رغبة إسبانيا حل أزماتها مع المغرب.. هل تدفعها للتنازل عن سبتة ومليلية؟
أحدثت إسبانيا أزمة مع المغرب وصلت إلى حد استدعاء مدريد سفيرة الرباط كريمة بنيعيش، في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، عندما تحدث رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني عن إمكانية فتح ملف مدينتي سبتة ومليلية "في يوم ما".
لكن، في تقرير لها، 23 أغسطس/آب 2021، كشفت صحيفة "الإسبانيول" المقربة من دوائر القرار أنها تتجه نحو فتح حوار بدون قيود مع المغرب بشأن قضية الصحراء ووضعية المدينتين، و"إيجاد حلول ترضي الطرفين دون أي أزمات".
ما أسباب تغيير إسبانيا لموقفها، وهل يستثمر المغرب محاولة جارته حل الأزمة للمطالبة باسترجاع المدينتين؟
صعود وهبوط
يطالب المغرب باستعادة مدينتي سبتة ومليلية التابعتين للإدارة الإسبانية، حتى فتح التصريح الجديد أزمة إضافية.
ووفق ما أوردته وكالة الأنباء الإسبانية الرسمية، فإن "كاتبة الدولة المكلفة بالشؤون الخارجية في إسبانيا كريستينا غالاش، استدعت سفيرة المغرب، وأخبرتها أن الحكومة تتوقع من جميع شركائها احترام سيادة ووحدة أراضي إسبانيا".
وطالبت غالاش، سفيرة المغرب بتقديم توضيحات بخصوص تصريحات رئيس الحكومة، فيما لم يصدر موقف رسمي من الرباط بشأن استدعاء سفيرته.
مرت الأزمة بين الرباط ومدريد بمراحل صعود وهبوط وصلت حد سحب المغرب لسفيرته في مدريد.
وفي يونيو/حزيران 2021، نشرت صحيفة "لاكروا" الفرنسية تقريرا قالت فيه: إن "لهجة الدبلوماسية لم تعد هي سيدة الموقف بين كل من المغرب وإسبانيا، إذ أطلقت الرباط سهاما شديدة بشكل متزايد على مدريد".
وتشهد العلاقة بين الرباط ومدريد أزمة منذ 21 أبريل/نيسان 2021 على خلفية استضافة إسبانيا لزعيم البوليساريو، إبراهيم غالي، من أجل العلاج من فيروس كورونا بهوية مزيفة.
إضافة إلى تدفق حوالي 8 آلاف مهاجر غير نظامي بين 17 و20 مايو/أيار 2021، من المغرب إلى سبتة الخاضعة لإدارة إسبانية.
عقد المغرب مع هولندا اتفاقية جديدة في مجال التعاون الأمني، كما اتفق على تعزيز التعاون مع إيطاليا، في يوليو/تموز 2021.
وهو تقارب جاء في ظل الأزمة الدبلوماسية مع إسبانيا، ما جعل عددا من التحليلات تذهب إلى أن المغرب يبحث عن شريك بديل لمدريد.
وفي 10 يوليو/تموز 2021، أعلن رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، إدخال تعديلات على حكومته أطاح من خلالها بوزيرة الخارجية أرانشا غونزاليس لايا التي تعرضت لانتقادات واسعة على خلفية أزمة نشبت مع المغرب.
وسائل إعلام تعاطت مع التعديل الحكومي والإطاحة بوزيرة الخارجية، على أساس أنها خرجت من الحكومة بسبب سوء إدارة الأزمة مع المغرب.
وفي تقريرها الأخير، قالت "الإسبانيول" -وفق ترجمة موقع "الصحيفة" المغربي، أنه منذ تولي خوسي مانويل ألباريس منصب وزير الخارجية الإسبانية، "عرفت المواقف السياسية الإسبانية تجاه المغرب تغيرا راديكاليا مقارنة بأكثر من سنة ونصف من السياسة التي اتبعتها سالفته، أرانشا غونزاليز لايا".
اعتبرت الصحيفة توجه إسبانيا نحو فتح حوار حول سبتة ومليلية، "تحولا راديكاليا كبيرا جدا وغير مسبوق" في العلاقات بين البلدين.
