بعد "سيف القدس".. هكذا بات فلسطينيو 48 نصلا حادا على عنق الاحتلال
تتواصل الحملة الأمنية الإسرائيلية ضد فلسطينيي الداخل المحتل المشاركين في الهبة الشعبية التي اندلعت في العاشر من شهر مايو/أيار 2021 نصرة للقدس وقطاع غزة.
وتجاوز عدد المعتقلين في تلك الحملة الانتقامية 2000 شخص، كان آخرهم 7 شبان فلسطينيين من مدينة رهط في منطقة النقب المحتلة في العاشر من أغسطس/آب 2021.
ويسعى الاحتلال للانتقام من المشاركين في الهبة التي لم تغب أحداثها عن أذهان الفلسطينيين والتي كان أبرزها هروب عائلات يهودية من مدينة اللد المحتلة بعد الانتفاضة الشعبية التي خاضها فلسطينيو الداخل المحتل بعد الجرائم الإسرائيلية.
وما ميز هذه الهبة وجعلها شديدة الخطورة حسب وصف محللين إسرائيليين هو الطابع المسلح لها بجانب الاحتجاجات الشعبية.
إذ بدأت أحداث إطلاق النار تجاه تجمعات المستوطنين في 12 مايو/أيار بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة. وكانت أولى العمليات في حي حيشمونئيم في مدينة اللد الذي شهد إطلاق نار كثيف.
امتدت انتفاضة الداخل الفلسطيني من اللد إلى كافة المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 التي استوطن فيها اليهود إلى جانب المواطنين الفلسطينيين.
وهو ما دفع الاحتلال إلى استنفار جيشه الذي اقتحم اللد لاستعادتها بعد فقدان السيطرة عليها تماما في مشهد لم يحصل منذ النكبة عام 1948 الأمر الذي رأى فيه الفلسطينيون نبوءة لبداية زوال الاحتلال.
وذكرت هذه الأحداث فلسطينيي الداخل أنفسهم أن هذه البيوت التي بات يسكنها المستوطنون كانت يوما بيوتا فلسطينية وقد قتل وهجر أصحابها وأن هذه الأرض كلها لهم ومن يسكن بجوارهم ما هم إلا محتلون.
خطر وجودي
ما أن اشتعلت الأحداث في القدس وغزة وانعكست ببدء الهبة الشعبية في الداخل المحتل حتى بدأ المشهد داخل دولة الاحتلال بالتأزم وخصوصا في المدن المحتلة التي يوجد فيها المستوطنون اليهود والسكان العرب.
وكانت اللد إحدى أبرز المدن التي شهدت مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين، واستشهد خلال المواجهات مع المستوطنين شخصان في الداخل، أحدهما في مدينة اللد والآخر في أم الفحم.
وقتل مستوطنان أحدها في اللد وهو "إيغال يهوشوع"، والآخر في عكا وهو عالم الصواريخ الإسرائيلي "آفي هار إيفن" الذي توفي متأثرا بجراحه عندما أحرق شبان فلسطينيون فندق "الأفندي".
وفقدت شرطة الاحتلال الإسرائيلي السيطرة على الأوضاع في مدينة اللد التي تشكل نسبة الفلسطينيين فيها 30 بالمئة، ما اضطر حكومة الاحتلال لاستدعاء عدة كتائب من "حرس الحدود" للسيطرة على الأوضاع.
وكشف رئيس بلدية اللد التابعة للاحتلال الإسرائيلي "يائير رفيفو" في يوليو / تموز 2021 عن هروب 400 عائلة يهودية من المدينة خلال الأحداث العنيفة التي شهدتها بالتزامن مع التصعيد في القدس والعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في مايو/ أيار من نفس العام.
وقال "رفيفو": "400 عائلة تركت اللد خلال المواجهات التي شهدتها المدينة بين اليهود والفلسطينيين"، لافتا إلى أن هذه العائلات فضلت الهجرة إلى مناطق ذات أغلبية يهودية خشية على حياتها.
كما دعا حكومة الاحتلال إلى بسط سيادتها داخل المدن المحتلة سعيا لعدم تكرار السيناريو مستقبلا.
وبدوره قال الباحث في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي: إن إسرائيل تبدي حساسية خاصة إزاء انخراط فلسطينيي الداخل في مناشط المقاومة ضدها، خاصة أن هؤلاء يعيشون بشكل ملتحم مع الإسرائيليين في المدن المحتلة، كاللد والرملة وحيفا وعكا ويافا.
