الشيرازيون وحزب الله.. جذور الخلاف ومستقبل العلاقات
المحتويات
مقدمة
1 – التعريف بالتيار الشيرازي
2 – شعبوية الخطاب الشيرازي
3 – الشيرازيون في لبنان
4 – الاستقطاب الشيرازي لشيعة لبنان
5 – علنية الهجوم على الشيرازيين
6 – أسس الخلاف بين حزب الله والشيرازيين
-
الخلاف العقائدي
-
الخلاف السياسي
-
الخلاف الحركي
7 – المآخذ الشيرازية على حزب الله
8 – تأثر أنصار حزب الله بالفكر الشيرازي
9 – استشعار الخطر وتبادل الهجوم
10 – حتمية الصدام
خاتمة
مقدمة
كان من الغريب الهجوم على إحدى الحسينيات التي تعود لأتباع التيار الشيرازي بمحافظة البقاع ذات الأغلبية الشيعية شرقي لبنان، على يد "شباب من المنطقة" بدعوى "مخالفتها تعاليم أهل البيت"، ثم إشعال النار في بعض الرايات التي رفعها أتباع التيار بمناسبة ذكرى عاشوراء، في أغسطس/آب 2021 .
لكن عند النظر إلى تصريحات زعيم "حزب الله" الشيعي اللبناني حسن نصر الله، يظهر أن مثل تلك الحادثة وغيرها، جاءت كترجمة لتصريحاته وتوجهات الحزب، والشحن المستمر تجاه أتباع التيار الشيرازي.
وكانت أبرز تصريحات نصر الله، التي تعد مرجعا أساسيا لرأي حزب الله وموقفه من التيار، ما قاله في أكتوبر/تشرين الأول 2016، حين هاجم الشيرازيين بغضب شديد.
وصب نصر الله، حينها، جام غضبه على التيار الشيرازي، وإن لم يُسمه، وانتقد تصرفات أنصاره ومعتقداتهم، وهاجم مبالغتهم في الطقوس العاشورائية، مدعيا أنها تسيء إلى المذهب الشيعي.
ورغم ذلك، فممارسات الشيرازيين قديمة ومنتشرة في أوساط الشيعة، وتجتذب العوام والبسطاء منهم، فما الذي جد ليثير قلق أتباع نصر الله؟ وهل الأمر مجرد خلاف على ممارسات مذهبية؟
أم أن زعيم حزب الله صار يستشعر الخطر من تمدد هذا التيار الذي ينشط في استقطاب شيعة لبنان، ويمكن أن يُهدد سيطرة الحزب على الطائفة الشيعية؟
1 – التعريف بالتيار الشيرازي
الشيرازيون تيار شيعي إثنا عشري كبير، ينسب إلى "محمد الحسيني الشيرازي" (1928-2001)، الذي ورث المرجعية من بعده أخوه الأصغر، وهو المرجع الحالي، "صادق الحسيني الشيرازي".
نشأ التيار الشيرازي - الذي يعد من أنشط التيارات الشيعية - في كربلاء بالعراق، في ستينيات القرن الماضي، وكان يُعرَف باسم "حركة الرساليين"، و"حركة المرجعية".
ثم انتشر بعد ذلك في العديد من الدول العربية والإسلامية، كسوريا ولبنان والكويت والسعودية والبحرين وباكستان وأفغانستان، وغيرها من الدول، ولكن لا تعرف أعداد المقلدين للمرجعية الشيرازية بشكل دقيق.
وكان الظهور الكبير للشيرازيين بعد انتصار الثورة في إيران عام 1979، بعد أن انتقل محمد الشيرازي إلى طهران ليكون إلى جانب المرشد الأعلى السابق "روح الله الخميني" الذي كانت تربطه به علاقة جيدة منذ أن استقبله في العراق في الستينيات، وساعده في إنجاح الثورة.
وتمدد التيار الشيرازي وانتشر على المستوى الشعبي وفي الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات السياسية، وأشرف أنصاره على القسم العربي في إذاعة طهران.
ولكن سرعان ما دب الخلاف بين الخميني والشيرازي الذي رأى أن الأول يستأثر لنفسه بالسلطة، وذلك بعد أن نصب نفسه وليا فقيها لكل الشيعة، وهو ما يتعارض مع قناعة الشيرازي بأنه مرجعية مستقلة ولا تقل في أهميتها عن مرجعية الخميني.
وبعد وفاة محمد الشيرازي، ظهر الخلاف بين النظام الإيراني والشيرازيين إلى العلن، حتى إن الأول يصفهم الآن بأنهم "شيعة لندن" أو تيار "التشيع البريطاني"، في اتهام صريح لهم بالعمالة لبريطانيا التي تعتبر أهم مقراتهم، وتنطلق منها قنواتهم الفضائية، وتحتضن أنشطتهم الدعوية المختلفة.
يَعتمِد الشيرازيون في تمويل أنشطتهم على أموال "الخمس" التي يدفعها المقلدون للمرجعية الشيعية، بالإضافة إلى الأموال التي تصلهم من أثرياء الشيعة.
ولكن النظام الإيراني يتهمهم بتلقي تمويل مالي من استخبارات بعض الدول لتشويه صورة التشيع ومهاجمة الجمهورية الإسلامية.
