أزمة "الشرائح الإلكترونية".. هل تتسبب في حرب بين الصين وأميركا؟
يشهد العالم منذ عدة أشهر، أزمة إلكترونية كبرى متمثلة بصعوبة الحصول على الرقائق الإلكترونية، التي تعتبر مفتاح التشغيل والتحكم لأي جهاز.
أدت هذه الأزمة إلى تراجع إنتاج عمالقة الصناعة وكبريات الشركات العالمية، بالإضافة إلى رفع منسوب التوتر بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.
وأضحت هذه الشرائح ذات الحجم الدقيق والحساس، عنوانا بارزا في الصراع بين العملاقين الأميركي والصيني الذي اشتد عراه في السنوات القليلة الماضية.
فالحرب على شركات التكنولوجيا الصينية تمثل إحدى سمات المواجهة الأميركية الصينية منذ أن بدأت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في تصنيف عدد منها على أنها تهديد للأمن القومي الأميركي.
ويشبه التحكم في تصنيع الرقائق أو أشباه الموصلات خلال القرن الحالي التحكم في إمدادات النفط خلال القرن الماضي، إذ يمكن للدولة التي تتحكم في الصناعة أن تخنق القوة العسكرية والاقتصادية للدول الأخرى.
لذا كان من الطبيعي أن تصبح "تايوان" محط اهتمام الصين وأميركا بسبب سيطرتها على 70 بالمئة من الإنتاج العالمي لهذه الرقائق التي تعد محور الطموحات التكنولوجية التي تعتمد عليها القوتان العالميتان.
وبدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تتحرك لوضع أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل التالي، في قلب إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه آسيا، بهدف الوقوف في وجه الصين.
بكين بدورها زادت من نشاطها العسكري وحجم تحرشاتها بالجزيرة التايوانية التي لا تبعد عنها أكثر من 140 كلم ويفصل بينهما مضيق فورموزا.
فهل تدفع السيطرة على الشرائح الإلكترونية إنتاجا وتسويقا العالم نحو حرب عالمية ثالثة بدأ البعض التحذير منها؟ وماذا عن مكانة "تايوان" ودورها في هذه الحرب؟
أزمة الشرائح
في تقرير نشرته وكالة "بلومبيرغ"، في 20 أبريل/نيسان 2021، يرصد خبراء الأسباب الأساسية لأزمة الرقائق التي شهدها العالم بالإشارة الى وباء "فيروس كورونا".
بالإضافة إلى شراء شركة "هواوي" التكنولوجية الصينية كميات ضخمة من الرقائق بطرق سرية، وتخزينها ضمن إطار الحرب التجارية مع أميركا.
وهو ما ترك أثرا بالغا على كل شيء يحتوي على شريحة، كالسيارات، والهواتف الذكية، وأجهزة الألعاب، والأجهزة اللوحية، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة.
وأشارت "بلومبيرغ" إلى أن كميات بعض الطرازات من هاتف "آيفون 12" كانت محدودة بسبب نقص المكونات، كما عزت الصعوبات في الحصول على جهاز "بلاي ستايشين 5" من "سوني" وجهاز "إكس بوكس" الأخير من "مايكروسوفت" إلى النقص في بعض الرقائق.
وقد بدا واضحا تأثير نقص الرقائق على صناعة السيارات العالمية، حيث أعلنت الشركات تباعا تعديلات في سلاسل إنتاجها.
ففي 19 مارس/ آذار 2021، أوردت وكالة الأنباء الفرنسية أن "نيسان" اليابانية ستعلق جزءا من إنتاجها في أميركا الشمالية لأيام بسبب النقص المستمر في أشباه الموصلات، وفق ما قال ناطق باسم المجموعة.
كما ستوقف المجموعة المتحالفة مع شركة "رينو" الفرنسية أيضا الإنتاج في أحد مصانعها في المكسيك لعدة أيام.
وجاء ذلك بعدما أعلنت "هوندا" و"تويوتا" أيضا توقف الإنتاج أسبوعا في العديد من مصانعهما في أميركا الشمالية بسبب مشكلات متعددة في توريد قطع الغيار.
وبسبب النقص العالمي في أشباه الموصلات، خفضت كل من "هوندا" و"نيسان"، في فبراير/ شباط، توقعات مبيعاتهما للسنة المالية 2020/2021.
