"كركوك-جيهان".. لماذا أوقفت تركيا اتفاقية خط أنابيب النفط مع العراق؟

منذ ٩ ساعات

12

طباعة

مشاركة

شهدت العلاقات بين تركيا والعراق تحولا لافتا في مجال الطاقة مع إعلان أنقرة، في 21 يوليو/تموز 2025، انسحابها من اتفاقية خط أنابيب النفط الخام (كركوك-جيهان) الموقعة بين البلدين عام 1973. 

وقد صدر هذا القرار بمرسوم رئاسي ينص على انتهاء صلاحية الاتفاقية فعليا في 27 يوليو 2026، في انسحاب لا يُعَدّ مجرد خطوة تقنية، بل يمثل نقطة مفصلية لإعادة بناء التعاون بين البلدين في قطاع الطاقة ضمن إطار جديد أكثر شمولاً وتنوعاً.

رؤية متعددة 

وقال مركز أورسام التركي لدراسات الشرق الأوسط: إن الاتفاقية الأصلية جاءت في 1973 في ظل ظروف إقليمية ودولية معقدة، ووضعت الأساس لتعاون طويل الأمد في تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية.

 إذ مكّن الخط العراق من الوصول إلى الأسواق العالمية من خلال ميناء جيهان التركي، ليصبح أحد أبرز ممرات تصدير النفط العراقي، خاصة من المناطق الشمالية. 

كما عزز هذا الخط موقع تركيا كممر حيوي لعبور مصادر الطاقة، ما أضاف بعدا إستراتيجيا لدورها الإقليمي، وفق الكاتب التركي "فيز الله تونا أيغون".

واستدرك أن الاتفاقية شهدت تراجعا في فعاليتها بفعل الأزمات التي مرَّ بها العراق، من حربه مع إيران (عام 1980)، إلى العقوبات الدولية، ثم الغزو الأميركي لبغداد (2003) والانقسامات السياسية، ما أدّى إلى صعوبات مستمرة في التطبيق.

وجاء قرار تركيا بالانسحاب من هذه الاتفاقية كإشارة إلى انتهاء مرحلة وتطلّع نحو أخرى جديدة، تقوم على إعادة تعريف أسس التعاون في مجال الطاقة، وفق الكاتب.

وأشار إلى أن التحرك التركي يعكس رغبة في بناء شراكة أوسع وأعمق، تستند إلى المرونة وتعدد المجالات، بما يشمل قطاعات لم تكن مشمولة في الاتفاق الأصلي، كالكهرباء والغاز الطبيعي والبتروكيماويات.

وتابع: طرحت تركيا على الجانب العراقي مسودة اتفاق جديد لا تقتصر على تشغيل خط أنابيب فقط، بل تعكس تصوّراً متقدماً لشراكة شاملة بقطاع الطاقة. 

هذا المشروع يشمل مجالات الغاز الطبيعي، والبتروكيماويات، والطاقة الكهربائية، مما يتماشى مع توجّه أنقرة نحو تنويع مصادر التعاون وتوسيع نطاقه.

وقال وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار: إن بلاده اقترحت آلية على الجانب العراقي تضمن الاستخدام الكامل لخط أنابيب النفط بين البلدين.

وأضاف في تصريحات صحفية عقب اجتماع للحكومة بالعاصمة أنقرة في 28 يوليو، أن تركيا نفذت استثمارات كبيرة لضمان استمرار عمل خط أنابيب النفط الواصل مع العراق.

وأوضح أنه بحث هذا الموضوع أخيرا مع وزير النفط العراقي حيان عبد الغني خلال لقائهما عقب اجتماع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في العاصمة النمساوية فيينا.

وأشار إلى أن سعة خط أنابيب النفط الخام بين تركيا والعراق تبلغ حوالي 1.5 مليون برميل يوميا، وأنه لا يوجد تدفق حاليا، وحتى عندما كان هناك تدفق، لم يكن الخط يعمل بكامل طاقته.

فائدة أم ضرر؟

وبدورها، لم تصدر بغداد موقفا يؤيد أو يرفض إلغاء الاتفاقية؛ إذ اكتفت وزارة النفط العراقية بنشر بيان تحدثت فيه عن أنها "بصدد مراجعة مسودة الاتفاقية المرسلة من الجانب التركي والتفاوض معهم بشأنها وصولا إلى الصيغة التي تخدم مصلحة العراق وتركيا".