وللشيرازيين آلة إعلامية ضخمة، تتكون من وسائل متنوعة، على رأسها مواقع الإنترنت والفضائيات التي تخاطب الشيعة في كل مكان بالعالم.
ويأتي اهتمامهم بالإعلام لإيمانهم بأنهم لا يملكون إمكانات مادية كبيرة ونفوذا سياسيا يتجاوز حدود ما يمتلكه النظام الإيراني، وأنهم لا يستطيعون منافسته في هذا المجال.
ولذا ذهبوا إلى حقل آخر، وهو حيازة عاطفة ووجدان الجمهور العام الشيعي، ومخاطبته، والتأثير عليه، خصوصا في خضم وجود التجاذب المذهبي في منطقة الشرق الأوسط، وتنامي الصراع السني – الشيعي.
ويركز التيار الشيرازي على الحسينيات والمنابر والفضائيات في نشر منهجه وبسط نفوذه.
فمن خلال الإعلام اكتسب الشيرازيون قاعدة جماهيرية شيعية واسعة في الخليج العربي وإيران والعراق، وجاءتهم الأموال والتبرعات من كل حدب وصوب، وكانوا هم الأكفأ في نشر التشيع في كثير من البلدان الإفريقية وشمال المغرب العربي عن طريق الإعلام، والإرساليات التبشيرية التي تبشر فقط بين المسلمين السنة، وليس من أولوياتهم التبشير في أوساط النصارى أو اليهود.
حدث تحول كبير في التيار الشيرازي الذي يمتلك مشروعا فكريا لا يمكن إنكاره، وكان يُوصَف بأنه تيار تقدمي في سبعينيات القرن الماضي.
وجرى التغير بعد أن تصدر في التيار أولئك الذين حولوه إلى واحد من أشد التيارات الشيعية تكفيرا وتطرفا وغلوا، وعملوا على إبعاد الناس عن التعقل والتدبر وكل ما يمت إلى التفكير بصلة، لتتحول الشيرازية من تيار ثوري إلى آخر "غيبوي" على يد مجموعة تفتقد للعمق العلمي، وتتصف بالسطحية.
2 – شعبوية الخطاب الشيرازي
يعتمد الشيرازيون في تعاملهم مع الجماهير الشيعية على خطاب طائفي شعبوي جاذب لعوام الشيعة ويستثير مكامن التطرف والغلو في نفوس البسطاء من المتدينين. ويقوم هذا الخطاب على الركائز التالية:
-
طقسنة التشيع، وذلك من خلال تحويله إلى شعائر وإدخال ممارسات يُخرجها فقهاء الشيعة من دائرة التشيع في إطار الإحياء العاشورائي، فلم يتوقف الأمر عند التطبير (ضرب أعلى الرأس بالسيف) والمشي على الجمر، أو حتى الزحف على البطن.
ولكن جرى استحداث طقوس أخرى، مثل التوسع في تمثيل واقعة كربلاء بارتداء أزياء غريبة، وتقمص شكل الإمام علي في هيئة أسد يحضر إلى كربلاء لإنقاذ ابنه الحسين.
-
اللعن والسب، حيث يرى الشيرازيون أن التشيع لأهل البيت لا يَصِح إلا بالولاية لهم والبراءة من أعدائهم، ولهذا يجب على الشيعة أن يلعنوهم. وفي هذا السياق، لا يكف مشايخ التيار عن لعن الصحابة والسيدة عائشة ورموز المذهب السني، ولا يتعففون عن سَبّهم بأقبح الألفاظ في دروسهم ومحاضراتهم العامة.
ويعد "مجتبى الشيرازي"، شقيق المرجع الحالي، أشهر مَن ينتهجون السب والشتم للرموز السنية، بل والشيعية المخالفة لأفكاره، مستخدما في ذلك الألفاظ البذيئة والعبارات التي لا تليق برجل دين.
-
اللجوء إلى الخرافة، وذلك عن طريق إحياء تراث المغيبات والخوارق واستخدام قصص الكرامات التي تجتذب الخرافيّين والمغرمين بالروايات التي تخاطب العاطفة الشيعية الشعبية، كالحديث عن مشاركة "الزهراء" و"المهدي" في مجالس العزاء، وتحول لون تربة كربلاء إلى لون الدم ليلة العاشر من المحرم، وهو التراث الذي يُحاربه المستنيرون من مفكري الشيعة.
-
تكفير الآخر الشيعي، حيث يوسع الشيرازيون– الذين يعتبرون غيرهم من المسلمين السنة كفارا لأنهم لا يؤمنون بولاية الإمام علي– دائرة تكفيرهم لتضم مخالفيهم من الشيعة أيضا، بزعم أن الأئمة كفروا الشخصيات الشيعية المنحرفة عن التشيع لكي لا يَحسبهم الناس من الشيعة، حتى ولو كانوا يدعون التشيع.
ولهذا لا يتورع الشيرازيون عن إطلاق أحكام "التفسيق" و"التضليل" و"التكفير" على مرجعيات ورموز شيعية.