وفي 9 فبراير/ شباط 2021، نقلت "رويترز" عن عملاق صناعة السيارات الألماني "فولكسفاغن" توقعه أن يستمر شح إمدادات الرقائق الإلكترونية في النصف الأول من2021، لكنه سيفعل كل ما بوسعه للتعويض عن تأخيرات الإنتاج في النصف الثاني من العام.
وقالت "رويترز" إن ثاني وثالث أكبر شركتين مصنعتين للسيارات في اليابان: "هوندا موتور" و"نيسان موتور"، ستبيعان عددا أقل من السيارات بواقع 250 ألفا في السنة المالية الحالية للشركتين، إذ يلحق النقص العالمي في رقائق أشباه الموصلات الضرر بالإنتاج.
كما قالت "جنرال موتورز" الأميركية إن نقص رقائق أشباه الموصلات العالمي قد يقلص أرباح 2021 بما يصل إلى ملياري دولار، ومددت خفضا للإنتاج في ثلاثة مصانع بأميركا الشمالية.
وفي 4 فبراير/ شباط، أعلنت "فورد موتور" أنها ستقلص مؤقتا نوبات العمل في مصنعين لتجميع شاحنتها الرئيسة "إف-150" ابتداء من الأسبوع القادم، وسط نقص في أشباه الموصلات يعاني بسببه عدد متزايد من صناع السيارات.
وقالت إنها "تعمل عن كثب مع الموردين لمعالجة قيود الإنتاج المحتملة الناجمة عن النقص العالمي في أشباه الموصلات، وتعكف على إعطاء الأولوية لخطوط إنتاج السيارات الرئيسة.
وفي اليوم ذاته، قالت "مازدا موتور" إنها تتوقع أن يتقلص إنتاجها 7 آلاف سيارة هذا الشهر بسبب نقص الرقائق. والسيارة الواحدة في المتوسط تحتوي على ما بين 50 إلى 150 من هذه الرقائق.
شركات التصنيع
تسيطر بضع شركات كبرى مثل "TSMC" التايوانية، و"SAMSUNG" الكورية، و"INTEL" الأميركية على إنتاج هذه الشرائح.
وعلى الرغم من وجود بعض المصنعين الصغار للشرائح الإلكترونية، فإنهم ليسوا قادرين على صنع المعالجات الأدق والأحدث والأفضل أداء.
وتعتبر شركة "تايوان" لصناعة أشباه الموصلات المحدودة الأكبر من نوعها في العالم، حيث توجد الرقائق التي تصنعها الشركة في كل شيء تقريبا: الهواتف الذكية، منصات الحوسبة عالية الأداء، أجهزة الكمبيوتر، السيارات.
وكذلك جميع نظم التسليح تقريبا التي تم بناؤها في القرن الواحد والعشرين، حيث صنعت شركة تايوان حوالي 60 بالمئة من الرقائق التي استخدمتها الشركات الأميركية في العام 2020.
وكانت شركة " TSMC" قد أعلنت أنها ستبني مشغلا بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا في أميركا لصناعة بعض رقائقها الأكثر تقدما.
وقال الكاتب روشير شارما في تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، نقله موقع الجزيرة في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، إن تايوان "احتلت الصدارة في السباق لصنع الشرائح أو أشباه الموصلات الأقل سمكا والأسرع والأقوى".
وأضاف: "تشكل رقائقها أسس الصناعات الرقمية سريعة التطور مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة عالية السرعة، بينما ستعمل الرقائق الأقل سمكا على تشغيل "إنترنت الأشياء".
ويتعين على أي دولة تتطلع إلى الهيمنة على المستقبل الرقمي شراء هذه الرقائق فائقة السرعة وفائقة النحافة من تايوان أو كوريا الجنوبية.
وتايوان لديها الأفضلية على مستوى التكنولوجيا وقوة السوق، ورغم أنها جزيرة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 24 مليون نسمة، فإنها في قلب المعركة من أجل التفوق التكنولوجي العالمي.
ومع تصاعد الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة، ستستمر هذه الأهمية في الازدياد.
من جهة ثانية ليس هناك مجال للشك، بأن صناعة الإلكترونيات في الصين قد قطعت شوطا كبيرا مع مرور الزمن.
