أسندها لقائمين بالأعمال.. لماذا يتهرب السيسي من تعيين رؤساء الهيئات الرقابية؟
في خطوة اعتادها المصريون في السنوات الأخيرة، عين رئيس النظام عبد الفتاح السيسي في 30 أغسطس/ آب 2022، اللواء الأمني عمرو عادل، قائما بأعمال رئيس هيئة الرقابة الإدارية.
ولفت انتباه كثيرين أن الذين سبقوا عادل كانوا أيضا قائمين بالأعمال وليسوا رؤساء لهذه الهيئة السيادية الحساسة، وهما اللواء شريف سيف الدين، واللواء حسن عبد الشافي.
فلماذا لم يعين السيسي رئيسا للهيئة بشكل طبيعي؟ ولماذا يكلف المسؤول عن إدارتها كقائم بالأعمال؟ ولماذا يواصل تعيين لواءات شرطة وجيش بمناصب مدنية، رغم أحقية عشرات المتخصصين بهذه المهام؟
المادة 216
في مايو/ آيار 2018، كان الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات (أبرز الهيئات الرقابية بمصر) هشام جنينة في طريقه للمحكمة للطعن على قرار السيسي عزله من منصبه في 2016 بالمخالفة للدستور.
لكن عربة محملة بالبلطجية قطعوا طريقه آنذاك واعتدوا عليه ثم لاذوا بالفرار، في الوقت ذاته كانت زوجته وبناته محتجزات في قسم التجمع الأول بالقاهرة.
لاحقا حكم على جنينة بالسجن عاما مع إيقاف التنفيذ، وظلت وقائع التنكيل به حاضرة، ومدونة تاريخيا.
وتعلم السيسي من درس الاصطدام برئيس جهاز رقابي الكثير، وقرر أن يناور مناورة تمكنه من تجاوز الدستور، وتسمح له بإمكانية عزل وإقالة رؤساء الهيئات الرقابية، عبر استخدام منصب القائم بالأعمال.
وفي 30 أغسطس/ آب 2020، تحايل السيسي على أحكام المادة 216 من الدستور، والقانون رقم 89 لسنة 2015 بشأن حالات إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية.
إذ أصدر قرارا جمهوريا بتولي مدير إدارة المهندسين العسكريين السابق، اللواء أركان حرب حسن عبد الشافي، مهام القائم بأعمال رئيس هيئة الرقابة الإدارية، خلفا للواء شريف سيف الدين، الذي شغل نفس المنصب بنفس الدرجة منذ 30 أغسطس 2018.
قبلها كان اللواء محمد عرفان جمال الدين، هو آخر من شغل منصب رئيس هيئة الرقابة الإدارية، إلى أن تمت إقالته، في ظل حديث عن خلافات وقعت بينه وبين نجل السيسي مصطفى.
ونصت المادة 216 من الدستور المصري على أن "يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال".
وأضافت: "يعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويحظر عليهم ما يحظر على الوزراء".
الهيئات الرقابية
لمعرفة مدى إحكام السيسي سيطرته على الجهاز الرقابي للدولة، لابد من الاطلاع على خريطة الأجهزة الرقابية في مصر، والتي تتكون من:
أولا: "الجهاز المركزي للمحاسبات" ويعد أعلى هيئة رقابية في الدولة، حيث أسس بإصدار المرسوم الملكي رقم 52 لسنة 1942، بإنشاء ديوان المحاسبة كهيئة مستقلة للرقابة على المال العام، وكأداة للتحكم في مراقبة إيرادات ومصروفات الدولة.
الجهاز بحسب دستور 2015 هو هيئة مستقلة تتبع رئيس الجمهورية، وتهدف إلى تحقيق الرقابة الفعالة على أموال الدولة وأموال الشخصيات العامة الأخرى.
ثانيا: "هيئة الرقابة الإدارية" وهي هيئة رقابية مستقلة مصرية تتبع رئيس الجمهورية. تأسست بالقانون رقم 54 لسنة 1964، وتأسست لمكافحة الفساد بصوره كافة، ضمانا لحسن أداء الوظيفة العامة، وحفاظا على المال العام.