-
مخاطبة العواطف، وذلك بالتركيز على الجانب العاطفي في التعبئة المذهبية، ويَعتمِد الشيرازيون في ذلك على أنصارهم من مشاهير الخطباء وقراء مجالس العزاء والمنشدين العاشورائيين ذوي الشعبية الواسعة في الأوساط الشيعية المتدينة، والذين يتميزون بقدرتهم على مخاطبة الوعي الشعبوي الشيعي، واستنهاض أدق الأحاسيس المرتبطة بتاريخ الشيعة وأعدائهم، ويقصدهم متابعوهم للبكاء بحسرة على الإمام الحسين.
-
المغالاة في العداء الطائفي، واعتبار أي مظهر من مظاهر التقارب مع أهل السنة أو اجتناب ما يسيء إليهم شكلا من أشكال "البترية"، وتخويف أنصار التيار من التقريب بين الشيعة والسنة بحجة أن أي تقارب بينهما سيَقضِي على مذهب أهل البيت.
ولهذا فإنهم يعلنون "أسبوع البراءة" في مواجهة "أسبوع الوحدة" المخصص في إيران لثقافة الاتحاد الإسلامي.
3 – الشيرازيون في لبنان
يَعود ظهور الشيرازية في لبنان إلى جهود "حسن الشيرازي" (1937-1980)، شقيق المرجع الحالي، وذلك بعد أن استقر فيه منذ عام 1970 وحتى اغتياله على يد حزب البعث العراقي.
أقام حسن العديد من المؤسسات التربوية والثقافية والدينية والاجتماعية التي مهدت الطريق لنشر الفكر الشيرازي.
ودعا لمرجعية أخيه محمد في لبنان، وتمكن من تأسيس حوزة الإمام الجواد في منطقة برج البراجنة، إلى جانب العديد من المراكز الثقافية ودور النشر التي ساهمت في ترويج كتب والده وكتبه وكتب مرجعية أخيه.
لا يعرف عدد الشيرازيين في لبنان بالتحديد، ولكنهم ينتشرون بكثرة في الجنوب، خاصة في النبطية ومنطقة صفير، ويتحركون على الساحة اللبنانية تحت مظلة وكيل المرجعية الشيرازية، "محمد علي الفوعاني"، الذي أسس العديد من الحسينيات.
ويشرف الأخير على مختلف الأنشطة العاشورائية والخيرية، لاسيما توزيع المساعدات الغذائية والدوائية على الفقراء والمحتاجين، في ظل الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تمر بها البلاد.
ويقول أتباعه إنه تمكن في فترة قياسية من استقطاب الشباب والشخصيات الثقافية والفكرية الوازنة.
ويشدد الشيرازيون على أنهم لا يتدخلون في السياسة، وأنهم يبدون رأيهم حيال ولاية الفقيه وما يرتبط بها من خيارات سياسية، انطلاقا من مبدأ فقهي، وليس من باب السياسة، وأنهم ليسوا بفرقة ولا خوف منهم، ولا ضرر في سلوكهم على المذهب.
ومع اتساع رقعة التيار الشيرازي وزيادة أنصاره وانتشار مظاهر وجوده على الساحة اللبنانية، بدأ التحذير العلني من الغلو وتغلغل الشيرازيين في صفوف الشيعة في لبنان وظهور ممارسات دخيلة على المجتمع الشيعي اللبناني.
بل ذهب البعض إلى ربط التشيع في نسخته الشيرازية بالتشيع الصفوي، الذي "يدعو إلى الغلوّ بأهل البيت"، ويستخدم الروايات الضعيفة والخرافات والأساطير في بسط سيطرته على الناس.
4 – الاستقطاب الشيرازي لشيعة لبنان
يفاخر الشيرازيون دائما بأن الخط "الرافضي"، يُحقق مزيدا من التمدد والتوسع والنجاح، وأنه لا مثيل له في الدعوة إلى ولاية أهل البيت، والبراءة من أعدائهم، ليصبح هذا الخط قوة لا يستهان بها على مستوى الساحة الإسلامية والعالم ككل.
وربما كانت الفترة التي احتاج فيها حزب الله إلى استثارة الحمية المذهبية لدى شيعة لبنان من أجل الحشد على الجبهة السورية هي الفترة الذهبية لتمدد التيار في أوساط الشيعة اللبنانيين.
وأغمض حزب الله عينيه عن الممارسات الشيرازية، لعلمه أنهم وحدهم الذين يعرفون جيدا كيف يجيشون الشيعة ويهيجون مشاعرهم تجاه السنة، خاصة وأن الحرب أخذت بعدا طائفيا ومذهبيا مختلفا عن الحرب مع الكيان الصهيوني.
ولكن نظرا لاتساع رقعة هذا التمدد الذي يقوم على استقطاب الشيعة من سائر المرجعيات، ينظر حزب الله إلى الشيرازيين على أنهم منافس مستقبلي حقيقي، رغم محاولات البعض التهوين من شأنهم، والزعم بأن انتشارهم في مناطق نفوذ الحزب متواضع، وأن حسينياتهم تقام تحت ستار رفض الحزب مواجهتهم، لأنهم لا يشكلون خطرا عليه، على اعتبار أنه مشروع سياسي – ديني.
أما الشيرازيون فهم مجرد إطار دعوي لا يتخطى حدوده المجالس العاشورائية، ويطرحون أنفسهم كحالة دعوية في الشارع الشيعي، ولا يملكون رؤية سياسية، وإنما هم مشروع مذهبي جل تركيزه على الجانب العقائدي، خاصة وأنهم لا يؤمنون بأي مشروع سياسي قبل ظهور راية المهدي.
