تسريبات ظريف ضد سليماني.. صراع أجنحة أم تغيير في سياسات إيران؟
مع تسلم جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة، تغيرت سياسية واشنطن إلى حد ما في التعامل مع إيران، إذ لم تعد سياسة "الضغط الأقصى" التي اتبعها سلفه دونالد ترامب موجودة، إضافة إلى إبداء مرونة تجاه أموالها المجمدة، واستعدادها للعودة إلى الاتفاق النووي.
في المقابل، فإن إيران رغم إصرارها على عدم التنازل عما اتفقت عليه في الملف النووي قبل انسحاب ترامب منه عام 2018، فهي تحاول تغيير نظرة إدارة بايدن للبدء بمرحلة جديدة من المحادثات تنهي عزلتها في المنطقة، والضغوط الداخلية التي تعيشها حاليا.
تسريبات ظريف
لعل واحدة من أبرز محاولات إيران هذه- كما فسرها بعض المراقبين- هي تسريب تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في 26 أبريل/ نيسان 2021، والتي انتقد فيها دور قائد فيلق القدس الإيراني السابق، قاسم سليماني، وحجم هيمنته على عمل الوزارة.
وقال جواد ظريف في تسريبات هي مقتطفات من مقابلة مدتها أكثر من ثلاث ساعات، أجراها مع الاقتصادي الإيراني المعروف سعيد ليلاز، في مارس/آذار 2021، إن "سليماني ضحى بالدبلوماسية من أجل العمليات الميدانية للحرس الثوري"، واصفا إستراتيجية النظام الإيراني بـ"الحرب الباردة".
وقال في جزء آخر من المقابلة: "في كل مرة تقريبا أذهب فيها للتفاوض، كان سليماني هو الذي يقول إنني أريدك أن تأخذ هذه الصفة أو النقطة بعين الاعتبار. كنت أتفاوض من أجل نجاح ساحة المعركة".
وعلى صعيد التدخل العسكري في قرارات الحكومة، قال ظريف: "يحدث هذا عندما يكون الوسط العسكري هو الذي يقرر. يحدث ذلك عندما يريد الميدان الهيمنة على إستراتيجية البلاد، وبإمكانهم اللعب معنا".
وبشأن الاختلاف بين الجيش والدبلوماسية في إيران وضرورة ترك الأمور للدبلوماسيين، قال ظريف: "لقد كانت ساحة المعركة هي الأولوية بالنسبة للنظام". وتابع: "أنفقنا الكثير من المال، بعد الاتفاق النووي، حتى نتمكن من المضي قدما في عملياتنا الميدانية".
وأشار ظريف إلى زيارة سليماني لموسكو بعد وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق النووي، عام 2015، وأنها تمت بإرادة روسية ودون سيطرة من وزارته، وكانت تهدف إلى "تدمير إنجاز وزارة الخارجية" الإيرانية في إنجاح المفاوضات.
من جهتها، أكدت مصادر من المعارضة الإيرانية لـ"بي بي سي" في 26 أبريل/ نيسان 2021 أن "ظريف أعطى ليلاز موافقة على نشر أجزاء منها مع رحيل الحكومة الحالية ونهاية الفترة الرئاسية لحسن روحاني".
وذكر المعارض الإيراني المقيم في لندن علي نوري زاده، أن أهمية هذه التسريبات هو كشفها عدم وجود مركز واحد في مؤسسة الحكم الإيراني، وأن المرشد الأعلى علي خامنئي ليس الحاكم المطلق.
وقال المعارض الإيراني لـ"بي بي سي": يمكنك أن تتحدث عن "ملوك طوائف" داخل النظام، هناك قادة في الأمن والمخابرات والحرس الثوري لكن بالأساس، العسكريون هم من يحكمون"، مؤكدا أن "ولاء ظريف للنظام وليس خروجه عليه. وأنه ليس رجلا انقلابيا، ولم يطعن في عقيدة ولاية الفقيه مثلا، فهو ابن لنظام الثورة الإسلامية".
وأشار زاده إلى أن توقيت التسريب ربما يكون رسالة إلى إدارة بايدن في ظل محادثات إحياء البرنامج النووي، بأن عليها أن تغتنم فرصة وجوده في إدارة روحاني لإنجاز اتفاق خوفا من تغيير وشيك في طهران.
مناورة إيرانية
وعلى نحو مماثل، رجح الباحث في الشأن السياسي العراقي عدنان الناصري خلال حديث لـ"الاستقلال" أن "تكون تسريبات ظريف متفقا عليها داخل القيادة الإيرانية، وهي جزء من عملية التقرب إلى الولايات المتحدة، مع وجود طرف غير راض عنها كونها تضرب الحرس الثوري دون شك".