وأكد في حديثه لـ "الاستقلال" على أن أي عمل مقاوم أو انتفاضة فلسطينية في الداخل تشكل خطرا إستراتيجيا بسبب التحامهم باليهود، وكذلك لعمق معرفتهم بالتفاصيل المتعلقة بهذا الكيان ونقاط ضعفه.
فضلا عن إدراك سلطات الاحتلال أنهم يحوزون على كمية كبيرة من السلاح الذي عمل الاحتلال على نشره لإذكاء نار الاقتتال الداخلي والجريمة، ولكنه بات بالغ الخطورة على إسرائيل نفسها ولهذا السبب هربت العائلات اليهودية من اللد.
وأضاف "هبة فلسطينيي الداخل أثبتت الفشل الذريع لمحاولات أسرلة وصهينة الجيل الفلسطيني هناك رغم كل الطرق الممنهجة لنزع وطنيتهم من خلال المناهج والرواية الصهيونية والإعلام الموجه ومحاولة دمجهم وكي وعيهم وهو ما أثبت أن إسرائيل لم تنجح مطلقا بالتأثير على ذهنية ووطنية الفلسطينيين هناك".
وأكد النعامي أن الجانب الإسرائيلي بات ينظر للفلسطينيين في الداخل بعد هبة القدس بنظرة أمنية وأصبح التعامل معهم كمصدر خطر من الطراز الأول أكبر من الحرب الأخيرة (على غزة)".
وهذا ما ما جعل القوى اليمينية الصهيونية المتطرفة تطالب بتجريدهم من "المواطنة الإسرائيلية" والتوسع في عمليات الاعتقال بحقهم واستخدام القبضة الحديدية لمواجهتهم، وكذلك إخراجهم من دائرة التأثير السياسي والتضييق عليهم وجمع السلاح الموجود معهم.
محاولات الصهينة
كانت هبة اللد والداخل صادمة للسلطات الإسرائيلية بعد أن بذلت جهودا ضخمة لدمج فلسطينيي الداخل بالمجتمع الإسرائيلي شملت كافة الفئات العربية عبر سياسة الترهيب والترغيب التي شملت سياسات اقتصادية وإعلامية وحتى أمنية حسب ما يرويه ناشطون.
ومن جانبه قال الشاب عمر سالم من مدينة عكا في الداخل الفلسطيني المحتل: إن الشاب العربي منذ طفولته يتلقى التعليم الإسرائيلي بروايته الصهيونية حصرا ويدرس التاريخ اليهودي الذي يدعي أن هذه الأرض لليهود منذ آلاف السنين ويصف النكبة بحرب الاستقلال وهو ما يمثل تزييفا كاملا للحقائق.
وأضاف في حديثه لـ "الاستقلال": "في كل مرحلة تعليمية، حاول الاحتلال تهيئة الطفل العربي ذهنيا وتعليميا لبرمجته على أن يكون مواطنا إسرائيليا صهيوني الانتماء.
وبين أن ما يمر فيه من أنشطة مدرسية تهدف إلى زرع الرؤية الإسرائيلية فيه من خلال الألعاب والأغاني والرسومات وهي ضمن خطة نفسية مدروسة لصهينة نشء فلسطينيي الداخل.
وأكد أن الاحتلال يحاول كسب ولاء الشباب في الداخل من خلال إغرائهم بنموذج الحياة الرغيدة التي سيزيدها رخاء اندماجه في الكيان ومؤسساته وترقيه في العلاقات مع المحتلين اليهود.
وبذلك تجعل الشاب العربي أمام احتمال واحد فقط وهو إتقان اللغة العبرية التي تعد شرطا للتعليم والوظائف ولغة كافة المؤسسات؛ وفي المقابل تشن حربا على اللغة العربية حيث تم منعها في عدد من الجامعات في الداخل، كما "لن تتمكن أن تنجز معاملاتك بالعربية".
وحول مدى نجاح هذه السياسات، قال عمر: إنه قبل هبة القدس ظن كثيرون أنها نجحت إلى حد ما في دمج جزء من الفلسطينيين، ولكن ما أن حصلت الأحداث الأخيرة خلال شهر رمضان حتى انقلب الوضع تماما.
إذ توحد السواد الأعظم من الفلسطينيين حول خيار رفض هذه الاعتداءات "حتى من أشخاص كنت أظنهم قد تصهينوا بالفعل ولكن كان لهم وقفة وطنية جدية عرضتهم للاعتقال لاحقا".
وبدأ الأمر بشكل سلمي بالبداية ولكن مع دخول العدوان على غزة شكله الدموي بدأ استخدام السلاح والمواد الحارقة.