ويقول مصدر مقرب من حزب الله إن "الخلاف الفقهي بين الشيرازيين والحزب يؤكد أنه لا يمكن أن يستقطبوا أحدا من عناصرنا، وفي حال حدوث شيء من هذا القبيل، عندها يكون بمثابة حالات فردية، أصبحت خارج الإطار التنظيمي للحزب، أما استقطابهم التاريخي فكان من خلال قراء العزاء في المجالس العاشورائية لحركة أمل".
بالفعل كان الاستقطاب الأكبر على حساب حركة أمل، وذلك لأن الحركة بيئة مناسبة للتوسع والانتشار، ويساعد في ذلك أنها لا تتدخل فيما يخص تقليد منتسبيها وأنصارها لهذا المرجع أو ذاك.
وإن كان الأصل لديها هو تقليد المرجع الأعلى في النجف، إلا أنها لا تعترض على تقليد عناصرها إذا اختاروا غيره، وهو ما أعطى الحركة مرونة واسعة في استيعاب مقلدي أيّ مرجع، ومنهم الشيرازي، الذي يرجع له بعض عناصر الحركة وأنصارها، وبالأخص في الجنوب اللبناني.
وقد يقول قائل إن الخطر يتهدد حركة أمل بسبب استقطاب الشيرازيين لأنصارها على نطاق واسع، فما الذي يخيف حزب الله؟
الحقيقة أن اقتطاع المرجعية الشيرازية حصة من جسم حركة أمل، سيؤدي إلى زيادة عدد الشيرازيين، وإعادة تشكيل التوازنات داخل البيت الشيعي الذي يتزعمه حزب الله، خاصة وأن التيار الشيرازي يمتلك أدوات تنظيمية وامتدادات إقليمية وخططا ثقافية واجتماعية يمكن أن تحوله إلى منافس قوي للحزب، وهو ما سوف يهدد سيطرته على الطائفة الشيعية.
5 – علنية الهجوم على الشيرازيين
خرج الخلاف بين حزب الله والتيار الشيرازي إلى العلن في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وذلك بعد أن انتقد حسن نصر الله ممارسات الشيرازيين في إحياء ذكرى عاشوراء، والتي دخلت على طقوسها عناصر من الثقافة المذهبية الشعبية، مثل وضع البعض السلاسل في الأعناق، والتشبه بالكلاب، والمشي على أربع، والنباح، والتفاخر بأنهم كلاب أهل البيت.
وهو ما تبرأ منه نصر الله، ووصفه بأنه إساءة إلى التشيع، وليس من الدين في شيء. بل ذهب إلى أن هؤلاء هم أعظم المسيئين إلى الحسين، وأنهم بأفعالهم هذه "يذبحون الحسين في كلّ ليلة وفي كل يوم"، ويأخذون الشيعة إلى عالم آخر، في إشارة منه إلى فكرهم الخرافي.
واتهم نصر الله أتباع هذا التيار الذي يدعو إلى هذه الممارسات بأنهم يخوضون حربا من أجل شعيرة أو أخرى، مثل شعيرة التطبير، ولكنهم لا يَظهرون في ساحات المعارك الحقيقية، حينما يحتاج إليهم الإسلام والتشيع.
وسأل نصر الله المتعصبين منهم: "لماذا لا نجدكم في الدفاع عن الحسين وكربلاء وعتبات أهل البيت والحوزات العلمية وتراث أهل البيت". وتعجب من إصرارهم على أن ينزف دمهم "في مكان فيه نقاش"، وهو ساحات التطبير، بدلا من أن يُراق في ساحات الدفاع عن المذهب.
وفي إشارة إلى أن الكيل قد طفح بممارساتهم، وأن التسامح معهم لم يأت بنتيجة، وأن معاملتهم بالحسنى لم تعد تجدي نفعا، قال نصر الله: "طيب، نتسامح، نتسامح، نتسامح، أنا أعترف أني من جملة الناس التي قالت هذا الموضوع يحل بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار الداخلي، ولكن وصلنا إلى مكان معيب ومحزن ومؤلم جدا".
فسر البعض موقف حسن نصر من الشيرازيين بأنه جزء من حربه على التيار الشيرازي بسبب تغلغله في الوسط الشيعي، وأن ذلك يدل على خوفه من إضعاف سيطرته على المذهب بسبب هذا التيار.
وقالوا إن المشكلة لا تكمن في المبالغات الطقوسية، وإنما في أثرها على شعبيته. ولهذا فإن نصر الله يرسخ لفكرة مفادها أن الشيرازية مسيئة إلى المذهب بما تبثه فيه من ثقافة الخنوع والتمثل بالكلاب، ويشكك في صدق تمثيل الشيرازيين للمذهب والدفاع عنه وعن مقدساته.
6 – أسس الخلاف بين الشيرازيين وحزب الله
يمكن وصف الخلاف بين الشيرازيين وحزب الله بأنه بنيوي، يرتبط بالمرتكزات الأساسية التي يقوم عليها الحزب ويستمد منها المشروعية بين أتباعه، وهو ما يحول دون التوافق بينه وبين التيار الشيرازي. ويتمثل في النقاط التالية:
-
الخلاف العقائدي:
تمثل نظرية "ولاية الفقيه" الركن الإيماني لحزب الله، ولا يفتر حسن نصر الله عن التأكيد على هذا الأمر.
