ظاهرة حرق الجسد في المغرب.. صرخة احتجاج لا تجد من يسمعها
بشكل متزايد، يشهد المغرب حوادث لأشخاص اختاروا الاحتجاج ضد سياسات السلطات بـ“حرق الجسد”، كشكل من أشكال رفض ما يعدونه "ظلما" و"إهانة" لكرامتهم.
وبتلك الطريقة الصادمة والقاسية، بدأت هذه الظاهرة تقلق المواطنين، مع دعوات للبحث عن حلول استباقية ناجعة لإيقاف هذه الحوادث التي يرى كثيرون أن إنصات الجهات الرسمية لهؤلاء "الضحايا" سيساهم بتقليص حرق الأشخاص لذواتهم.
حوادث صادمة
إثر صدور حكم ابتدائي يدينه بالسجن 4 أعوام أواخر أبريل/ نيسان 2022 على خلفية انتقاده السلطات، هدد الناشط المغربي ربيع الأبلق، بحرق جسده "على طريقة البوعزيزي".
ومحمد طارق البوعزيزي هو شاب تونسي توفي إثر إضرامه النار بجسده في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، احتجاجا على مصادرة البلدية لعربة صغيرة كان يبيع عليها الخضروات، ما كان سببا في إشعال ثورات الربيع العربي.
وفي فيديو بثه على حسابه في "فيسبوك"، قال الأبلق: "أربع سنوات دون أن أقتل أو أسرق أحدا، لكن أقسم بالله أني سأجعل من نفسي جثة البوعزيزي".
وحكمت المحكمة الابتدائية في مدينة الحسيمة شمالي المغرب بالسجن أربع سنوات وغرامة مالية في حق الناشط في حراك الريف، الأبلق، لإدانته بـ"الإخلال بالاحترام الواجب للملك"، بسبب فيديوهات تضمنت انتقادات للعاهل المغربي.
وجاء تهديد الأبلق بعد شهر على إضرام شاب مغربي النار في جسده "خلال بث مباشر عبر حسابه على فيسبوك"، احتجاجا على مصادرة مصدر رزقه بمدينة الدار البيضاء في 17 مارس/ آذار 2022.
وفي 9 أغسطس/آب 2021، لقي شاب مغربي مصرعه بعدما أضرم النار في جسده تنديدا بمصادرة السلطات عربة كان يستعملها في نقل المسافرين، دون ترخيص قانوني قرب الدار البيضاء.
وفي 9 أبريل 2020، أقدمت بائعة حلوى تدعى "مي فتيحة" على إحراق نفسها في مدينة القنيطرة، شمال غربي البلاد؛ احتجاجا على ما عدته "إهانة" تعرضت لها من طرف رجال الأمن.
"فتيحة" لحقت بعناصر الأمن، وتوسلت إليهم من أجل إرجاع بضاعتها، التي تعد على بساطتها مصدر رزقها الوحيد، وعندما لاقت توسلاتها رفضا، أقدمت على إحراق نفسها؛ إذ تم نقلها إلى المستشفى، وتوفيت بعد الحادث بيومين.
البرلماني عن حزب "الأصالة والمعاصرة" عبد اللطيف الزعيم، أضرم أيضا النار في جسمه في 15 يونيو/ حزيران 2017، رفضا لقرار إزالة معمل لإنتاج البيض كان يمتلكه في مدينة بنجرير، وسط المغرب، وضم أرضه لصالح شركة الفوسفات الحكومية.
وفي يناير/كانون الثاني 2012، توفي بمركز الحروق التابع للمركز الاسشفائي الجامعي "ابن رشد" بالدار البيضاء الإطار العاطل عن العمل، زيدون عبد الوهاب (27 سنة)، متأثرا بحروقه التي أصيب بها بعدما أشعل النار في جسده خلال اعتصام للمعطلين بملحق وزارة التربية الوطنية في العاصمة الرباط.
يأس اجتماعي
وتعليقا على ذلك، قال الناشط الحقوقي إبراهيم السدراتي، إن "ظاهرة إحراق الجسد في المغرب جديدة وانتشرت أكثر خلال العقد الأخير، بسبب الإحساس بالظلم الذي يعيشه المواطن من قبل المسؤولين خاصة الأمنيين، ولغياب المساواة والكرامة في ظل الاحتقار والإهانة التي يتعرض لها عند التعامل معهم".
وأضاف لـ"الاستقلال" أنه "للحد من هذه الظاهرة يجب احترام كرامة المواطن وعدم إهانته واحترام إنسانيته في الإدارات الرسمية التي تشهد أصنافا من الاحتقار، كما وجب على المسؤولين الإنصات لشكاوى الباحثين عن فرص الشغل أو أصحاب القطاعات غير المهيكلة (غير قانونية)".
وشدد السدراتي على أن "إضرام النار في الجسد تلقى رفضا لدى فئات المجتمع لأن الحق في الحياة أسمى، ولأن البعد الديني في هذه الظاهرة يحرمها انطلاقا من (إن لنفسك عليك حقا)، وبهذا فإن الراغب في حرق جسده يجب ألا ييأس بسرعة ويختار الحل القاسي والمميت".