وتوقّف الضخ بعد صدور حكم تحكيم دولي من غرفة التجارة الدولية في باريس، قضى بأن تركيا خالفت اتفاق 1973 عبر سماحها لإقليم كردستان بتصدير النفط دون موافقة بغداد بين 2014 و2018. 

وأُلزمت أنقرة بدفع تعويضات قدرها 1.5 مليار دولار، فبادرت إلى وقف تدفق النفط فوراً، لإجراء مراجعة فنية للأنبوب، وفق ما قالت.

وقدر العراق خسائره جراء توقف تدفق النفط بـ19 مليار دولار حتى فبراير/شباط 2025، وفق تصريحات لوزير الخارجية فؤاد حسين في نفس الشهر.

وقال حسين وقتها: إن حكومته تعمل على تسوية القضايا الفنية مع حكومة إقليم كردستان العراق لإعادة تشغيل خط أنابيب تصدير النفط الخام إلى تركيا.

وعدّل البرلمان العراقي أخيرا الموازنة العامة، ممهدا الطريق لاستئناف تصدير نفط إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي بعد توقفه عامين.

وكان العراق يصدر ما بين 400 ألف إلى 500 ألف برميل يوميا من الحقول في شمالي البلاد، عبر خط الأنابيب المتوقف متجها نحو تركيا.

وبالنسبة للعراق، فإنّ هذه الخطوة تمثل فرصة مهمة لتحديث وتوسيع بنيته التحتية في مجال تصدير الطاقة، وتوفير قنوات بديلة لصادراته بعيدا عن الاعتماد الكامل على المنافذ الجنوبية، وفق الكاتب.

وقد يشمل المشروع أيضا ربط مناطق مثل إقليم كردستان الغني بالموارد بالأسواق العالمية، وهو ما يعزّز مكانة تركيا كمركز عبور رئيس للطاقة ويمنح العراق مرونة أكبر في توزيع إنتاجه.

وأضاف: يتجاوز هذا التحول في سياسة تركيا الطابع الفني ليصل إلى أبعاد جيوسياسية واقتصادية واضحة. 

فالتحرك نحو تنويع الشراكات في قطاع الطاقة يهدف إلى تقليص الاعتماد على مصادر محددة، وتعزيز أمن الطاقة الوطني، مع توسيع نطاق النفوذ في الجوار الإقليمي.

في المقابل، يمكن للعراق أن يستفيد من هذا التعاون بتطوير قدراته التصديرية والتصنيعية، وخلق فرص استثمار جديدة في قطاعات الطاقة المتقدمة، وفق الكاتب.

كما أن دخول مجالات مثل الكهرباء والبتروكيماويات يفتح الباب أمام تعاون صناعي أكثر تكاملا، لا يقتصر على التصدير فحسب، بل يشمل التصنيع المشترك وتوسيع دائرة التجارة بين البلدين.

تحديات متوقعة

وأردف الكاتب التركي: رغم الطابع الطموح للاتفاق المقترح، فإن نجاحه يبقى مرهونا بعدة عوامل؛ أهمها طبيعة العلاقات بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل.

هذا بالإضافة إلى التوازنات الداخلية بالعراق وتأثير الأطراف الإقليمية الأخرى التي قد تنظر بعين الريبة إلى تقارب تركي-عراقي واسع النطاق بهذا المجال.

إذ تُعد قضية الطاقة من أبرز وأعقد الملفات في العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق في أربيل. 

ففي بلد يملك من الثروات الهيدروكربونية ما تؤهله للعب دور محوري في سوق الطاقة العالمية، تتحول هذه الثروات من عامل قوة إلى مصدر توتر مستمر، مدفوع بتناقضات دستورية وحسابات سياسية وهشاشة اقتصادية عميقة، لا سيما في الإقليم.

واستدرك الكاتب: يتجذر الخلاف بين بغداد وأربيل في مسألة من يملك الصلاحية القانونية لتوقيع عقود النفط والغاز وتوزيع عائداتها. 