فقد انتقلت البلاد من الشهرة بالأجهزة الإلكترونية المقلدة ذات الجودة السيئة في مطلع الألفية، لتصبح موطن بعض من أكبر شركات الهواتف الذكية اليوم، وحتى الآن تهيمن الشركات الصينية على مختلف تصنيفات المصنعين التقنيين.
وبالطبع فقد كان جزء من هذا التطور مرتبطا بالشرائح الإلكترونية، حيث تصدر الصين ما قيمته 100 مليار دولار منها تقريبا.
لكن ومع أن الصين تصدر عددا كبيرا من الشرائح الإلكترونية، فهي بعيدة جدا عن الاكتفاء الذاتي.
إذ إن الشرائح المصنعة في الصين عادة ما تكون من الفئات الدنيا الأبسط وذات مستويات الأداء الأدنى، وحتى الآن تستورد بكين شرائح إلكترونية أكثر بثلاثة أضعاف مما تصدره، مما يعني أنها لا تغطي حاجتها الداخلية.
وهذا ما أكدته أنجاني تريفيدي في مقالة لها في الشرق الأوسط 9 مارس/آذار 2021، بقولها "الحقيقة الصارخة هي أنه عندما يتعلق الأمر بآلات صناعة الرقائق، فإن الصين لا تستطيع أن تنتج ما يحتاجه العالم. فلا يزال الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات منخفضا".
وهو ما ذهب إليه الخبير في الاتصالات المهندس ربيع الساكت، في حديث لـ"الاستقلال" بالقول: "الصين لا يمكنها أن تصل إلى الاكتفاء من الشرائح الرقمية، واشنطن سبقتها بكثير وهي تسيطر على العالم عبر ذلك".
ويشير الساكت إلى أن سعي الصين إلى تحسين إنتاجها الشرائحي مرهون بمدى قدرتها على كشف التقنيات الدقيقة التي يتم تصنيع الرقائق من خلالها في تايوان وكوريا الشمالية".
ويضيف: "إذا لم تفعل ذلك فإن إنتاجها سيبقى دون المستوى".
وتنقل تريفيدي عن شركة «إتش إس بي سي» اعتبارها أن آلات تصنيع الرقائق في الصين هي في الواقع دون المستوى المطلوب، مقارنة بالشركات الرائدة في أماكن أخرى.
كما أنها أكثر تكلفة في الخدمة وليست دقيقة. وبصرف النظر عما يتم دفعه مقابل المعدات، فإن سعر اقتنائها يتزايد بمرور الوقت.
واعتبرت ترفيدي أنه "إذا أحرزت الصين تقدما كبيرا في تصميم الرقائق وحققت طموحاتها التكنولوجية، فلن تتمكن من صنع هذه الرقائق للاستخدام المحلي -أو للتصدير- بدون الآلات اللازمة لتصنيعها".
فعدم قدرتها على صنع هذه المعدات والسيطرة الخانقة على الآلات من قبل اللاعبين الأجانب يعني أن البلاد ستظل معتمدة على سلسلة التوريد العالمية لفترة من الوقت.
حرب عالمية؟
كل هذه التطورات أعادت تسليط الأضواء على الأزمة الصينية التايوانية، والتي تعود جذورها إلى أيام الحرب الأهلية الصينية، وما نجم عنها من تسيد الشيوعيين الحكم في الصين، وتجمع القوميين في جزيرة تايوان وإعلان جمهورية تتمتع بحكم ذاتي.
ويقول الباحث في العلاقات الدولية الدكتور طارق المبيض لـ"الاستقلال": "لم تتخل الصين قط عن مطالبتها بتايوان، التي تنظر إليها على أنها إقليم متمرد، مما يجعل احتمالات اندلاع حرب تخيم على المنطقة بشكل دائم".
ويضيف:" تايوان جزيرة إستراتيجية تاريخيا للصين، وأغلب الضربات العسكرية التي تلقتها كانت عبر هذه الجزيرة".
ويرى المبيض أن بكين ستدفع بقوتها نحو السيطرة على تايوان لسببين: "الأول هو عدم السماح لواشنطن بمحاصرة بكين عبر تايوان بعد انسحابها من أفغانستان، والثاني السعي للحصول على الكمية الأكبر من الشرائح الإلكترونية لتطوير الاقتصاد الصيني".