إذ كانت رفضت إسبانيا سابقا أي نقاش مشددة على أنه "لا يحق للمغرب بالمطالبة بالمدينتين أو استرجاعهما"، فيما لم يعترف الأخير رسميا بسيادتها على سبتة ومليلية، معتبرا أنها مناطق مغربية محتلة من طرف إسبانيا.
ورأت الصحيفة أن "اتجاه الطرفين نحو نقاش هذه القضايا الشائكة، قد ينهي عقودا طويلة من التوجس والحذر الذي طبع العلاقات بين البلدين في العديد من المناسبات، وقد ينهي صدامات وأزمات من الجلي أن تظهر وتحدث مستقبلا، في ظل استمرار الخلاف الجوهري حول سبتة ومليلية".
حرصا على مصالحها
رغم التوتر الذي عاشه البلدان، والذي وصل في كثير من الأحيان إلى ذروته، أصرت مدريد على خطب ود الرباط، وحرص المسؤولون الإسبان على إطلاق تصريحات غازلت المملكة المغربية.
منذ عام 2018، بدأ المغرب من جانب واحد إغلاق الحدود، قبل فترة طويلة من أزمة كورونا، ما أدى إلى خنق المدينتين والسكان المغاربة على الجانب الآخر من الحدود، اقتصاديا.
وخلال الأزمة الصحية، انتهز المغرب الفرصة لإغلاق المعابر البرية، وخنق الخطوط البحرية، وتبعا لذلك، فقدت الجزيرة الخضراء (سبتة ومليلية) وزنها، وتراجعت فيها حركة المرور والأعمال التجارية، في حين أن الخطوط البحرية مع فرنسا وإيطاليا ظلت نشطة.
وتخضع مدينتا سبتة ومليلية للنفوذ الإسباني، رغم وجودهما أقصى الشمال المغربي.
وترفض الرباط الاعتراف بشرعية مدريد على المدينتين، وتعتبرهما جزءا لا يتجزأ من التراب المغربي، وطالبت إسبانيا بالدخول في مفاوضات مباشرة معها على أمل استرجاعهما.
في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بدأت السلطات الإسبانية تركيب سياج حدودي جديد يفصل مدينة سبتة عن المغرب، بميزانية تزيد عن 32 مليون يورو.
شاركت في الميزانية الصناديق الأوروبية بـ75 في المئة، من خلال صندوق الأمن الداخلي وصندوق اللجوء والهجرة والتكامل، بعد أن رأت إسبانيا أنها خطوة ضرورية للحد من الهجرة غير النظامية.
وصل 5121 مهاجرا إلى الأرخبيل بين مطلع يناير/كانون الثاني و15 سبتمبر/أيلول 2020، أي بزيادة قدرها 500 بالمئة خلال عام واحد، وفقا لوزارة الداخلية الإسبانية.
وتدفع الأرقام المهولة إسبانيا إلى إعطاء أهمية خاصة لدول المغرب العربي، عبر التعاون الاقتصادي والاتفاقيات الأمنية بإيعاز من الاتحاد الأوروبي، وتميل إلى توطيد العلاقات بحكم التداخل الحدودي.
فإسبانيا، شريطة قبولها كعضو جديد بالمجموعة الأوروبية سنة 1985، تعهدت بمراقبة الحدود الجنوبية للمجموعة الأوروبية.
ومنذ انضمامها الرسمي إلى اتفاقية شينغن سنة 1991، تحولت الحدود الإسبانية إلى حدود "منطقة شينغن" -باستثناء مدينتي سبتة ومليلية لوضعهما الاستثنائي- فقد التزمت إسبانيا بمراقبة هذه الحدود.
ويعتبر المغرب ثاني شريك تجاري لإسبانيا خارج الاتحاد الأوروبي، فيما تعتبر مدريد الشريك التجاري الأول للمملكة.
وتصدر أكثر من 20 ألف شركة إسبانية منتجاتها نحو المغرب، بينما تتمركز أكثر من 800 شركة بالمملكة وأكثر من 600 شركة لديها أسهم في شركات مسجلة في الرباط.
ومن المتوقع أن تتطور التبادلات التجارية بين البلدين من حوالي 12 مليار يورو حاليا إلى 24 مليار يورو في 2025، وفق الاتحاد العام لمقاولات المغرب.