ثالثا: "الهيئة العامة للرقابة المالية"، وأنشئت بموجب القانون رقم 10 لسنة 2009، وتختص الهيئة بالرقابة والإشراف على الأسواق والأدوات المالية غير المصرفية، بما في ذلك أسواق رأس المال، وبورصات العقود الآجلة، وأنشطة التأمين، والتمويل العقاري.
رابعا: "الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات"، وأسست بناء على القرار الجمهوري رقم 1770 لسنة 1971 القاضي بإنشاء الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، كجهاز خدمي وتنفيذي.
وتختص بالرقابة النوعية على الصادرات، والمستورد من السلع الغذائية والصناعية، وإصدار شهادات المنشأ والتسجيلات التجارية والفرز والتحكيم للمحاصيل الزراعية.
وصدرت العديد من القرارات والقوانين واللوائح التي أكدت تحديد أن "الهيئة هي الجهة الرقابية الوحيدة التي يناط بها أعمال فحص السلع المصدرة والمستوردة".
خامسا: "هيئة الرقابة والبحوث الدوائية"، وهي هيئة عامة خدمية ذات شخصية اعتبارية تتبع رئيس مجلس الوزراء، تأسست بالقانون رقم 151 لسنة 2019 لتحل محل الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، والهيئة القومية للبحوث والرقابة على المستحضرات الحيوية.
سادسا: "هيئة الرقابة على المصنفات الفنية"، وتأسست وفقا للقانون رقم 430 لسنة 1955، والمعدل بالقانون رقم 38 لسنة 1992 بقرار من مجلس الوزراء، وهو يحدد كل أشكال التعامل وآليات تنفيذ القرار مع أي مصنف فني.
ودورها الأساسي يتمثل في المحافظة على القيم والمبادئ والمحافظة على التقاليد الراسخة، وتأكيد قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية، والحفاظ على الآداب العامة وحماية المجتمع، عن طريق تنقية الأعمال الفنية من كل ما يسيء إلى القيم.
سابعا: "مصلحة الرقابة الصناعية"، وتأسست بناء على القرار الجمهوري رقم 94 لسنة 1956 الخاص بإنشائها وقيامها بأعبائها الوظيفية المنوطة بها كجهة من الهيئات والمصالح التابعة لوزارة التجارة والصناعة المصرية.
ودورها يتمثل في الرقابة على جودة المنتجات الصناعية، من خلال التفتيش الدوري والمستمر على نظم الجودة بالوحدات الإنتاجية.
القائمون بالأعمال
وجميع رؤساء تلك الهيئات محصنون بالدستور ولا يستطيع رئيس الجمهورية عزلهم، إلا بإجراءات معقدة تستلزم موافقة البرلمان، وفقا للمادة 216 من الدستور.
لذلك لجأ السيسي إلى مناورة بتعيين قائمين بالأعمال لتلك الهيئات، بدلا من رؤساء لها، وبذلك يسهل عليه إقالتهم وقتما شاء.
حدث هذا على سبيل المثال في 28 مارس/ آذار 2016، عندما أصدر السيسي قرارا جمهوريا بتعيين المستشار هشام بدوي، (قائما بأعمال) رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، خلفا للمستشار هشام جنينة، الذي صدر قرار بإعفائه من منصبه.
وفي 7 أغسطس/ آب 2022، أقدم السيسي على تعيين الدكتور محمد فريد صالح (قائما بأعمال) رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية، لمدة عام (قابل للتجديد).
والحرب على جنينة بدأت عام 2016 مع إصداره بيانات عن حجم الفساد وتداعياته على الدولة المصرية.
أوضح حينها أنه من خلال التقارير الرقابية التي يشرف عليها أعضاء الجهاز المركزي للمحاسبات، يمكن القول إن الفساد عام 2015 تجاوز 600 مليار جنيه (نحو 31 مليار دولار).
