التحذيرات من عودة العهد "البصري" تعمق مخاوف المغاربة.. ما القصة؟
عاد صراع قديم إلى الساحة السياسة المغربية مجددا، مع تردد اسم ظل "بعبعا" في أذهان من عايشوه وأيضا من سمعوا به، فيما بقي التوجس منه سيد الموقف لسنوات طوال.
وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، الذي كانت ولايته من أسوأ حقب المملكة الحديثة، حيث عرف بقمع حرية التعبير وحملات اعتقال للمعارضين، استحضر اسمه مؤخرا رئيس الحكومة السابق، أمين عام حزب العدالة والتنمية (معارض)، عبد الإله بنكيران، في رده على وزارة الداخلية بشأن سجال حول "الفساد الانتخابي".
سيطرة الخوف
في 27 يوليو/ تموز 2022، تساءل بنكيران: "هل تريدون أن تعود علاقتنا بالدولة إلى مرحلة كان يطبعها الخوف؟ الملك أقسم بأن مرحلة إدريس البصري لن تعود ثانية للمغرب".
وأضاف بنكيران في فيديو تواصلي بثته صفحته على فيسبوك، أن "مرحلة الخوف التي طبعت سياق تولي البصري مفاتيح وزارة الداخلية سابقا، قد ولت ومعها فترة الجنرال محمد أوفقير كذلك".
وجاء حديث بنكيران في رده على بلاغ وزارة الداخلية، الذي اتهمت فيه حزب العدالة والتنمية بـ"محاولة ضرب مصداقية" الانتخابات التشريعية الجزئية التي جرت في 21 يوليو، لملء 6 مقاعد شاغرة بمجلس النواب في مدينتي مكناس (وسط) والحسيمة (شمال).
وأظهرت نتائج الانتخابات، التي اتهم بنكيران وزارة الداخلية بتدخلها فيها، تفوق حزب "التجمع الوطني للأحرار" الحاكم رغم ما ناله ورئيسه عزيز أخنوش في الشهور الأخيرة من انتقادات وغضب شعبي جراء الغلاء وارتفاع أسعار المحروقات.
وقالت الوزارة في 26 يوليو إن "قيادة أحد الأحزاب (تقصد بنكيران) عمدت إلى محاولة ضرب مصداقية هذه العملية الانتخابية من خلال الترويج لمجموعة من المغالطات تدعي من خلالها أن التصويت كان بتوجيه من بعض رجال السلطة، واصفة إياهم بنعوت قدحية لا تليق بمستوى الخطاب السياسي الرصين الذي من المفروض أن يتحلى به أمين عام حزب".
ونفت الوزارة “هذه الادعاءات المغرضة وغير المقبولة التي يبقى الهدف منها إفساد هذه المحطة الانتخابية والتشكيك في مجرياتها بشكل ممنهج ومقصود، على غرار الخط السياسي الذي تبناه الحزب المعني خلال الاستحقاقات الانتخابية الماضية".
لكن زعيم العدالة والتنمية قال في كلمته إن "هواجس الخوف انتهت، مستندا في ذلك على حديث جمعه مع الملك"، قائلا "سيدنا أقسم بأن مرحلة البصري لن تعود".
وأوضح بنكيران أنه "لم يكن يشعر هذا الخوف كله، رغم أنه عاش مرحلة أوفقير، وهي مرحلة سيطر فيها الخوف، على غرار مرحلة البصري، وهي “حقبة تم الاعتداء فيها علي جسديا وسجنت بدرب مولاي الشريف”.
وتساءل بنكيران عن مدى حرية التعبير في المغرب، مؤكدا أنه ليس من حق وزير الداخلية أن يحرمه من حقه في الكلام، قائلا: "واش مبقاش عندنا الحق نتكلمو فهاد البلاد (ألم يعد لنا الحق في الكلام بالبلاد)، لا أريد أن أقول لكن انتوما درتيو اللي بغيتو وحنا باغين تمنعونا من الكلام (أنتم تصرفتم وفق أهوائكم وتريدون أن تمنعونا من كلام)".
ويعد البصري أحد أبرز السياسيين في تاريخ المغرب الحديث، ووصل عام 1979 إلى منصب وزير الداخلية، وفي 1985 جمع بين منصبي وزير الداخلية ووزير الإعلام، كما نال لقب وزير الدولة، وظل محتفظا بهذين المنصبين إلى جانب لقبه حتى عام 1994.
وبعد أكثر من 20 سنة قضاها وزيرا للداخلية أعفي البصري، الرجل القوي والنافذ في عهد الملك الحسن الثاني، من مهامه بعد تولي الملك محمد السادس العرش عام 1999، وغادر إلى فرنسا في 2003 التي عاش فيها شبه منفي معزولا حتى وفاته 2007.