من جانبه، يرى رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عزيز غالي، في حديث لموقع "أصوات مغاربية"، أن ظاهرة إحراق الذات هي "شكل احتجاجي من أشكال ردود الفعل نتيجة الإحساس بالظلم والاحتقار".
وذكر غالي أن إحراق الذات "يأتي بعد أن يفقد الشخص جميع بدائل الاحتجاج ويصل إلى إحساس مرتفع بالاحتقار".
وأوضح أنه "عندما يرى الشخص أن محاكمته ليست عادلة ولم يقتنع بالحكم الذي صدر في حقه، فإن لديه خيارين أولها الإضراب عن الطعام وهو الشكل الاحتجاجي الأكثر شيوعا، والثاني الإقدام على حرق الذات وهي حالات معزولة إثر الإحساس بقمة اليأس".
وأكد غالي رفضه لهذا النوع من الاحتجاج كونه يمس أقدس حق وهو الحياة، مشددا على أن "السبيل لتجنب هذا النوع القاسي من الاحتجاج هو تمتيع المواطنين بالمحاكمات العادلة".
شكل احتجاجي
بدوره، قال المدون المغربي، حمزة فجير، إن "إضرام النار في الذات أو الجسد، يعد أعلى مراتب التعبير عن الاحتجاج السياسي أو اليأس الاجتماعي، وفي كلتا الحالتين يعبران عن مواجهة الظلم".
وأضاف في تدوينة نشرها في 23 ديسمبر 2021، أن "هذه الظاهرة التي يبدو أنها بدأت تستقر في المغرب الذي يتصدر لائحة مواطني العالم في إضرام النار في أجسادهم تعود الى الستينيات من القرن العشرين، وشهدت منعطفا تاريخيا مع التونسي محمد بوعزيزي".
وأوضح فجير أنه "توجد تقاليد متعددة للانتحار في العالم، وأبرزها للدفاع عن الشرف، كما كان الحال عليه في اليابان، عبر ضرب الإنسان نفسه بالسيف وهو تقليد ضارب في التاريخ، والانتحار كشكل احتجاجي ضد الظلم ويتجلى في إحراق الذات".
ولفت إلى أن "إحراق الذات كطريقة للاحتجاج ليس بالتقليد القديم، بل يعود إلى بداية الستينيات، حيث استفاق العالم في 11 يونيو 1963 على خبر إقدام رجل دين بوذي اسمه (تشيك كوان دوك) على إضرام النار في نفسه في شارع رئيس في مدينة سايغون في فيتنام الجنوبية احتجاجا على ملاحقة النظام للبوذيين".
وتابع فجير: "من بعد ذلك توالت عمليات إحراق الذات للتعبير عن الظلم والاضطهاد السياسي أو الاجتماعي في شتى أنحاء العالم، ولكن حصل المغرب العربي على أعلى نسبة في الاحتجاجات النارية".
واختار المغرب اعتماد الأسلوب الزجري للحد من اتساع دائرة عمليات إحراق الذات، التي كانت بدأت في صفوف العاطلين، قبل أن تنتقل إلى فئات أخرى.
وعولجت أول قضية من هذا النوع، بعد انطلاق شرارة الربيع العربي، في مدينة مكناس، حيث أمرت النيابة العامة في محكمة الاستئناف مصالح الشرطة القضائية بوضع بائع متجول، من مواليد 1980، ويدعى "ن.إ.ع"، رهن الاعتقال الاحتياطي.
وجاء هذا القرار من أجل البحث معه بشأن جناية محاولة إضرام النار، بعد إيقافه أثناء صب البنزين على جسده، ومحاولة إضرام النار بنفسه، احتجاجا منه على أمر إداري، يقضي بمنعه من استغلال الملك العمومي في بيع الأثواب.
وفيما عدت الجهات الرسمية أن الغرض من هذا الإجراء هو "محاربة الفوضى والتسيب"، يرى مراقبون أن "الزجر ليس هو الحل لمعالجة هذه الإشكالية".
ويرى المحامي والحقوقي، الحسين بكار السباعي، أنه من ضمن مسببات الانتحار بهذا الشكل الإحساس بالظلم والاحتقار ورفض كل قواعد السلوك وأساليب الضبط الاجتماعي، "خاصة عندما يشعر الفرد بعدم وجود تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية".
وأضاف السباعي لـ"أصوات مغاربية"، أن "المشرع المغربي لم ينص على أي عقوبة بفعل الانتحار سواء فرديا أو جماعيا، مستدركا أنه لا يفلت من العقاب كل من قام بفعل المساعدة عن علم ومتى توفر القصد الجنائي في مباشرة الأعمال التحضيرية للانتحار".
وأوضح أنه "في غياب أي نص قانوني للعقاب على فعل الانتحار ومحاولته، فإن النيابة العامة تكون مطالبة بتحريك الفصل 407 عند كل عملية انتحار أو محاولة انتحار للبحث عما إذا كانت عناصر الفصل المذكور متوفرة".
ودعا السباعي إلى "تدخل المشرع المغربي لسد الفراغ القانوني في هذا الباب، وتحديدا أمام قاعدة أنه لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص، ولا عقاب على المحاولة إلا بنص".
وتشجب الأديان السماوية حوادث الانتحار وتعدها جريمة كبيرة، وفي القرآن الكريم، قال الله تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا”.