ففي عام 2007 شرّع إقليم كردستان قانونا خاصا بالقطاع ووقّع اتفاقيات مستقلة مع شركات أجنبية، وهو ما رفضته بغداد بصفته انتهاكا للمادة 112 من الدستور، في حين استندت أربيل إلى المادة 115 التي تعطي أولوية للقوانين المحلية في حال غياب نص اتحادي. 

وقد انتهى هذا النزاع القانوني بقرار المحكمة الاتحادية عام 2022، الذي ألغى قانون الإقليم وعدّه غير دستوري.

تُضاف إلى هذه الأزمة هشاشة اقتصاد كردستان المعتمد على النفط، والذي يتّبع نموذجا ريعيا يركز على الرواتب ويُهمش التنمية، مما أضعف موقف أربيل التفاوضي. 

ورغم ذلك، شهد يوليو 2025 اختراقا في العلاقة بعد موافقة بغداد على صرف رواتب موظفي الإقليم مقابل قبول أربيل بمشاركة عائداتها، وهو ما عزز سلطة الحكومة الاتحادية على إدارة الموارد.

ورغم هذا التقدم، يبقى غياب قانون موحّد للنفط والغاز العائقَ الأكبر أمام تسوية نهائية؛ حيث أدى غيابه إلى تفسيرات متضاربة في الأدوار والصلاحيات، وأبقى ملف الطاقة مفتوحاً على أزمات مستمرة.

وتابع الكاتب: يزداد الضغط لإقرار هذا القانون مع طرح اتفاق طاقة شامل بين تركيا والعراق ليشمل الغاز والكهرباء.

وهو اتفاق لا يمكن تنفيذه بشكل فعّال ما لم تُحدد الصلاحيات بين بغداد وأربيل في هذا المجال؛ وذلك تجنباً لأي اعتراضات مستقبلية من جانب الإقليم.

بالإضافة إلى أن العراق يدخل مرحلة سياسية دقيقة مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات البرلمانية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.

فعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني مرشح قوي لتشكيل حكومة ثانية، فإن نتائج الانتخابات قد تفتح المجال لتحالفات جديدة، تُعيد رسم ملامح السلطة.

في هذا السياق، قد تعتمد كل من بغداد وأربيل مقاربات أكثر براغماتية، خاصة وأن الحكومة المقبلة ستحتاج دعم الكتل الكردية في البرلمان لنيل الثقة، مما يمنح أربيل هامشاً إضافياً في التفاوض. 

غير أن فشل السوداني بتشكيل الحكومة، أو الدخول في فراغ سياسي طويل، قد يعطل أي تقدم في ملف الطاقة، خاصة فيما يتعلق بالتفاهمات مع تركيا ومشاريع البنية التحتية المرتقبة، وفق تقدير الكاتب.

وأضاف: من منظور تركي، يشكل استقرار العلاقة بين بغداد وأربيل حجر أساس في أي اتفاق إقليمي كبير في مجال الطاقة. 

فإذا ما أدت الانتخابات إلى تقلبات سياسية أو حكومة انتقالية ضعيفة، قد يتعثر الزخم الإيجابي الذي شهدته العلاقات التركية-العراقية أخيرا. 

لكن في المقابل، فإن اعتماد أنقرة سياسة تقوم على المصالح المشتركة، قد يسمح لها بالتحرك بمرونة حتى في ظل بيئة سياسية متقلبة.

وختم الكاتب مقاله قائلا: تُجسد قضايا الطاقة بين بغداد وأربيل نموذجا كلاسيكيا لصراع الصلاحيات والثروات في دولة اتحادية فتية. 

ومع أن التطورات الأخيرة تشير إلى وجود نوافذ للتفاهم والتقارب، فإن غياب قانون شامل للموارد الهيدروكربونية، واستمرار التحديات الداخلية في الإقليم يجعلان من الصعب الوصول إلى حل دائم. 

لكن إذا ما استُثمرت لحظة التفاهم الحالية، وأديرت الانتخابات المقبلة بحكمة، فقد تكون البلاد على عتبة إعادة صياغة جديدة وأكثر استقرارا لعلاقة بغداد بأربيل في واحد من أهم ملفاتها: الطاقة، وفق الكاتب.