وأكد أن الهبة الأخيرة جعلت الفلسطينيين في الداخل وخصوصا من جيل الشباب والفتيان يبحثون بعمق حول تاريخ فلسطين بعد سنوات طويلة من التضليل والسياسات التعليمية الصهيونية التي أثبتت أنها لا تمثل سوى تخدير مؤقت للشارع الفلسطيني.
ومن جانبه قال المختص في الشأن الإسرائيلي حاتم أبو زايدة: إن ما حصل في اللد وفي عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة هو ذاته ما جرى في انتفاضة الأقصى عام 2000.
حينها شكلت حكومة الاحتلال لجنة تقصي تبحث أسباب مشاركة فلسطينيي الداخل وكيف من الممكن تحييدهم عن أي تحرك فلسطيني مستقبلي.
قمع ممنهج
وفعلا أصدرت اللجنة عددا من القرارات التي سعت لمنع أي مشاركة لفلسطينيي الداخل في القضية الفلسطينية.
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": عملت الحكومة الإسرائيلية بموجب قرارات اللجنة على تفتيت المجتمع الفلسطيني أو العربي في الداخل المحتل.
إذ تعمدت إشاعة نشر المخدرات بشكل كبير وسهلت توزيعها وتشجيع انتشار الجريمة المنظمة من خلال العصابات ونشر السلاح في الوسط العربي وإبعاد مراكز الشرطة عن المدن العربية.
وهو ما نجم عن تفشي جرائم القتل شبه اليومية وبمعدلات غير مسبوقة، كما جرى أيضا قتل قادة الحركة الإسلامية في الداخل كاغتيال محمد أبو نجم بمدينة يافا من إحدى العصابات "وكالعادة لم تقم الشرطة الإسرائيلية بأي تحر أو تحرك لوقف الجرائم".
وأكد أبو زايدة أن الحكومة الإسرائيلية لا تستطيع أن تطرد الفلسطينيين بشكل مباشر كما فعلت في النكبة والنكسة بسبب الوضع الدولي الراهن.
ولكنها استعاضت عن هذا التهجير المباشر بدفع الفلسطينيين للهجرة من خلال تدمير المجتمع العربي في الداخل المحتل وانعدام الأمن الشخصي للفرد بكل هذه الجرائم المنظمة والسرقات وفوضى السلاح.
وشدد على أن معركة سيف القدس أثبتت فشل إستراتيجية الاحتلال على مدار عقدين من الزمان حيث أثبت فلسطينيو الداخل أنهم قنبلة موقوتة وأن كل ما فعلته الحكومة الصهيونية من فوضى سلاح وعصابات دموية وجرائم قتل وإشاعة المخدرات لم تنجح بعزلهم عن هويتهم الفلسطينية.
اتخذت المؤسسة الأمنية إجراءات فورية عقب انتهاء الهبة تجاه فلسطينيي الداخل المحتل شملت الاعتقال والملاحقة وتوجيه التهم الأمنية وعودة القبضة الأمنية للمدن العربية.
وكشفت المؤسسات الفلسطينية المعنية بشؤون الأسرى في سجون الاحتلال خلال بيان مشترك مؤخرا أن سلطات الاحتلال اعتقلت خلال مايو/أيار 3100 فلسطيني، بينهم 42 من النساء و471 طفلا.
وكانت أعلى حالات الاعتقال في الأراضي المحتلة عام 1948، حيث بلغت نحو ألفي حالة اعتقال، من بينهم 291 طفلا.
من جانبه قال عبد الكريم الرميليات من مدينة رهط/ النقب بالداخل المحتل في حديث لـ "الاستقلال": إن سلطات الاحتلال بدأت حملة أمنية غير مسبوقة فور انتهاء معركة سيف القدس وهدوء الأوضاع الميدانية في القدس والضفة.
إذ بدأت باعتقال كافة الناشطين والشبان الذين شاركوا بالانتفاضة سواء بالمظاهرات أو الفعاليات الوطنية وكذلك حوادث إطلاق النار ووجهت لهم تهم تخريب الممتلكات العامة وخرق حظر التجول والإضرار بالأمن العام وغيرها من التهم ذات العقوبات الكبيرة.
ونوه عبد الكريم إلى أن أحداث بئر السبع والتي تم إطلاق النار فيها وإحراق المقرات الأمنية في يومي 15 و16 مايو/أيار غيرت الوضع القائم في الداخل.
وزاد الاحتقان بعد هذه الأحداث وتعملق الوجود الأمني وحتى اللحظة يتخذ المستوطنون اليهود إجراءات احترازية كحمل السلاح.