تبرأ من ضحايا جرجيس.. مجلة فرنسية: نظام سعيد غير إنساني يهين التونسيين
سلطت مجلة "جون أفريك" الفرنسية الضوء على قضية المهاجرين غير النظاميين التونسيين الـ18 المفقودين منذ مايزيد عن شهر وسط مطالبات عائلاتهم نظام الرئيس قيس سعيد بإيجادهم أو توضيح مصيرهم.
ويخيم الحزن والغضب على أهالي مدينة جرجيس جنوب شرقي تونس منذ 21 سبتمبر/ أيلول 2022، مع انقطاع كل سبل التواصل مع ذويهم الذين اضطروا لمغادرة البلاد في ظل الأوضاع الاقتصادية المريرة الراهنة وحالة اللامبالاة التي تخيم على السلطات إزاء الفاجعة.
غضب عارم
وقالت المجلة الفرنسية إنه في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 تظاهر 7000 شخص ودعموا حركة الإضراب التي أطلقها الاتحاد العام التونسي للشغل في مدينة جرجيس.
وأعربت هذه المدينة الساحلية عن غضبها من عجز السلطات التعامل مع تداعيات الهجرة غير النظامية، بعد مقتل 18 من سكان المدينة الذين حاولوا العبور إلى سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية أواخر سبتمبر بطريقة مأساوية.
وأضحت قصص الهجرة غير النظامية مثيرة للجدل بشكل مأساوي، أكثر من أي وقت مضى، في هذه المنطقة البحرية الشاسعة الواقعة قبالة مدينة جرجيس، المحاذية للساحل الشمالي الغربي الليبي.
وأصبح توجه التونسيين الإجباري إلى طرق الهجرة غير الشرعية مأساة جديدة لعدد من المناطق في البلاد خاصة عندما ينتهي المطاف بالبعض إلى الموت غرقا في البحر المتوسط.
وصارت سجلات وفيات المهاجرين غير النظاميين في تونس أشبه بسجلات الوفيات العالمية، شأن سجلات المهاجرين عبر الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك على سبيل المثال.
وفي 21 سبتمبر كان الطقس رائعا عندما أبحر قارب هؤلاء الضحايا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
وكان المهرب المعروف "الباريزي" (الباريسي) هو الذي نظم هذه الرحلة هذه المرة لمجموعة قوامها 18 شخصا، جميعهم من نفس الحي في مدينة جرجيس.
بعد ساعات قليلة من المغادرة فقد الأقارب الاتصال بالقارب وأبلغوا السلطات المحلية التي لم ترد على بلاغاتهم.تقوم العائلات، التي تعرف أن البحر غالبا ما يعيد الجثث في حال غرقت، بمسح الشاطئ لوحدها بحثا عن أبنائهم.
وانتهى المطاف بالسلطات الأمنية أن وجدوا جثة فتاة اسمها "ملاك" 23 عاما على أحد الشواطئ في جزيرة جربة المحاذية.
أظهرت بيانات الهاتف الذي وجد في جيبها أنها حاولت عدة مرات الاتصال بالمهرب في 21 سبتمبر.
وبينما تعرف والدها على جثتها لم يتم العثور على رضيعها البالغ من العمر عامين.
الإنكار واللامبالاة
ويعد غرق مركب الـ18 مهاجرا غير النظاميين واحدا من سلسلة من المآسي التي تعيشها السواحل التونسية على مدار السنة.
لكن يبدو أن هذه المرة في مدينة جرجيس قد أفاضت الكأس بالنسبة للمواطنين الذين استطاعوا لمدة عشرة أيام تحويل المدينة إلى واحدة من نقاط الانطلاق الرئيسة للتحركات الشعبية للمطالبة بتوضيح مصير "الحراقة"، أولئك الذين يهاجرون بطرق غير نظامية كما يطلق عليهم في كل مكان في تونس.
وأثارت "مأساة الـ 18" غضبا واسعا في تونس، خاصة في ظل غياب أي توضيح رسمي من قبل السلطات الأمنية التونسية عن مصيرهم.
ولم يكن لدى الكثير من العائلات في مدينة جرجيس علم بوفاة أطفالها، وطالبت السلطات المعنية بتقديم إجابات واضحة عن مصير أبنائهم.
وبعد تخطي المرحلة الأولى من الإنكار، أو بالأحرى من اللامبالاة، قررت السلطات القضائية في تونس فتح تحقيق رسمي في القضية.
لكن، لا شيء يبدو أنه يرضي جرجيس، خاصة وأن تأخر السلطات في التحرك زاد من غضب المواطنين.
في 7 أكتوبر، أصبحت القضية أكثر وضوحا عندما تعرفت إحدى الأمهات على صورة لابنها بفضل ملابسه، وقد كان واحدا من بقايا الجثث التي أحضرها أحد البحارة المحليين إلى الشاطئ قبل أسبوعين من ذلك التاريخ.