وتوقع الناصري أن "التحول الذي سيكون في إيران مهم، فالاحتمال القوي أن يرشح محمد جواد ظريف في الانتخابات المقبلة ويفوز، وهو ما سيعزز الخط الذي تقبل به أميركا، عكس رئيس البرلمان الإيراني الحالي محمد باقر قاليباف، الذي ينتمي إلى تيار المحافظين المعروف بتشدده".
وربط الناصري بين التسريب وزيارة ظريف التي تبعتها إلى العراق في 26 أبريل/ نيسان 2021، ولقائه بأطراف سياسية شيعية، وأخرى سنية ليس لها مناصب مرتبطة بالدولة العراقية، مؤكدا أن ذلك كله سيعيد تشكيل المشهد بخصوص علاقة الولايات المتحدة بإيران.
ويتفق مع هذا الطرح إلى حد ما، عضو النائب في البرلمان العراقي، ظافر العاني، إذ قال خلال سلسلة تغريدات على "تويتر" في 30 أبريل/ نيسان 2021، إن "من شروط السلام الإقليمي القادم أن تكون إيران ودية بلا مخالب مليشياوية في المنطقة، وأن تنسحب عن العراق خطوة إلى الوراء".
وأضاف: "سيكون على طهران السماح بنشوء دولة عراقية وطنية وإلغاء كل ما يضعف مؤسساتها الرسمية، وأن إيران الثورة المرفوضة ستتوارى وتتقدم إيران الدولة المقبولة محليا ودوليا. لن يكون هنالك سليماني آخر وأمراء الحرب في العراق ولبنان واليمن سيتقاعدون".
ورأى العاني أن "البرنامج النووي والصاروخي لن يستأنف إلا في حدود سلمية ولأغراض علمية، وأن التعهدات الإيرانية ستكون تحت الاختبار مدة كافية من الزمن لاختبار نواياها فالتجارب السابقة معها لا توحي بالثقة. بالمقابل رفع شامل للحصار والعقوبات وإعادة اندماجها في المجتمع الدولي واعتراف لها بدور إقليمي رئيس، ولكنه مسالم".
رؤيتي ..
— ظافر العاني (@DhaferAlani) April 30, 2021
من شروط السلام الاقليمي القادم أن تكون إيران ودية بلا مخالب مليشاوية في المنطقة وأن تنسحب عن العراق خطوة الى الوراء .
سيكون على ايران السماح بنشوء دولة عراقية وطنية والغاء كل مايضعف مؤسساتها الرسمية . ( يتبع )
لكن يرى بعض المحللين أن تسريب الشريط سيضعف من سلطة إيران الدبلوماسية في المفاوضات النووية.
وقالت سينا أزودي، الزميلة غير المقيمة في المجلس الأطلنطي في تعليق لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في 26 أبريل/ نيسان 2021: "هذا سيقيد يد المفاوضين" و"يقدم ظريفا على أنه شخص لا يمكن الثقة به، ويعطي صورة عن أن سياسة خارجية إيران يمليها مسرح سياسي والجيش وأن ظريفا لا شيء".
واعترف ظريف خلال التسريبات بأنه عندما يتعلق الأمر بالمحادثات النووية فهو ليس ملتزما بتوجيهات المرشد علي خامنئي فقط، بل وبمطالب الحرس الثوري.
وبين أن "المرشد وبخه قبل فترة لتصريحاته التي خرجت عن الخط الرسمي، وقال فيها إن إيران مستعدة للعمل مع الولايات المتحدة وتصميم خطوات للعودة إلى الاتفاقية النووية".
تنافس الرئاسة
وفي سياق آخر، فإن توقيت التسريب لا ينفصل عن الخلاف الناشب في إيران حول مسألتين حيويتين هما: مفاوضات البرنامج النووي، وانتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو/ حزيران 2021.
وتتعرض المفاوضات النووية التي تجري في فيينا بشكل غير مباشر منذ بداية إبريل/ نيسان 2021، بهدف إعادة الولايات المتحدة لاتفاق 2015 ورفع العقوبات عن إيران، لضغوط أيضا من جناح المحافظين.
ورأى مدير المركز العربي للدراسات الإيرانية في طهران الباحث محمد صالح صدقيان، أن "من يقف وراء التسريب هو جهة تريد إلحاق الضرر بأي نجاح قد يحققه ظريف وفريق المفاوضات النووية، وبفرص ظريف في الترشح والفوز في الانتخابات الرئاسية".
وأشار صدقيان خلال تصريحات صحفية في 26 أبريل/ نيسان 2021 إلى أن ظريفا لديه فرصه "كبيرة جدا" كمرشح عن التيار الإصلاحي في ظل ما يصفه بالفوضى التي يتعرض لها الجناح الأصولي أو المحافظ.