وفي السياق قال الناشط الحقوقي عبد الله الغيسي: "هل تعود أيام إدريس البصري؟" لا شك أنه منذ تسعينيات القرن الماضي عرف المغرب انفراجا حقوقيا نسبيا، لم يكن حتما هبة منحها النظام، وإنما كانت نتيجة نضالات مديدة للقوى الديمقراطية والتقدمية بالبلاد".
وأضاف الغيسي في تدوينة عبر فيسبوك في 28 يوليو أنه "من الملاحظ في السنوات الأخيرة أن هناك نكوصا وتراجعات خطيرة على المستوى الحقوقي، خاصة بعد فشل الخيارات الاقتصادية والمشاريع التنموية، وبعد أن أبانت الشعارات عن زيفها، مما أدى إلى احتقان اجتماعي وتزايد وتيرة الحركات الاحتجاجية".
واستطرد أنه "أمام عجز الدولة عن تقديم إجابات عن الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، لم تجد سوى المقاربة القمعية للرد".
تكميم الأصوات
ويشهد المغرب وضعا حقوقيا صعبا، إلى جانب إكراهات اجتماعية واقتصادية، زادت من قتامتها الأحكام القضائية التي شهدتها ردهات المحاكم في المملكة خلال أسبوعين فقط مع نهاية فبراير/شباط وبداية مارس/آذار 2022، بحق أساتذة وصحفيين وناشطين حقوقيين.
وفي 3 مارس، قضت محكمة استئناف الدار البيضاء بالسجن لمدة ست سنوات بحق الصحفي عمر الراضي، بعد تسعة أيام من حكم بسجن الصحفي سليمان الريسوني لمدة خمس سنوات، وقبلهما بأيام المحامي ووزير حقوق الإنسان الأسبق، محمد زيان لمدة ثلاث سنوات بتهمة "الابتزاز والتحرش وإهانة مؤسسات الدولة"، وآخرها الحكم على 45 معلما.
وجاءت هذه الأحكام في ظرفية اجتماعية واقتصادية صعبة داخليا وخارجيا، مع قلق متزايد يعبر عنه صحفيون وناشطون بـ"تكميم الأفواه" والتضييق على الحريات من قبل السلطات في المغرب، حيث كان يأمل حقوقيون بتصحيح مسار المحاكمات الذي يرون أنه "تشوبه مخالفات".
وبدأت "تتلاشى وتخفت" الأصوات الناقدة أمام موجة الضغوط القضائية والمحاكمات على الصحفيين والناشطين الحقوقيين، وتركز التهم على "مسائل أخلاقية تمس حياتهم الشخصية"، وسط تشهير ممنهج مع حرمان الضحايا من حقوقهم الأساسية.
ولفت الحقوقي الغيسي إلى أن "هذا النكوص بدا خلال حراك الريف (عام 2016) والمقاربة القمعية التي اعتمدتها الدولة في التعامل معه، والأحكام الجائرة التي تم إصدارها في حق مناضليه، ثم اعتماد نفس المقاربة مع باقي الحركات الاجتماعية، وكذا نضالات بعض الفئات كالأساتذة المفروض عليهم التعاقد، إضافة إلى اعتقال صحفيين ومدونين بتهم ملفقة..".
وتابع الغيسي: "إلا أنه ظهر بشكل صارخ خلال وبعد مرحلة كورونا (منذ 2020)، حيث أبانت طريقة تدبير الأزمة عن ضعف دور المجتمع المدني مقابل حضور شبه كلي لمؤسسات الدولة التقليدية، وحيث شكلت حالة الطوارئ الصحية المفروضة (لم يتم رفعها) فرصة سانحة للنظام لتكميم كل صوت يصدح بمطالبه المشروعة".
وشدد على أن "كلها مسائل إن دلت على شيء فإنما تدل على إقفال قوس الانفراج الذي تحدثنا عنه آنفا، والعودة لممارسات عهد طواه الزمن، لفترة كانت وزارة الداخلية (أو أم الوزارات كما كانت تسمى) تحكم قبضة من حديد على مناحي الحياة السياسية، وعلى رأسها شخص اسمه إدريس البصري".
وقال الناشط الحقوقي: "أثار انتباهي مؤخرا تصريح بنكيران والذي قال فيه أن الملك حلف له أن أيام البصري لن تعود، لقد غاب على السيد بنكيران أن منطق حلف ليا، هو الذي فوت على الصف الديمقراطي فرصا ذهبية، وكان سببا في قسط وفير مما نعانيه اليوم".