توجهت الأم مباشرة لنبش بقايا جثة ابنها، لكن المثير للجدل أن الدائرة البلدية في المدينة نقلته إلى المستشفى الجهوي الذي سارع بدوره، دون حتى أخذ عينة من حمضه النووي كما هو متبع في العادة، بإصدار قرار بأنه ليس تونسيا وإنما هو أحد مواطني دول جنوب الصحراء.
ونظرا لأنه ليس تونسيا، حسبما قررت السلطة الإدارية المحلية، أمر بدفنه في المقبرة المخصصة للأجانب في مدينة جرجيس والتي تعرف باسم "مقبرة الغرباء".
وحرصا منها على تنظيم جنازة تليق بابنها، تواصل الأسرة مطالباتها إلى السلطات المعنية في المدينة، بدعم من المجتمع المدني وكذلك من العائلات الأخرى، باستخراج الجثة.
وأثارت هذه الحادثة شكوكا حول مدى دقة هوية باقي الجثث التي وقع دفنها في مقبرة الغرباء.
وتم بالفعل تحديد عدد من القبور الأخرى التي سوف يتم حفرها بناء على طلب العائلات، من أجل إجراء اختبارات الحمض النووي، عسى أن يكون بعض المفقودين من الـ18 مهاجرا موجودين ضمنهم.
ومرة أخرى تجد العائلات في المدينة نفسها أمام مفاجأة جديدة.
حيث تبين أن كل القبور التي قامت السلطات الجنائية بفحص حمضها النووي تحتوي على جثث لمواطنين تونسيين من جرجيس.
وتعود تلك الجثث التي تم العثور عليها إلى عدد من المفقودين الـ18 الذين تبحث عنهم العائلات منذ غرق مركب الهجرة غير النظامية خاصتهم في سبتمبر.
وتم نقل الرفات بعد ذلك إلى مقبرة مدينة جرجيس.
صدمة شعبية
وفي محاولة للتدخل، أكد مسؤول محلي في الجهة أن "المقابر الجماعية لضحايا غرق مراكب الهجرة غير النظامية مثلت صدمة فعلية بالنسبة للسكان".
وعد أنه "سيكون من الأفضل تجنب فرض مثل هذا المشهد المحزن على المجتمع مرة أخرى".
هذا التصريح الغريب وهذا الموقف القريب من الإنكار، تقول المجلة، يغذي كل الشكوك حول دور السلطة فيما يحدث.
وفي 14 أكتوبر، عندما ذهب محافظ مدنين إلى المدينة ليعاين خطورة الوضع، قوبل بهتاف السكان ضده، غاضبين من عدم إيلاء الاعتبار للضحايا، ولكن أيضا لعائلاتهم.
الوضع أكثر حساسية لأن المنطقة المحافظة للغاية مرتبطة جدا بالشعائر الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بتكريم الميت ودفنه بطريقة لائقة.
ومع ذلك، في حالة ضحايا غرق مركب الهجرة غير النظامية، لم يتم تنفيذ أي من الشعائر الإسلامية التي تعنى بتكريم المتوفى، بل دفنت الجثث دون الكشف عن هويتها في مقبرة مسيحية.
ويقول مسؤول عن الهلال الأحمر في محافظة مدنين، إن "تراكم كل هذه الأخطاء الفادحة، الممزوجة بإيحاءات عنصرية، جعلت من الوضع في مدينة جرجيس متفجرا".
بالنسبة للكثيرين، تعد الحادثة المأساوية لجرجيس رمزا للطريقة التي تعامل بها السلطات التونسية المواطنين.
حتى إن الرئيس قيس سعيد، الذي أبدى قبل بضعة أشهر تعاطفه مع ضحايا حادث حافلة، يؤكد هذه المرة أنهم (المهاجرون) "مسؤولون عن اختيارهم".
هناك صعوبة في التوصل إلى السردية الصحيحة التي يمكن أن تفك شيفرة الوضع الراهن في تونس: إذ ما هي الطريقة المثلى لجعل للسلطات تدرك أن المزيد والمزيد من التونسيين، وخاصة الشباب، يريدون مغادرة البلاد.
وكان عدد المهاجرين غير النظاميين 25000 عام 2021، وهناك بالفعل ما يقرب عن 27000 في عام 2022 وفقا للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES).
وتعمل الدولة على فرض نظام قائم على التصدي لقوارب الهجرة غير النظامية، وليس على نظام قوامه إنقاذ المهاجرين بوصفهم ذات بشرية أولا وقبل كل شيء.
وخلصت المجلة الفرنسية للقول، إن هذا النظام قمعي وغير إنساني بامتياز، ومهين للمواطنين الذين لا تحميهم الدولة.