وينسب إلى نصر الله القول بأن "مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني".
وفي المقابل، يرفض الشيرازيون نظام "ولاية الفقيه" بصيغته المطبقة في إيران، فالمرجع محمد الشيرازي يحدد سلطة الولي الفقيه المطلقة، ويشرك بقية الفقهاء فيها.
وهو أيضا لا يَعترف بصيغة ولاية الفقيه التي تقتضي التسليم لإمام واحد، ويَدعو إلى إعطاء الفقهاء دورهم في قيادة الدولة من خلال "شورى الفقهاء"، في محاولة منه لمواجهة ديكتاتورية الفقيه المطلقة.
وفي حين يرى نصر الله أن العلاقة بين الحزب ونظرية ولاية الفقيه "عضوية" و"جوهرية"، فإن المرجع الديني "حسين"، ابن المرجع "صادق الشيرازي"، يَصِف الخميني بالفرعون في حديثه عن سمات النظام الفرعوني، ضاربا المثل بممارسات نظام ولاية الفقيه، ومشيرا إلى استخدامها في خداع الناس وإخماد أصوات المعارضين وتكميم أفواه كبار العلماء المخالفين لها.
وينتقد الأمر بقوله: "مبدأ أنا ربكم الأعلى وهذه طريقتكم المثلى يتجلى في ولاية الفقيه، هذه البلاد الآن قائمة على هذا المفهوم بقضها وقضيضها".
-
الخلاف السياسي:
مِن رحم العقيدة يولد الخلاف السياسي، والذي يدور حول العلاقة مع النظام القائم في إيران، فحزب الله، وبحسب قناعات زعيمه "حسن نصر الله" التي صرح بها في رَدِّه على سؤال عن شكل النظام الذي يريده الحزب في لبنان، يقول: "مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام".
وتابع أن مشروعهم "أن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني".
وبناءً على هذه القناعة، فإن الخيارات السياسية لحزب الله مرهونة بخيارات إيران.
هذا في حين يعاني الشيرازيون من مشكلة سياسية مع الحكومة الايرانية بسبب موقفهم المعارض للنظام الإيراني، والذي يتهمونه بالاستبداد والظلم والديكتاتورية، ويدعون إلى استقلال الحوزة العلمية والمراجع العظام عن الحكومة.
ويَرون أن تحالف حسن نصر الله – الذي يعتبر تنفيذ أوامر الولي الفقيه واجبا إجباريا– مع إيران يدخل تحت بند موالاة الإمام الجائر، وينطبق عليه ما ورد في الحديث المروي عن الإمام الصادق: "لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر".
-
الخلاف الحركي:
يُعلن حزب الله عن نفسه كحركة مقاومة تتمركز حول "الجهاد" الذي يهدف إلى تحرير الأراضي اللبنانية، ويمثل ذلك جوهر اهتماماته السياسية والتنظيمية. وبالتالي، فإن الحزب يعلن دائما عن أن مقاومة الكيان الصهيوني هي أولوية الأولويات بالنسبة له.
أما الشيرازيون فإنهم يَرون أن الجهاد الحقيقي هو ذلك الذي يكون في سبيل رفع الذلة الدينية عن الشيعة ونصرة مذهبهم، وهو ما خرج الحسين عليه السلام من أجله، وأن الصراع الحقيقي والأصيل ليس مع الصهاينة، وإنما مع ظالمي أهل البيت، كونهم غاصبي الحكم من الإمام عليّ.
ولهذا فإن التيار الشيرازي يتهم حزب الله بالتضحية بالقضية الأولى، وهي محاربة "خط السقيفة" وإسقاط الحكومات "البكرية"، بزعم مواجهة العدو المشترك، وذلك بدلا من أن يكون جهاد الصهاينة سبيلا لإنهاض الأمة الشيعية واستعادة ثقتها بنفسها ومحفزا لها على جهاد عدوها الأول.
وفي المقابل، يتهم البعض الشيرازيين بأنهم "من القاعدين ويُحرمون الجهاد"، وينتقد تقاعسهم عن المشاركة في المعارك التي يخوضها الشيعة في أماكن مثل سوريا.
7 – المآخذ الشيرازية على حزب الله
يُفرِّق التيار الشيرازي بين المنضمين إلى حزب الله من الشيعة الذين يُحرّكهم الإخلاص لدينهم ووطنهم وكرامتهم، وقيادات الحزب التي يَرى أنها سخرت الدين وشعاراته في سبيل المنافع السياسية، واستخدمت اللغة الديماجوجية (مخاطبة مشاعر الجماهير) في خطابات تستهدف تحريك عواطف الجماهير وبرمجة أنماط تفكيرهم وتغييبهم عن الأولويات.
ويأخذ الشيرازيون على حزب الله جملة من المآخذ الشرعية التي يَرون أنها تدخل في دائرة الابتداع ومحاربة ثوابت المذهب الشيعي وتتنافى مع التشيع الحق، ومنها ما يلي:
-
تأسيس الحزب على أهداف تقوم على قواعد شيطانية، لأنها ليست مرتبطة بمحمد وآله الطاهرين، بل بالمعادلات السياسية.
