"وطن جديد".. هكذا بدأت روسيا تأسيس إقامة دائمة لجنودها في سوريا
انتقلت روسيا فعليا إلى المرحلة الثانية من وجودها العسكري الدائم في سوريا، عبر تأمين شقق سكنية لإقامة ضباطها وجنودها في العاصمة دمشق وبمحافظة اللاذقية تحديدا.
جاءت خطوة موسكو على الرغم من انشغالها في غزو أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022، والذي ألقى بظلاله على حجم وطبيعة الوجود الروسي بسوريا منذ نهاية عام 2015.
إذ شهدت الفترة الماضية سحب روسيا عتادا عسكريا وأنظمة دفاع جوي وجنودا من الأراضي السورية إلى الساحة الأوكرانية، فضلا عن تسليم بعض مواقعها للمليشيات الإيرانية.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أن العسكريين الروس الذين يؤدون مهام في سوريا تسلموا وثائق تتعلق بتوفير الشقق ودعم الإسكان في دمشق وحميميم بريف اللاذقية.
وقالت الوزارة: "جرى التقديم الرسمي لوثائق الحصول على سكن دائم في قاعدة حميميم الجوية وفي تجمع للقوات الروسية في دمشق".
وسلم ألكسندر أرتامونوف، نائب رئيس إدارة الإسكان بوزارة الدفاع الروسية، الوثائق للجنود. وأكدت الوزارة أن قيادتها تولي اهتماما خاصا بتنفيذ الضمانات الاجتماعية للعسكريين.
وسبق لوزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، أن قال في حوار أجرته معه قناة "روسيا اليوم" الناطقة بالعربية، إن القوات الروسية في سوريا "لم يتبق لديها مهام عسكرية تقريبا، وإنما فقط ضمان الاستقرار والأمن".
وأكد لافروف في الحوار الذي بث في 26 مايو 2022، أن عدد القوات الروسية "على الأرض السورية تحدده مهام محددة، وعلى أساس مبدأ المصلحة".
وشكلت محافظتا اللاذقية وطرطوس على ساحل البحر المتوسط رأس حربة للوجود الروسي، وتحولتا إلى موطئ قدم إستراتيجي لموسكو بعد تدخلها عسكريا عام 2015 إلى جانب النظام السوري.
وكادت الثورة التي تفجرت عام 2011 أن تطيح برأس النظام بشار الأسد، لولا التدخل الروسي الذي قلب المعادلة العسكرية على الأرض لصالح قواته.
ولم تكن موسكو تستطيع تأمين وجودها الدائم على البحر المتوسط، إلا بعد توقيع عقدي استئجار طويلي الأجل عام 2017 لمدة 49 عاما قابلة للتمديد لمدة 25 سنة أخرى، لكل من قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية وأخرى بحرية على ساحل طرطوس.
رقعة وجود واسعة
وبهذا، فإن حلم روسيا بأن تصبح قوة حاضرة في مياه المتوسط الدافئة الذي كانت تخطط له منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، لإعادة إحياء مكانتها الدولية في النظام الدولي، تحقق على يد بشار الأسد.
ولروسيا نقاط عسكرية في 14 محافظة سورية تنامت منذ مطلع عام 2016، لكن الوجود يتباين حجمه من محافظة لأخرى.
إذ يكون الثقل الأكبر في اللاذقية حيث قاعدة حميميم الروسية الجوية، وفي طرطوس القاعدة البحرية الروسية على البحر المتوسط.
وتحولت قاعدة حميميم خلال سبع سنوات إلى منطلق للطائرات الروسية، وتسببت بقتل الآلاف من المدنيين السوريين وتدمير كامل للبنى التحتية والمنازل.
خاصة أن التدخل الروسي عسكريا في سوريا أظهر دور موسكو المخادع كـ "ضامن" لاتفاقيات خفض التصعيد المبرمة مع تركيا.
كما لعبت السفن الحربية والغواصات الروسية دورا بارزا في دعم حملة القصف التي تشنها موسكو على مواقع المعارضة السورية.
