رغم خضوعها له.. لماذا عين السيسي عسكريا في أعلى محكمة مدنية بمصر؟
نشرت الجريدة الرسمية بمصر في 7 يوليو/ تموز 2022، قرارا بدا روتينيا من رئيس النظام عبد الفتاح السيسي بتعيين "القاضي صلاح محمد عبد المجيد يوسف" نائبا لرئيس المحكمة الدستورية العليا.
لكن تبين لاحقا أن "صلاح محمد عبد المجيد يوسف" هو نفسه اللواء المعروف باسم "صلاح الرويني" رئيس هيئة القضاء العسكري المصري السابق، وهي سابقة تحدث لأول مرة في مصر، أن يُعين عسكري نائبا لرئيس أعلى محكمة بالبلاد.
وأدى الرويني، في 17 يوليو، اليمين القانونية أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا، كأول لواء بالقوات المسلحة ينضم لتشكيل المحكمة، ويُعين نائبًا لرئيسها منذ إنشائها عام 1979.
وبث التلفزيون الحكومي أداء الأعضاء الجدد في المحكمة اليمين الدستورية وظهر اللواء الرويني لأول مرة على المنصة مع بقية الأعضاء الـ11، لكن التلفزيون لم يذكر لقبه واكتفي بالقول إن اسمه "صلاح يوسف".
#نشرة_الثالثة | الأعضاء الجدد بـ #المحكمة_الدستورية_العليا يؤدون اليمين القانونية pic.twitter.com/vn5mSloUug
— القناة الأولى المصرية (@channel1eg) July 17, 2022
سطوة الجيش
قضاة ونشطاء رأوا أن قرار السيسي يعني أن تصبح المؤسسة العسكرية على بعد خطوة واحدة من رئاسة المحكمة الدستورية، وأن ما حدث هو "عسكرة القضاء" بعد السيطرة عليه.
ولفتوا إلى أن اللواء الرويني يبلغ من العمر 65 عاما، ما يجعله المرشح المرجح لرئاسة المحكمة الدستورية لاحقا في ظل كبر سن بقية أعضاء المحكمة.
وبهذا القرار، لم يكتف السيسي بتنصيب نفسه، في الدستور، بصفته الرئيس الأعلى للمحكمة الدستورية العليا والقائم على تعيين رئيسها وقياداتها بدلا من نظام المحكمة السابق الذي كان متبعا على مدار عقود بانتخابهم عبر الجمعية العمومية.
لكنه قام بتعيين رئيس "القضاء العسكري" السابق نائبا لرئيس المحكمة، ما يمهد لرئاسته لها أيضا مستقبلا.
ونصت المادة 193 (الفقرة الثالثة) من دستور 2014 على أن "تختار الجمعية العامة رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة، كما تختار نواب الرئيس، وأعضاء هيئة المفوضين بها، ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية".
لكن في التعديلات الدستورية التي تمت أبريل/نيسان 2018 جرى تعديل هذه المادة لتصبح: "يختار رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم خمسة نواب لرئيس المحكمة".
و"يعين (السيسي) نواب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة ويرشح الآخر رئيس المحكمة، كما يعين رئيس هيئة المفوضين وأعضاؤها بقرار من رئيس الجمهورية بناء على ترشيح رئيس المحكمة وبعد أخذ رأي الجمعية العامة للمحكمة".
وقال قاض سابق إن قرار تعيين عسكري في المحكمة الدستورية "يرسخ ما هو معروف"، بأن هذه المحكمة ليست مستقلة، فهي باتت جزءا من السلطة بعد تعديلات دستور 2019 بشأن تعيين أعضائها، وبعد تعيين عسكري فيها ترسخ ذلك.
وأضاف لـ"الاستقلال" مفضلا عدم ذكر اسمه أو جهة عمله، إن انتقال ضباط الجيش للعمل بالمحكمة الدستورية العليا "يُنهي أي حديث عن استقلال المحكمة عن السلطة الحالية".
وتابع: "تعيين عسكري كقاض بالدستورية، عزز ما كان يقال عن استخدام المجلس العسكري لهذه المحكمة في إصدار قرارات ضد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 مثل حل البرلمان المنتخب، وإلغاء الوثيقة الدستورية التي أصدرها الرئيس الراحل محمد مرسي.
دور مشبوه
وشارك رئيس المحكمة السابق عدلي منصور في بيان الانقلاب في 3 يوليو/ تموز 2013 وكوفئ بتولي الرئاسة صوريا كمحلل للسيسي.
فيما أصدر رؤساء آخرون سابقون للمحكمة، قرارات تلغي مصرية جزيرتي تيران وصنافير تماشيا مع رغبات السلطة، ونالوا مكافآت مماثلة عبر تعيين أحدهم رئيسا لمجلس النواب، والثاني رئيسا لمجلس الشيوخ.
فبعد 3 أشهر فقط من تعيين عبد الوهاب عبد الرازق الرئيس السابق للمحكمة الدستورية، رئيسا لمجلس الشيوخ، تم تعيين نظيره السابق حنفي الجبالي رئيسا لمجلس النواب.