-
انطلاق الحزب في "جهاده للصهاينة" من دوافع سياسية في الأغلب، وليست دينية، والتنازل عن ثوابت المذهب باسم المقاومة لتحقيق مكاسب سياسية أو دنيوية رخيصة.
-
موالاة الحزب للإمام الجائر، والتأصيل لذلك شرعا من خلال جعل طاعة هذا الإمام واجبا من واجبات الدين، فـ(المرشد الإيراني الأعلى علي) خامنئي إمام جائر والمظالم في حكمه واضحة للعيان.
-
تعطيل أمور من صلب المنهج الشيعي الحسيني وركائزه العقائدية، رعاية للمصالح والتوازنات السياسية، وهو ما يخالف صنيع الإمام الحسين في الجهر بالبراءة من "أعداء أهل البيت".
-
ارتكاب المنكرات والفسق والفجور، كاستقدام مطربات للغناء فيما يسمى بعيد المقاومة والتحرير، والآمر بهذا فاسق والراضي عنه فاسق أيضا، استدلالا بقاعدة "لا يُطاع الله من حيث يعصى".
-
الابتداع في الدين، من خلال ترسيخ الحزب مبدأ أن ولاية الفقيه أصل من أصول الدين، وتربية الناشئة على أن الخميني والخامنئي هما وليا أمر المسلمين، ويجب اتباعهما.
-
التضييق على الشيعة ومنعهم من التعبير عن براءتهم من أعداء آل البيت، خوفا من تعرض مصالح الحزب وتوازناته السياسية للخطر، وسعيا منه إلى الوحدة الإسلامية "الباطلة"، والتي تسعى إلى إرضاء الناس وليس إلى إرضاء الله.
-
اقتراب الحزب من الخط "البتري"، والمقصود به أولئك الذين يدعون إلى التقارب بين المسلمين ويرفضون الإساءة إلى رموز أهل السنة، ويستدلون على ذلك بخروج زعيم الحزب عبر وسائل الإعلام ليَصِف عائشة (رضي الله عنها) بالسيّدة، وإقراره بأنها أم المؤمنين، وترضيه على الصحابة.
-
استخدام الانتصارات العسكرية في تبرير الخروقات الشرعية، وهو ما يُخالِف المنطق الشيعي الذي لا يقيم وزنا للانتصارات العسكرية ولا غيرها من الأمور الحسنة في تقييم شخص أو هيئة إذا كان صاحبها يَخرق الشرع في جوانب أخرى.
8 – تأثر أنصار حزب الله بالفكر الشيرازي
لمعرفة مدى الشكوك التي أخذت تساور أنصار حزب الله وتتسلل إلى عقولهم ونفوسهم حول الحزب بسبب مآخذ الشيرازيين عليه والأفكار التي يروجونها ضده في أوساط الشيعة في لبنان والعالم، يكفي أن نلقي نظرة على بعض الاستفتاءات التي تصل إلى شيوخ التيار الشيرازي من أعضاء الحزب وأنصاره أنفسهم.
والتي لا يتورع أصحابها عن رسم صورة سلبية للحزب، والتعبير عن كراهيتهم له، وضيقهم ذرعا بالبقاء بين صفوفه، وحيرتهم بسبب جمعهم بين تقليد المرجعية الشيرازية والانتماء إليه.
احتوت الاستفتاءات على تساؤلات حول أمور تمس الأسس التي قام عليها الحزب، ويمكن أن يؤدي التشكيك فيها إلى ضرب شرعيته، وهو ما يتضح من التساؤل عن جواز الانضمام إليه، والبقاء بين صفوفه، ووجوب القتال تحت رايته، ومصير قتلاه، وحكم الحصول على الرواتب من أمواله.
فقد أرسل أحدهم يستفتي في حكم الانضمام إلى صفوف المقاتلين في الحزب، وشرعية الجهاد تحت مسمى المقاومة، وهل يجب على المؤمنين أن يقاتلوا تحت قيادة حزب الله أم يتركوا القتال؟
وأرسل آخر يستفتي في جواز البقاء في صفوف الحزب، قائلا: "مولانا العزيز، أقسم أن ما أنتم عليه هو الحق... وأنا مع حزب الله من الشباب، وممن في حزبهم الملعون، والآن أنا أكرههم كرها شديدا، وأريد الخروج، وما أدري ما العمل لأن في خروجي مشقة".
وأرسل مستفتٍ ثالث يَصِف نفسه بأنه من مقلدي صادق الشيرازي، ويذكر أنه جندي في حزب الله في لبنان، سائلا عن مدى رضى المرجع الخاص به عن بقائه في الحزب، مع إقراره بأنه غير راض عن أشياء كثيرة داخله، وينتقد دائما الخامنئي ونصر الله.
ووصل الأمر ببعضهم إلى حَدِّ الشك في مصير قتلى الحزب، وهو ما ورد في سؤال لمُستفتٍ يقول فيه: "ما هو موقفكم من شهداء لبنان في الحرب مع إسرائيل؟ وهل هم شهداء؟"
وهناك مِن أعضاء الحزب مَن يسأل عن المكافآت المالية التي يتلقاها مقابل ما ينفذه من أعمال، ويَستفتي عن هذا المال، وهل هو حلال أم حرام، وهل هناك عائق شرعي في الحصول عليه؟
ولعل الحالة الأخيرة توضح لنا حجم الصراع النفسي الذي يعاني منه البعض بسبب الحيرة بين الرغبة في القتال ضد الكيان الصهيوني وعدم الرغبة في البقاء ضمن صفوف الحزب بعد تقليده للمرجعية الشيرازية.
