللقاء، تم برعاية الرئيس الأوغندي يوري موسوفيني، وذكرت في بيان "يؤمن رئيس الوزراء نتنياهو بأن السودان يسير في اتجاه جديد وإيجابي، وعبر عن رأيه هذا في محادثاته مع وزير الخارجية الأميركي (مايك بومبيو)".
وفي 4 فبراير/ شباط 2020، نقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، عن مسؤول عسكري سوداني رفيع قوله: إن "لقاء البرهان مع نتنياهو في أوغندا، شاركت في الترتيب له الإمارات، بعلم السعودية ومصر ودائرة ضيقة من كبار المسؤولين السودانيين".
لقاء البرهان ونتنياهو، كسر حالة طويلة من الجمود فيما يخص أحاديث التطبيع بين السودان وإسرائيل، ونقل الأمر من حالة الأحاديث السرية والتوقعات الجزافية، إلى حالة الممكن والقريب.
البرهان قال آنذاك: إن "لقاء جمعني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا، وقد قمت بهذه الخطوة من موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني".
وأضاف: "أؤكد على أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية".
ليفتح بذلك الباب على مصراعيه لإسرائيل أن تدخل إلى الساحة السودانية، وتنطلق إلى تحقيق مآربها بعقد اتفاقية سلام مع الخرطوم لها ما بعدها، خاصة لما يتميز به السودان من خصائص جيوسياسية واقتصادية.
التبعات
بعدها بدأت نتائج لقاء البرهان ونتنياهو، تظهر سريعا على السودان، بداية من تصديق مجلسي السيادة والوزراء بشكل نهائي على مشروع يلغي "قانون مقاطعة إسرائيل".
وفي 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلن السودان تطبيع علاقته مع إسرائيل، في ظل معارضة قوى سياسية عديدة، أعلنت رفضها القاطع لإقامة علاقات مع الكيان الإسرائيلي، بينها أحزاب مشاركة في الائتلاف الحاكم (آنذاك) مثل الحزب الشيوعي السوداني الذي أعلن انسحابه من الائتلاف.
لكن عملية التطبيع بين الاحتلال والسودان توقفت عندما غادر نتنياهو منصبه عام 2021، وتراجع اهتمام المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية الجديدة بالسودان، ولم يوقعا على اتفاقية إقامة علاقات دبلوماسية كاملة.
ولكن عودة نتنياهو في ديسمبر/ كانون الثاني 2022، وعودة رونين ليفي ماعوز إلى الدبلوماسية الإسرائيلية، بعد أن تم تعيينه مديرا عاما لوزارة الخارجية، تشير إلى إتمام عملية التطبيع الاولى، ودخول العلاقات بين النظامين إلى وضعية جديدة من التعاون.
يأتي في ظل حاجة نتنياهو لإتمام خططه القديمة، وفي ظل حاجة البرهان والمجلس السيادي السوداني لدعم دولي وإقليمي لترسيخ أركان حكمهم.
أزمة أعمق
وقال الصحفي السوداني محمد نصر، إن "السودان الحالي أزمته أعمق من التطبيع، لأن التطبيع يكون بين أنظمة قوية وراسخة في الحكم، مثل الإمارات والبحرين وقبلهما مصر، إضافة إلى المغرب، كلها أنظمة حكم حقيقية وقابضة على زمام الأمور وهو ما لا ينطبق على السودان ومجلسه السيادي وأحزابه وحركاته المتصارعة".
وأضاف في حديثه لـ"الاستقلال": "تلك المقدمة المتهيدية هدفها أن السودان بهيئة حكمه القائمة بقيادة عبدالفتاح البرهان وحميدتي وغيرهم، سيكون مجرد لعبة في يد دولة الاحتلال وستخترقه أمنيا واستخباراتيا واقتصاديا، وستحوله إلى ملعب رئيس لأنشتطها في القارة السمراء، تماما كما فعلت مع أوغندا وتشاد".
وأوضح: "لذلك فإن المستفيد من عملية التطبيع هو إسرائيل، التي ستعمل على استغلال الثروات الزراعية والحيوانية المتوفرة في السودان، وستبدأ بإطلاق شركاتها هنا، وستجني أرباحا طائلة، بينما سيظل المجلس العسكري في نزاع مع بعضه ومع قوى الحرية والتغيير ومع الإسلاميين ومع البجا ومع الحركات المسلحة".
واختتم: "ومع ذلك لا يوجد مبرر لأي حكومة ونظام في التطبيع والخروج عن الهدف القومي العربي وعن هويتنا الإسلامية في رفض الاحتلال وأن يكون الأقصى تحت قبضة الصهاينة، وحتى لو كان السودان ونظامه سيحققون مكاسب وهذا أمر بعيد، فيجب أن نرفض ونناهض التطبيع مع كيان مغتصب عدو، يحمل لنا الشر بحمله".