ووفقا لتقديره، فإن جهات كثيرة، يمكنها أن تضيق الخناق على ترشح ظريف ليس من بينها المرشد الأعلى، وأن مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الشورى، تقع كلها تحت سيطرة المحافظين، لافتا إلى أن "مرشحا محافظا قويا مثل رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي يمكن أن يمثل تهديدا لترشح ظريف وفوزه".
وعلى الوتيرة ذاتها، قال معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، خلال تقرير له في الثاني من مايو/ أيار 2021 إن الكثير من التكهنات ظهرت قبل مقابلة صوتية جرى تسريبها مؤخرا مع ظريف، من بينها واقع ظهوره قبل وقت قصير جدا من انتخابات الرئاسة الإيرانية المرتقبة على الرغم من أنها أجريت قبل أشهر وفقا لبعض التقارير.
وأشار الزميل في المعهد، مهدي خلجي، إلى أن أحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أنه لم يجر تسريب الشريط من معارضي ظريف، بل من قبل زملائه المسؤولين في دائرة الرئيس حسن روحاني، الذين كانوا يبحثون عن فرصة للتفاوض مع الولايات المتحدة.
ولفت إلى أن المقابلة المسربة تحمل تحذيرات عدة، حيث "أوضح ظريف أن النزعة العسكرية المخفية وراء المظهر المدني للحكومة ستصبح أقوى بكثير بعد الانتخابات المقبلة، وربما يبدأ ذلك مع فوز مرشح تابع للحرس الثوري".
وبين أن تسريب ظريف دحض فرضية وجود سيادة مزدوجة في إيران، الأولى مؤسسات ديمقراطية يدعمها القطاع الخاص والطبقة الوسطى، وأخرى أيديولوجية يوجهها المرشد الأعلى.
وأضاف: "أصبح ظريف الآن أرفع مسؤول يدحض هذه الفرضية ويقر بعدم وجود سيادة مزدوجة في إيران فعليا. وبدلا من ذلك، يقوم النظام على السيادة الوحيدة لخامنئي، الذي هو ليس المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية فحسب، بل القائد العام للقوات المسلحة".
وتابع خلجي: "بالنظر إلى عدد المرات التي تذكر فيها المقابلة أن سليماني يفرض إرادته على فريق السياسة الخارجية الذي يترأسه روحاني، تبدو شكاوى ظريف بمثابة تحذير بشأن المستقبل بقدر ما هي سرد للماضي".
ووفقا له، فإن فيلق القدس هو أكثر من مجرد جناح إقليمي رئيس للحرس الثوري الإيراني، فهو يتمتع أيضا بأقوى كلمة في السياسة الخارجية بشكل عام والسياسة النووية بشكل خاص، بل إنه قام باستعراض عضلاته في الساحة السياسية في بعض الأحيان.
وأشار إلى أن الإشارات المتكررة لروسيا في التسريب بمثابة تحذير بشأن دورها المحتمل في الانتخابات الداخلية الإيرانية، وأن موسكو ربما ترغب في وصول رجل عسكري مقرب من المرشد الأعلى إلى السلطة في الانتخابات المقبلة. وقد تصبح هذه الحادثة بداية النهاية للصراع على السلطة بين السياسيين المدنيين والقوات العسكرية في إيران.
وهاجم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، في الثاني من مايو/ أيار 2021 وزير الخارجية بعد انتشار تسريب للأخير، وقال في خطاب بذكرى اليوم العالمي للعمال ويوم المعلم: "قال بعض المسؤولين أشياء مؤسفة، وسائل الإعلام المعادية تنشر هذه الكلمات. وبعض هذا هو تكرار للكلمات الأميركية".
وبحسب خامنئي، فإن "الأميركيين غير راضين للغاية عن نفوذ إيران في المنطقة، ولذلك كانوا مستائين من قاسم سليماني".
وأكمل: "لقد هدد الأعداء قاسم سليماني بالقتل، فكان رده أن العدو يهدده بما يريد"، مؤكدا أن "فيلق القدس هو أكبر قوة فاعلة ومؤثرة للحيلولة دون الدبلوماسية السلبية في منطقة غرب آسيا".
بدوره، طلب وزير الخارجية محمد جواد ظريف في منشور على حسابه بموقع "إنستغرام" في ذات اليوم "المسامحة" من عائلة قاسم سليماني، بعدما "جرح مشاعرها" تسريب تسجيل صوتي له يتحدث فيه عن دور الجنرال السابق في الحرس الثوري في السياسة الخارجية.
وأيضا نشر ظريف بيانا بعد خطاب خامنئي، اعتذر فيها للمرشد الأعلى للثورة، قائلا إن "موضوع السياسة الخارجية يجب أن يكون للتلاحم والتماسك"، مؤكدا على قول خامنئي أن "إدارتها يجب أن تكون من القيادة العليا وليس من الوزارة".