وقد أحدث تقرير جنينة آنذاك دويا هائلا، فصدر قرار إقالته سريعا، بالمخالفة للدستور.
مع حظر النيابة العامة نشره في وسائل الإعلام المصرية، فضلا عن إتلاف جميع النسخ المأخوذة منه في الجهاز المركزي للمحاسبات، عقب إقالة جنينة مباشرة.
وعبرت تلك الواقعة عن مدى استفحال العقلية العسكرية، وعلى رأسها السيسي، وفي القلب منها الدوائر التي تهيمن عليها أجهزته الأمنية والمعلوماتية، التي باتت مهيمنة على الاقتصاد والسياسة والإعلام.
جرى عزل هشام جنينة وصدر حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، لأنه أدى وظيفته في محاربة الفساد.
ومنذ ذلك الحين أصبح السيسي يعين قائما بالأعمال بالهيئات الرقابية، حتى إذا خالف نهجه أقاله وعزله دون الدخول في معارك تفصيلية كما حدث مع جنينة.
إضافة إلى ذلك السيسي لا يترك رئيسا لجهاز رقابي أكثر من عامين في منصبه، كما حدث مع القائمين بأعمال هيئة الرقابة الإدارية السابقين (اللواء شريف سيف الدين _ اللواء حسن عبد الشافي).
ترزي "القوانين"
وفي قراءته للمشهد، قال المحامي المصري بالنقض كريم اليعقوبي لـ"الاستقلال"، إن "مسألة احترام الدساتير والقوانين بالنسبة للحاكم الديكتاتور محل هزل وسخرية، وهي وقائع دارجة في التاريخ المصري"؟
وأضاف أنه في عهد الملكية حاولت حكومة حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا حل مجلس الدولة، وفي عام 1969 ارتكب جمال عبد الناصر (مذبحة القضاة) الشهيرة، عندما عزل وزير العدل، وألغى انتخابات مجلس القضاة".
وأوضح أن "السيسي نفسه عد سلطته أعلى وأرفع من الدستور، فهو الذي قام بعمل الدوائر الخاصة وانتدب إليها قضاة من اختياره، وهو الذي تحايل على كثير من القوانين، أهمها عزل رؤساء الهيئات الرقابية".
وهو الذي نادى بالعدالة الناجزة، يزيد اليعقوبي، "رغم أن ذلك من طبيعة وشأن القضاء والقضاة، فلا يوجد في التاريخ ما يعرف بالعدالة الناجزة أو المتأخرة، لأن روح العدالة واحدة".
ولفت إلى أن "منصب الرئيس المصري بطبيعته يمنح الحاكم صلاحيات لا حد لها، إضافة أن عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية يضمن له الولاء الكامل لكل شخص يتم اختياره في منصب من المناصب، بل حتى ولو كان موظفا عاديا، غالبا ما يتم التحقيق عنه وتتبعه".
لكن لأن الرئيس جاء من هيئة استخباراتية فإنه يسعى إلى الضمان الكامل لإنفاذ إرادته دون مخاطرة الدخول في صدام أو أمور غير محسوبة العواقب، مثلما حدث مع رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق هشام جنينة، الذي نكل به واستنفرت مؤسسات الدولة الأمنية والبرلمانية لعزله، يستدرك رجل القانون المصري.
وأضاف أن "فكرة (القائم بالأعمال) ليكون على رأس جهاز رقابي بغرض سهولة عزله والسيطرة عليه، إنما هي من نتاج ما يعرف بـ(ترزية) القوانين الذين كانوا متواجدين دائما، ومن أشهرهم (رئيس مجلس النواب السابق) فتحي سرور الذي كان ترزي قوانين (الرئيس المعزول حسني) مبارك".
واختتم المحامي المصري: "أنه رغم أن رئيس الجهاز الرقابي غير منتخب، ويعين من رئيس الجمهورية، وهذا لا يحدث في معظم دول العالم المتقدمة، لكنه يخضع لكل هذه التحكمات.