وهو مؤشر واضح على مكافأة السلطة لقضاة المحكمة مقابل خدماتهم السياسية.
وفي 14 يونيو/حزيران 2012، تكالب المجلس العسكري الحاكم حينئذ، والمحكمة الدستورية على أول برلمان لثورة يناير 2011، فاز بأغلبيته الإسلاميون، فقضت المحكمة بحل ثلث مقاعد البرلمان وعدم دستورية قانون العزل السياسي للحزب الوطني.
ثم أصدر المجلس العسكري قرارا بحل مجلس الشعب بالتزامن مع حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون الانتخابات.
لكن، عقب توليه مهام الرئاسة رسميا 30 يونيو/حزيران 2012 أصدر الرئيس الراحل محمد مرسي قرارا جمهوريا في 8 يوليو 2012 بعودة مجلس الشعب ودعاه للانعقاد ثانية حتى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة خلال شهرين بعد إقرار الدستور الجديد للبلاد.
فعادت المحكمة الدستورية لتصدر حكما مسيسا في 10 يوليو 2012 بوقف قرار الرئيس مرسي بعودة مجلس الشعب، بدعوى بطلانه، وتنفيذ حكمها السابق ببطلان قانون انتخابات البرلمان، بما يترتب عليه حله وجعله غير قائم.
ورأى الصحفي عبد الحميد قطب، أن "قرار تعيين الرويني لم يصدره السيسي، ولكن الجيش الذي أجبره على تعيينه نائبا لرئيس المحكمة بعدما عين السيسي منذ أشهر المسيحي بولس فهمي رئيسا لها".
واعتبر في تغريدة عبر تويتر في 19 يوليو، أن الأمر "ربما يكون مقدمة لشيء ما" دون توضيح ما المقصود.
الجيش يجبر #السيسى على تعيين اللواء صلاح الرويني نائبا للمحكمة الدستورية العليا ، وذلك بعدما عين السيسي منذ أشهر القبطي بولس فهمي رئيسا للمحكمة الدستورية العليا ..
— عبدالحميد قطب (@AbdAlhamed_kotb) July 19, 2022
في تقديري هذا القرار ربما يكون مقدمة لشيء ما ..
نجل "البشري"
في أكتوبر/تشرين أول 2012 عين الرئيس الراحل محمد مرسي "عماد نجل المستشار طارق البشري، نائب رئيس مجلس الدولة السابق، عضوا بهيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا، وكان يعمل بها منذ 2010.
وقبل ذلك، عين المجلس الأعلى للقوات المسلحة في فبراير/شباط 2011 طارق البشري، الأب، رئيسا للجنة المعنية بتعديل الدستور المصري بعد ثورة 2011.
لكن، في 16 يوليو 2018، أصدر السيسي قرارا جمهوريا، رقم 328 لسنة 2018 بتعيين المستشار طارق عبد العليم أبوالعطا نائبا لرئيس المحكمة الدستورية، رغم أن البشري الابن كان الأقدم في التعيين بالمحكمة.
وقبل قرار السيسي جرى تصعيد المستشار عوض عبد الحميد بدلا من "البشري" في رئاسة هيئة المفوضين في فبراير/شباط 2022.
وبتعيين "أبو العطا"، الذي كان رئيسا لهيئة المفوضين، عضوا بالمحكمة، أصبح المستشار عماد طارق البشري رئيسا لهيئة مفوضي المحكمة الدستورية، بصفته أقدم القضاة بالهيئة، وذلك منذ عام 2018.
ومع خلو مقعدين من مقاعد أعضاء المحكمة الـ12 لبلوغهم السن القانونية (70 عاما)، كان من الطبيعي تعيين "البشري" الابن عضوا في المحكمة، بصفته رئيس هيئة المفوضين السابق والأقدم، كما جرى العرف، لكن السيسي عين العسكري "الرويني".
وسبق أن حرم رئيس النظام السابق حسني مبارك المستشار طارق البشري (الأب) من منصب رئيس مجلس الدولة الذي استحقه بسبب نقده المتكرر للنظام وتحدّيه، وأصدر كتابا عام 2006 بعنوان "مصر بين العصيان والتفكك".
من جانبه، أكد "رئيس إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا" لموقع "مدى مصر" الإلكتروني في 19 يوليو، أن قانون المحكمة الدستورية يعطي الأولوية في التعيين فيها لرئيس هيئة المفوضين بها، وهو المستشار عماد البشري.
قال إن "اللواء الرويني جاء إلى المحكمة على حساب البشري الابن رئيس هيئة المفوضين السابق بالدستورية، لأنه كان عليه الدور في الانتقال للتعيين بالمحكمة، بحكم الأقدمية، وهو ما يؤكده أيضا موقع المحكمة.
وحاول المتحدث باسم المحكمة المستشار محمود غنيم، تبرير تخطي البشري الابن في التعيين، فلم ينفِ أحقيته، لكنه قال لموقع "مدى مصر" إن القرار الجمهوري الخاص بتعيينه لم يصدر!