وللتنويه، فإن المواقع الروسية معلومة لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، حتى لا تتعرض لقصف من واشنطن وتل أبيب اللتين تهاجمان المصالح الإيرانية بشكل متكرر على الأراضي السورية.
لكن ما هو لافت هو تحديد اللاذقية والعاصمة دمشق كموطن لسكن الجنود الروس، ويرجع ذلك إلى حجم الثقل للأفراد والضباط الروس الذين تعد مهامهم إدارية وإشرافية ولوجستية هناك.
ففي العاصمة دمشق يوجد فريق من الجيش الروسي داخل مبنى قيادة أركان قوات النظام السوري القريب من ساحة الأمويين، بينما في قاعدة حميميم باللاذقية يوجد فيها مئات الضباط والجنود.
وتكاد تكون قاعدة حميميم البقعة الأكثر أمانا للجنود الروس، والذين يتمتعون بحركة أسهل وتنقل لمركز مدينة اللاذقية التي تتوفر فيها مقاه ومنتزهات تلبي اهتماماتهم.
ولا توجد أرقام دقيقة لأعداد الجنود والضباط الروس النظاميين التابعين لوزارة الدفاع على الأراضي السورية.
لكن وفق الوزارة فإن أكثر من 63 ألف عسكري روسي "خاضوا تجربة قتالية" في سوريا منذ سبتمبر/أيلول 2015.
إلا أنه عقب الحرب الروسية على أوكرانيا فجر 24 فبراير 2022، سحبت موسكو أعدادا كبيرة منهم وقلصتهم خدمة للمعارك هناك التي دخلت مرحلة مفتوحة.
رفاهية عسكرية
لم يكن اتخاذ روسيا قرار تأمين سكن دائم لجنودها وضباطها بسوريا في هذا التوقيت منفصلا عن تمهيد اجتماعي وثقافي لعبت عليه موسكو طوال السنوات الماضية.
إذ عمدت روسيا إلى تعويم ثقافتها في مدن وبلدات الساحل السوري معقل حاضنة نظام بشار الأسد وخزانه البشري من العناصر والضباط.
وافتتحت موسكو مركز "الفجر" لتعليم اللغة والثقافة الروسيتين، في مدينة جبلة بريف اللاذقية، في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
كما نظمت احتفاليات وطنية روسية كثيرة داخل قاعدة حميميم مثل "عيد النصر" (انتصار الاتحاد السوفيتي على النازية)، ودعت إليه ضباطا من النظام السوري وعوائلهم.
علاوة على ذلك، بذلت موسكو جهودا لنشر الوعي والاهتمام بالثقافة والفن والأدب الروسي في جميع أنحاء سوريا عبر المراكز الثقافية التي تدعمها وتديرها.
ولم تقتصر تهيئة روسيا الظروف لوجود دائم لها في سوريا ثقافيا، بل جرى الشروع بأول مشروع سياحي لشركة روسية يقام على الساحل السوري.
وجرى ذلك عندما وقع مجلس مدينة اللاذقية وشركة "سينارا إنت" الروسية، في 6 يوليو/تموز 2022، عقدا استثماريا لبناء مجمع سياحي (4 نجوم) في منطقة "جول جمال" بالمحافظة الواقعة شمال غربي سوريا.
حتى أنه عقب إلغاء نظام "سويفت" في التحويلات البنكية الدولية على الروس، بعد غزو أوكرانيا، أفادت وزارة السياحة في موسكو بأنها تعتزم توفير نظام الدفع بالبطاقات الروسية "MIR" داخل منشآت سياحية على الساحل السوري.
وفي هذا السياق، يرى الباحث في مركز "عمران" للدراسات الإستراتيجية، نوار شعبان، أن "الأهداف العسكرية الروسية في سوريا تحققت فرضيا كما تقول موسكو، ولكن مهام الوجود العسكري لا تنتهي، بل تتحول الآن إلى أهداف أمنية، وهذه الأخيرة بحاجة إلى لوجستيات وهي متنوعة من أفراد ومعدات وأسلحة وغيرها".