يقول المستفتي: "أنا واقع في حيرة شديدة ورهيبة، كنت من مقلّدي خامنئي الظالم، ولكن وبعد متابعتي لكم ولعلومكم الحقة وللحقائق الّتي تفيضونها علينا، عدلت، وبدأت أقلد من جديد سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي".
واستدرك: "لكن المسألة ليست هنا فحسب، بل هي أنني أتابع منذ أكثر من سنتين تقريبا مع حزب الله، المشكلة أنني أصبحت أعرف كل سلبياتهم العقائدية، وضقت ذرعا من نمطيّتهم الفكرية المنحرفة، وخاصة التي تتجلى في قياداتهم".
وأردف: "في نفس الوقت لا أريد أن أترك صفوفهم لرغبتي الشديدة في الدفاع عن الأرض والعِرض في حال شنّت إسرائيل أي اعتداء على لبنان، إذ لا يوجد أي طريقة أخرى للقيام بهذا الأمر إلا ضمن صفوف مقاومة هذا الحزب".
وبعد التصريح بهذه الحيرة، يسأل: "هل هناك أي عائق شرعي بمتابعتي العمل معهم، مع العلم أنني لم أعد أؤيّدهم لا سياسيا ولا عقائديا ولا فكريا، كل ما في الأمر أنني أشعر بالمسؤولية تجاه أهلي وأرضي ضمن إطار مقاومة الصهاينة، وحلمي الكبير بالاستشهاد في سبيل الله في يوم من الأيام".
والملاحظة العامة على الردود التي يتلقاها المستفتون هي أن تقدير هذه الأمور في يد "الحاكم الشرعي"، وهو مرجع التقليد "صادق الشيرازي"، أو وكيل المرجعية في لبنان.
فإن أجاز هذا المرجع البقاء في الحزب لمصلحة شرعية أو دفعا لضرر يمكن أن يقع فلا تثريب عليهم في الاستمرار، وإلا فعليهم الخروج.
9 – استشعار الخطر وتبادل الهجوم
أدرك حزب الله خطورة تواجد الشيرازيين في الشارع الشيعي، وتنبه إلى قدرتهم على استقطاب شيعة لبنان من خلال استغلال المناسبات المذهبية.
وعلى رأسها ذكرى عاشوراء، التي كان الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، يتقاسمان الأدوار فيها.
ولكنها شهدت في السنوات الأخيرة حضورا شيرازيا كثيفا، وتميزت بالتماهي مع أساليب العراقيين في إحيائها، من خلال اللطميات الصاخبة، وممارسة سلوكيات غريبة، كأن يَربط الشباب أعناقهم بحبال، دليلاً على أنهم خدّام السيدة زينب، وهو ما يَجتذب العوام والبسطاء.
ولاستعادة السيطرة على الشارع، ضبط حزب الله سلوك أصحاب الخيم العاشورائية المنتشرة على الطرقات في ضاحية بيروت الجنوبية، لمنع تسلل التيارات الشيعية التي تغالي في مشاعرها إبان إحيائها للمراسم، وتجد في الشوارع العامة متنفسا للتعبير، بعيدا عن الحسينيات والمساجد.
وفي سياق المساعي الحثيثة التي يبذلها حزب الله لمحاصرة التمدد الشيرازي، أغلقت السلطات الإيرانية مجموعة من القنوات الفضائية التابعة للشيرازيين، والتي تبث من مدينة قم، بطلب من حسن نصر الله.
وذلك لما تبثه من برامج شيعية طائفية متطرفة تزيد من الكراهية للحزب في محيطه العربي، وما تتبناه من خطاب يُعادي الحزب ويُهاجم أهدافه وسياساته وتصرفاته.
وعلى الجانب الآخر، يتهم أتباع المرجعية الشيرازية حسن نصر الله بتشويه صورتهم، وأن هجومه العلني عليهم لم يكن الأول من نوعه، وإن كان هو الأول في علنيته، إذ نسبوا إليه أنه قال في لقائه السنوي مع قراء العزاء، عشية حلول شهر المحرم، في نهاية سبتمبر/أيلول 2016، إن "التشيّع البريطاني الأشد خطورة من الوهابية والصهيونية"، واصفا من يظهرون على الفضائيات ويتحدثون بلغة مذهبية بأنهم "عملاء استخباراتيون هدفهم تدمير المذهب. وكل مَن يؤيدهم على ذلك عميل جبان، وكل مَن يراعيهم ويسكت عن غيّهم متآمر".
ولهذا يبادل الشيرازيون زعيم حزب الله هجوما بهجوم أشد، حيث وصفوا هجومه عليهم بأنه مؤشر على مدى الرعب والقلق من تمدد التيار الرافضي، وأن نصر الله "المشهور بتنفيذ أوامر الخطف والاغتيال الصادرة له من طهران، لم يتوقف عند حدود الشرع والأخلاق والأدب، بل تمادى في توجيهاته"، وأن موقفه من المرجعية الشيرازية يدل على فشل طهران وزبانيتها في القضاء على هذا الخط "الأصيل"، و"ذلك على الرغم من كل الخطط الإستراتيجية، التي تم ويتم حبكها تحت إشراف مباشر من الطاغية الإيراني المدعو علي خامنئي".