ودعا الغيسي "القوى الديمقراطية والتقدمية بالبلاد إلى رص الصفوف من أجل التصدي لهذه الانتكاسة الحقوقية الخطيرة، التي فاقمت أزمة كورونا من حدتها، وتفادي عودة أيام لم ينس المغاربة جروحها بعد".
ناقوس خطر
وتتزامن تصريحات بنكيران مع تقرير حديث صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية انتقدت فيه بشدة الوضع الحقوقي بالمملكة.
وقالت في تقرير صادر عنها في 28 يوليو، إن "السلطات المغربية تستخدم تكتيكات احتيالية وملتوية لإسكات النشطاء والصحفيين الناقدين، تهدف هذه الإجراءات إلى الحفاظ على الصورة التي يتمسك بها المغرب كدولة (معتدلة) تحترم الحقوق بينما يزداد قمعها أكثر من أي وقت مضى".
ووثقت "هيومن رايتس" مجموعة من التكتيكات التي تستخدم مجتمعة لتشكل منظومة قمعية، ليس هدفها إسكات الأصوات المعارضة فحسب، بل أيضا ترهيب كل المنتقدين المحتملين.
وتشمل التكتيكات، وفق المنظمة، محاكمات جائرة وأحكام سجن طويلة بتهم جنائية لا علاقة لها بالتعبير، وحملات مضايقة وتشهير في وسائل الإعلام الموالية للدولة، واستهداف أقارب المعارضين.
كما تعرض منتقدو الدولة أيضا للمراقبة الرقمية والتصوير السري، وفي بعض الحالات لترهيب جسدي واعتداءات لم تحقق فيها الشرطة بشكل جدي.
وضمن التقرير، قالت مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "هيومن رايتس"، لما فقيه، إن "السلطات المغربية تستخدم منظومة من التكتيكات الاحتيالية لقمع المعارضين بينما تسعى جاهدة للحفاظ على صورة المغرب كدولة تحترم الحقوق، لذا على المجتمع الدولي أن يفتح أعينه ويرى القمع على ما هو عليه، ويطالب بوقفه".
الباحث في العلوم السياسية أمين الإدريسي عد أن "تصريحات بنكيران جاءت بعد بيان يمكن القول أنه عنيف من الداخلية خاصة أنه لم يسمه بالاسم ولم يشر لحزبه ما يعني أن هناك انتقاصا للهيئة السياسة وقيادتها".
وقال الإدريسي لـ"الاستقلال" إن "الملاحظ في تعبيرات بنكيران وحديثه أنه نابع من ظلم يظهر له أن حزبه تعرض له، بعد توقعاته بأن العدالة والتنمية سيتصدر في مدينتي الحسيمة ومكناس، لكن المثير أنه لم يظفر بأي من المقعدين".
واستطرد أن "بيان الداخلية زاد من عمق الأزمة لدى الحزب، لكن استحضار زمن البصري وأوفقير هو ناقوس خطر بالنسبة للممارسة السياسية، وأيضا الوضع العام الذي يعيشه المغرب مع الحكومة الجديدة بقيادة عزيز أخنوش التي يرى المواطن أنها عمقت من أزماته الاجتماعية في غياب لأي متنفس خاصة الاحتجاجات على مستوى الشارع ".
وأكد الإدريسي أن "المغرب يعيش وضعا استثنائيا بعد مرور عدة موجات من التغيرات السياسية على المستوى الحكومي وأيضا القرارات السيادية، ودخل الآن مع حكومة أخنوش مرحلة ضبط الفرامل".
ورأى أن "مهندسي الدولة لهم تصور ربما جديد في رسم خارطة جديدة، لكن لهم تخوفات من أي انزلاقات تدفع بتغيير في المنظومة العليا، ما يدفع بعض المشرفين على هذا التصور أو الخارطة الجديدة في بعض الأحيان إلى اتخاذ قرارات ضد تطلعات المواطن".
وأوضح أن "هذه القرارات تأخذ وفق فكرة عامة وهو الحفاظ على الإدارة العليا المركزية صاحبة القرار، وهذا يعني الحفاظ على سيادة الدولة، ووفق هذا المنظور المواطن سيضطر للتعامل مع قرارات قد يراها ليس في صالحه، وربما يمكن القول مجازا العيش في مرحلة البصري اضطرارا".
وحذر الإدريسي من "استمرار هذه المرحلة لأنها ستؤدي إلى انفجار مجتمعي قد يعيد المنظومة إلى نقطة الصفر وربما ربيع مغربي أعنف من تداعيات الربيع العربي التي تجاوزها المغرب بذكاء من خلال استفتاء على الدستور والسماح للإسلاميين بقيادة الحكومة".