وأضاف شعبان لـ "الاستقلال": "لحماية الأهداف العسكرية التي حققتها في سوريا من أي خرق أمني، روسيا بحاجة لطواقم".
وعد الباحث أن "توفير سكن للجنود الروس في المدن السورية طبيعي، لكون الشركات الأجنبية بالإقليم المحيط، وليس بسوريا فقط، عندما يكون لديها مشاريع طويلة الأمد في هذه البلد، فإنها تلجأ إلى شركات الأمن الخاصة أو للوجود العسكري المباشر".
واستدرك قائلا: "في الحالة السورية فإن ذلك يدل على انتقال روسيا من مرحلة تحقيق الهدف العسكري إلى حماية محصلة الأهداف، وهذا مؤشر خطير من ناحية أن موسكو قد يكون لديها الرفاهية العسكرية لتنفيذ مهام أو عمل معين".
وزاد شعبان بالقول: "وبالتالي فإن روسيا تفكر حاليا فقط بحماية أهدافها التي حققتها في سوريا منذ عام 2015".
عربون صداقة
وكثيرة هي الشواهد على اتجاه روسيا نحو تثبيت الوجود الإستراتيجي لها في سوريا، والحفاظ على نوع من التماسك العسكري مع تركيا لمنع انزلاق البلاد نحو معارك جديدة بين المعارضة وقوات الأسد.
فبين الفينة والأخرى تجري موسكو مناورات وتدريبات للبحرية الروسية على سواحل شرق المتوسط قرب قاعدة طرطوس التابعة لها، وهي المنشأة البحرية الوحيدة التي يمتلكها الكرملين خارج النطاق الجغرافي للاتحاد السوفيتي سابقا.
وقد أظهرت حرب أوكرانيا دورا كبيرا لهذه القاعدة البحرية lk ناحية امتلاك موسكو أوراقا تصعيدية في المتوسط.
إذ إن روسيا يمكنها الاحتفاظ بعشرات السفن الحربية، بما في ذلك تلك التي تعمل بالطاقة النووية، في طرطوس بموجب عقد الاستئجار المبرم مع نظام الأسد.
كما أنه في أكثر من مناسبة كرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله إن قاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين في سوريا، تشكلان عاملا مهما لحماية مصالح موسكو.
إضافة إلى ذلك، يستفيد الكرملين، من وجود استثمارات روسية في قطاعات سورية حساسة، يمكنها تحويل سوريا إلى منطقة نفوذ اقتصادي لموسكو على الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
ومن هناك تبرز كثير من المؤشرات عن أن خطوة روسيا في تأمين وجود دائم لجنودها في سوريا، جاءت نتيجة عوامل الاستقرار التي خلقتها اتفاقيات موسكو مع الأسد والتي منحتها وجودا طويل الأمد.
ومن هنا، ينظر المحلل والخبير العسكري السوري العقيد إسماعيل أيوب، إلى أن "من الطبيعي انتقال روسيا إلى الخطوة التالية بمنح الجنود الذين لديهم فترة خدمة طويلة شققا سكنية وسيارات بسوريا بعد عقود قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية لمدة 49 عاما والقابلة للتجديد 25 عاما".
وقال أيوب لـ "الاستقلال": "إن هؤلاء الجنود يوجدون ضمن أراض خاصة بروسيا في سوريا، وبالتالي فإن منح السكن قد تكون بمثابة عربون صداقة أكبر من نظام الأسد، ولا سيما أنه ربما تكون هذه الشقق مجانية للروس".
وذهب الخبير للقول: "إن دلالة فترة الإقامة الطويلة للوجود الروسي في سوريا وغياب الأعمال القتالية، يعني توفير شقق سكنية لعوائل الجنود والضباط وتحديدا في المناطق السورية الآمنة فضلا عن توفير مدارس لهم".