10 – حتمية الصدام
في ظل الهجوم المتبادل بين الفريقين، ورفع درجة الاستنفار لدى أنصارهما، تزداد فرص الصدام الذي يمكن أن يتجاوز حدود الهجوم اللفظي والتضييق على الأنشطة المذهبية أو الإعلامية، وأن يصل إلى حد الصدام العنيف أو الدموي.
لقد أعلن حسن نصر الله عن نفاد صبره بسبب تصرفات الشيرازيين، وتُرجمت هذه الحالة من الأقوال إلى الأفعال على يد بعض الشباب الذين هاجموا حسينية في البقاع الأوسط، تعود لأتباع المرجع الشيرازي، وأشعلوا النار في بعض الرايات العاشورائية التي رفعها الشيرازيون بمناسبة ذكرى عاشوراء.
أثار الحادث مخاوف داخل الطائفة الشيعية من وصول الأمور إلى نهج الإقصاء والإحراق والإلغاء لأيّ فصيل شيعي، حتى إن وكيل المرجع الشيرازي في لبنان، الفوعاني، ناشد اللبنانيين جميعا مناصرة المظلومين في الطائفة الشيعية، لأن التعايش والتنوع داخلها أصبح ممنوعا، رغم أن عمل المرجعية الشيرازية في لبنان ديني إنساني بحت، وليست لهم علاقة بأي عمل سياسي.
وعلق وكيل المرجعية الشيرازية على الهجوم بقوله: "الفعل الذي حصل لم نر قبله إلا من تنظيم الدولة"، واعتبره حادثة كبيرة لها تداعيات في الوسط الشعبي الشيعي.
وشدد على أنهم لن يرضوا بالاستضعاف، وأنهم لن يصبروا إلى النهاية، لأنهم وإن كانوا يتمسكون بثقافة الصبر ويتحلون بالأخلاق فإنهم لن يرضوا أن يكونوا "مكسر عصا".
واتهم الفوعاني حزب الله بارتكاب الحادث، قائلا: "تقدمنا بدعوى قضائية لأن المعتدين معروفون ولدينا صور، جميعهم محسوبون على حزب معين".
وفي تهديد مبطن بأنهم لن يتنازلوا عن الثأر، قال: "حقنا وحق الوقف والمرجعية والعمامة والراية لن نتركه من الذين فعلوا هذا، سنقتص منهم بالقانونين الشرعي والوضعي".
وهو ما يَعني حتمية وقوع الصدام بين الشيرازيين وحزب الله مع أي احتكاك في المستقبل، خاصة وأن الخلافات بين الفريقين ليست من النوع الذي يمكن تجاوزه رعاية لمصلحة مذهبية أو طائفية.
بالإضافة إلى أن التنافس المباشر بين أنصار كل من التيار والحزب في ميادين العمل الدعوي والاجتماعي في أوساط الشيعة قد يؤدي إلى وقوع صدام بين المتطرفين مذهبيا من الجانب الشيرازي والملتزمين حزبيا من جانب حزب الله.
وثمة عامل آخر لا بد من ذكره في الحديث عن حتمية وقوع الصدام، وهو الاستقرار النسبي للوضع في سوريا، وعدم حاجة الحزب إلى التجييش المذهبي والشحن الطائفي الذي استغل فيه الشيرازيين، ورغبته في إعادة الأمور إلى نصابها من خلال تحجيمهم، وهو ما سيواجه بواقع جديد، يصعب من مهمة الحزب، وهو زيادة قوة التيار في الفترة التي انشغل فيها الحزب بالحرب في سوريا.
خاتمة
لا شك أن الشيرازيين فرضوا أنفسهم على الساحة الشيعية بقوة لافتة للنظر، حتى أن البعض يَرى أن المرجعية الشيرازية هي الثانية من حيث الانتشار والتأثير على مستوى العالم بعد مرجعية ولاية الفقيه في إيران، بما تملكه من آلة إعلامية ضخمة وخطاب شعبوي جاذب للعوام والبسطاء والمتطرفين والغلاة، وهو ما يفسر حالة الخلاف بين الشيرازيين في لبنان وحزب الله الموالي للولي الفقيه في طهران.
ذلك الخلاف لا يمكن اختزاله في ممارسات طقوسية يُعبّر بها عوام الشيعة عن ولائهم لأهل البيت ويراها الحزب مسيئة للمذهب، وإنما يمكن قراءته في ضوء الخلافات البنيوية المتمثلة في الأصول التي قام عليها كل من التيار الشيرازي وحزب الله.
وكشف الخلاف عن خوف حزب الله من استقطاب الشيرازيين للشيعة في لبنان، وخشيته من التمدد الذي يهدد سيطرته على البيت الشيعي بشكل عام، وعلى أنصاره بشكل خاص.
خاصة وأن التيار الشيرازي يأخذ على الحزب كثيرا من المآخذ الشرعية التي تلقي بالشك على أهداف الحزب، وتجد لها صدى لدى أنصاره، ويمكن أن تؤدي إلى إضعاف التأييد له وانصراف البعض عنه.