وأضاف غنيم أنه "بمجرد خلو أي من مقاعد المحكمة، سيتم إدراج اسم البشري في المقدمة".
لكن المتحدث باسم المحكمة الدستورية لم يحدد أسباب ومعايير تفضيل السيسي والجمعية العامة للمحكمة لرئيس القضاء العسكري على رئيس هيئة المفوضين بها.
وكشف غنيم أن رئيس المحكمة المستشار بولس فهمي، هو من رشح الرويني لعضوية الدستورية، وهو من عرض على الرويني أن يترك وظيفته كرئيس للقضاء العسكري وينتقل للعمل عضوا بالدستورية.
و"بعد موافقته، عرض رئيس المحكمة الأمر على الجمعية العامة للمحكمة، التي وافقت بالإجماع بعد أن اطلع قضاتها على «ملفه ورأي الجهات الأمنية فيه" يدعي المتحدث.
عسكرة القضاء
أثار التعيين الأخير تساؤلات حول تمدد سيطرة القوات المسلحة على سلطات مختلفة بما فيها القضاء، وإخضاع الجهات القضائية لسيطرة اللواءات بدلا من القضاة.
ورأى قضاة ونشطاء، أن القرار سيؤدي لعسكرة المحكمة الدستورية، ولن يكون الرويني هو أول عسكري يدخلها بعدما عدل السيسي الدستور عام 2019.
القاضي السابق الذي تحدث لـ"الاستقلال" أوضح أن السيطرة على المحكمة الدستورية عسكريا أمر طبيعي بعد تعديلات السيسي للدستور عام 2019.
أوضح أن هذه التعديلات جعلت القضاء العسكري (وفقا للمادة 193 المعدلة من الدستور) جزء من السلطة القضائية وضمته رسميا إلى المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية المدنية، وبات أعضاؤه مثل باقي أعضاء المحاكم المدنية.
ووصفت المادة 204 من تعديلات الدستور لعام 2019 القضاء العسكري بأنه "جهة قضائية مستقلة" بصفته جزءا من المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية الذي يرأسه السيسي.
وبررت المحكمة الدستورية في بيان في 17 يوليو، ضمنا، تعيين الرويني ضمنا بدلا من البشري، بأنه بذلك "أصبح تشكيل المحكمة متضمنا جميع الجهات والهيئات القضائية"، في إشارة لوجود قاضٍ عسكري ضمن قضاتها.
وأكد نائب رئيس مجلس الدولة المستشار أحمد عبد الرحمن، لموقع مدى مصر في 19 يوليو، أن "هذه المرة الأولى (لتعيين عسكري بالدستورية)، ولن تكون الأخيرة، وإنما سيتبعها تعيين قضاة عسكريين آخرين في المحكمة الدستورية".
جزم بأنه في ظل تفوق "الرويني" (يقصد العسكريين عموما) على منافسيه في كل ما يتعلق بالتحريات الأمنية، يجعل إمكانية ترؤسه، ومن سيأتي بعده من اللواءات، للمحكمة الدستورية العليا لعدة سنوات، أكبر من جميع قضاة المحكمة الحاليين!
وحاول المتحدث باسم الدستورية غنيم، الحد من القلق بشأن فرص تولي اللواء الرويني رئاسة المحكمة، قائلا لـ "مدي مصر" إنها "قليلة".
وأوضح إن الدستور ألزم رئيس الجمهورية عند تعيين رئيس المحكمة بالاختيار بين أقدم خمسة مستشارين، والأقدمية يحددها تاريخ الالتحاق بالمحكمة، وبالنسبة للرويني فترتيبه الـ 11 بين نواب رئيس المحكمة الـ 12".
ولكن التقدير السابق لنائب رئيس مجلس الدولة يغفل اقتراب عدد كبير من هؤلاء المستشارين من سن المعاش بالفعل، واحتمالات ألا يكمل رئيسها الحالي مدته حتى 2027، بحسب رصد "الاستقلال" تواريخ معاشاتهم.
ما يعني اقتراب الرويني من الخمسة قضاة المحددين في التعديل الدستوري للاختيار بينهم، ثم تعيينه رئيسا مقبلا للمحكمة، بقرار من السيسي!
وسبق أن أقال السيسي رئيس الدستورية العليا السابق المستشار سعيد مرعي عمرو، بدعوي "وعكة صحية ألمت به وأعجزته عن مباشرة مهام عمله كرئيس للمحكمة" رغم أن سنه 67 عاما، وكان من المقرر أن يحال للتقاعد في أغسطس/آب 2024.
ويقول رئيس مركز استقلال القضاء والمحاماة، ناصر أمين، إن دخول لواءات القوات المسلحة المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى جهة قضائية في البلاد، "أمر خطير يهدد طبيعة المحكمة ودورها".
وأوضح لمدى مصر أيضا أن القضاء العسكري، حتى وإن نص الدستور على كونه جهة قضائية، إلا أنه "يظل قضاء يمارس اختصاصا محددا مرتبطا بالأمور العسكرية، بعيدا كل البعد عن اختصاص المحكمة الدستورية.