وتخضع هذه المبادلات، لاتفاق الشراكة المبرم بين المغرب والاتحاد الأوروبي في مارس/ آذار عام 2000.
تحرص إسبانيا على علاقاتها الاقتصادية والإستراتيجية مع المغرب، لكن هل يدفعها التصعيد من طرفه على التنازل عن المدينتين؟
"بالونة اختبار"
شكر رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، في 21 أغسطس/آب 2021 ملك المغرب محمد السادس، على كلماته التي أعرب فيها نيته افتتاح مرحلة جديدة في العلاقات مع إسبانيا في خطابه بمناسبة ذكرى "ثورة الملك والشعب".
وقال سانشيز في حديث للصحفيين: إن "إسبانيا اعتبرت المغرب دائما حليفا إستراتيجيا، سواء لإسبانيا أو للاتحاد الأوروبي".
وقالت صحيفة "إلبايس" الإسبانية: إن ملك المغرب، أنهى بطريقة غير متوقعة أزمة الرباط ومدريد التي اندلعت في منتصف مايو/أيار 2021، وهي أكبر أزمة دبلوماسية تشهدها العلاقات بين البلدين.
اعتبر أستاذ العلوم السياسية، محمد شقير، أن ما كتبته الصحيفة يدخل في إطار إبداء حسن النوايا بعد التوتر المحتدم، موضحا أن الملك بدوره أعطى إشارات مطمئنة للطرف الإسباني.
رأى شقير في تصريح لصحيفة "الاستقلال"، أن الطرفين يحاولان تبادل الرسائل لتعامل جديد في إطار العلاقات الثنائية، ومن بين هذه الإشارات ما نشرته "الإسبانيول" عن استعداد إسبانيا لمناقشة كل القضايا بما فيها الصحراء و"المدينتين السليبتين".
لا يعني ذلك، بحسب شقير أن إسبانيا مستعدة للتخلي عن سبتة ومليلية، لكنها قد تكون "بالونة اختبار" للتوضيح للمغرب بأن مدريد مستعدة أن يكون الحوار مفتوحا على كل القضايا دون استثناء أي منها.
خبير العلاقات الدولية، أوضح أن السياسة المتبعة من طرف المغرب فيما يخص سبتة ومليلية، والتي تجلت في إغلاق معبر الأولى، أثرت بشكل كبير على الرواج التجاري الإسباني، إذ أغلق منفذا لسلع البلد الأوروبي.
وتابع المتحدث، أن المغرب عمل منذ عشر سنوات على محاصرة المدينتين، من خلال بناء ميناء المتوسط (في طنجة الحدودية مع سبتة) الذي يعتبر من أكبر الموانئ في المنطقة، بالإضافة إلى فتح ميناء الناظور (المدينة الحدودية مع مليلية)، معتبرا أن السلطات الإسبانية أخذت ذلك بعين الاعتبار.
عاد شقير ليشدد على أن إسبانيا لن تتخلى رغم كل هذا عن المدينتين بسهولة، وإنما يتعلق الأمر بحوار في إطار استئناف العلاقات.
يرى أستاذ العلوم السياسية، أن المغرب مارس الضغط على إسبانيا، في أعقاب استضافتها رئيس البوليساريو بإحدى مستشفياتها.
لكنه الآن يفهم الجانب الإسباني بأن طريقة التعامل قد تغيرت، وهو ما استقرأه المحلل من خلال الخطاب الملكي الأخير، الذي أوضح فيه أن التغيير لم يقتصر على سياسته فقط بل على البلد ككل.
وسرد شقير التغييرات الإستراتيجية التي حدثت في المنطقة، ومنها الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، والتحالف المغربي الإسرائيلي، وهو ما يوجب على إسبانيا -على حد تعبيره- أن تتفهم هذه المستجدات وتتعامل وفقها.
عرج المتحدث على كون إسبانيا الشريك الاقتصادي الأول، ما يجعلها تعمل على إعادة النظر في تعاملها مع المغرب وفق المبادئ التي حددها الأخير؛ والتي تتجلى في الثقة المتبادلة والندية وتبادل المصالح في إطار "رابح-رابح".