وفي شهر مارس/آذار 2021، قالت الحكومة التايوانية إن الحرب التجارية بين الصين وأميركا، دفعت بكين إلى تكثيف جهودها لسرقة التكنولوجيا والمواهب من تايوان لتعزيز الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق الإلكترونية.
كما أعلنت وزيرة الاقتصاد التايوانية أن الحرب التجارية بين العملاقين أوجدت مخاطر جديدة، حيث أشارت إلى قيام الصين باصطياد المواهب، والتسلل إلى المصانع التايوانية.
وأضافت أن عمال الرقائق التايوانيين يتمتعون بخبرة عميقة ويتحدثون نفس اللغة مما يعني بأنهم هدف طبيعي للصين.
وقالت وكالة سبوتنيك الروسية في أبريل/نيسان 2021، إن الصين دفعت بالمزيد من مقاتلاتها إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية، في تصعيد جديد لاستعراض القوة حول الجزيرة، فيما قال وزير خارجية تايوان أن بلاده ستحارب حتى النهاية إذا هاجمتها بكين.
واشتكت تايوان من الأنشطة العسكرية المتزايدة لبكين في الأشهر القليلة الماضية، حيث تتوغل القوات الجوية الصينية يوميا في الأجواء التايوانية.
من جهة ثانية يستبعد أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور غسان خالد في حديث لـ"الاستقلال"، وقوع الحرب بين الصين والولايات المتحدة الأميركية وما يعنيه ذلك من حرب عالمية ثالثة.
ويقول: "مفهوم الحرب تغير مع تبدل الأولويات والأدوات والوسائل، وحرب النفوذ الذي نعيشه اليوم بين بكين وواشنطن، لن يدفع الأولى إلى بدء حرب عسكرية تحت عنوان استرداد تايوان".
ويشير خالد إلى أن مواقف الدول الكبرى المؤثرة ليست مع الحرب، مضيفا: "ربما قد نشهد حربا تجارية، وأخرى سيبرانية، وأزمات دبلوماسية، لكن الاقتصاد العالمي المنهك يدفعنا إلى استبعاد فرضية الحرب العسكرية بين الطرفين".
ويستدرك خالد قائلا: "اليوم الظروف غير مؤاتية لحرب عالمية جديدة، لكن مع تطور الأحداث لا يمكن لأحد أن يضمن أن لا تغزو الصين تايوان ونقع أمام كارثة عالمية جديدة".
ويرى أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية "جيمس ستافريديس"، أن الأولوية القصوى لدى الجيش الصيني هي ضمان قدرته على التحكم وبسط السيطرة في البحر، مع إظهار القوة البحرية الواضحة حول تايوان.
ويضيف جيمس في مقالة له نشرتها صحيفة الشرق الأوسط السعودية 3 مايو/أيار 2021 أن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" والقيادة الصينية تعهدوا بإعادة المقاطعة "المنشقة" إلى أحضان الوطن الأم.
وعلى الرغم من أنهم يحاولون تحقيق ذلك باتباع سياسة التأني والصبر الطويل، فإنهم سيكونون على أهبة الاستعداد للجوء إلى القوة العسكرية إذا لزم الأمر في وقت ما.
ويدعم الأميرال السابق رأيه بشهادة للأميرال "فيل ديفيدسون" رئيس قيادة المحيطين الهندي والهادئ في وزارة الدفاع الأميركية، قدمها حديثا أمام "الكونغرس"، بأنه يقدر لجوء القيادة الصينية إلى العمل العسكري لاستعادة تايوان في غضون ستة أعوام من الآن.
المصادر
- أزمة الرقائق الإلكترونية وصناعة السيارات
- " طبول الحرب تدق حول تايوان... وتايبيه تقول إنها "ستقاتل ضد الصين حتى النهاية"
- سيناريوهات المواجهة البحرية بين أميركا والصين
- تايوان: الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تدفع بكين لسرقة التكنولوجيا والمواهب
- الصين أمام تحدي الرقائق الإلكترونية
- أزمة نقص الرقائق تؤرّق الدول الصناعية الكبرى فماذا تعرف عنها؟
- بلومبيرغ: أزمة في صناعة السيارات تفقدها ثلث إنتاجها بسبب نقص الرقائق
- بسبب رقائق الحاسوب.. تايوان ساحة جديدة للحرب بين الصين والولايات المتحدة
- الشركة التي تصنع معظم معالجات العالم تعرف على شركة TSMC