رغم ثورات الشعوب.. كيف عمق فشل الأنظمة الانقسام في العالم العربي؟

أحمد يحيى | 4 years ago

12

طباعة

مشاركة

مع حلول الذكرى العاشرة لثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وما أعقبها من انتكاسة وانقضاض من قبل الثورات المضادة، مخلفة أنظمة أكثر شمولية، عمقت من حالة الترهل والانقسام في العالم العربي.

بعد مرور عقد على التجربة، بات مؤكدا أن النظام الإقليمي والعربي لم يستوعب طبيعة التغيير، وأصبحت الأوضاع أكثر تعقيدا، والدول أكثر انفصالية عن بعضها.

باتت الشعوب تدفع ثمن فشل المنظومة العربية ككل، في إشكالية أكبر من أزماتهم مع أنظمتهم القائمة على القمع والاستبداد، وإخفاق ملحوظ للحاضنة الأكبر للعرب، من المحيط إلى الخليج، والممثلة في "جامعة الدول العربية".

سد النهضة

من أبلغ دلالات فشل النظام العربي في حماية أمن أعضائه، ما حدث في قضية "سد النهضة" التي تتعلق بمصر، إحدى المؤسسين للجامعة العربية، وأكثر بلاد العرب تعدادا للسكان.

لم تجد القاهرة نصيرا حقيقيا لها رغم استنجادها المتكرر بالأنظمة العربية، للحيلولة دون مشروع "سد النهضة"، الذي يشكل أكبر خطر على أمن مصر القومي.

برز ذلك في 4 مارس/آذار 2020، خلال كلمة مصر باجتماع الدورة العادية لمجلس "جامعة الدول العربية" على المستوى الوزاري، الذي عقد في القاهرة، حيث قال وزير الخارجية سامح شكري: "مصر تتطلع إلى دعم الدول العربية الشقيقة، في مشروع القرار المتوازن الذي قدمته مصر، والذي يتضمن عددا من العناصر الهامة التي من شأنها التأكيد للجانب الإثيوبي على وقوف الدول العربية صفا واحدا لدعم المواقف المصرية العادلة والسودان الشقيق".

استغاثة مصر بالدول العربية، وضّح عمق أزمة "سد النهضة"، وعجز القاهرة عن التوصل لحلول حاسمة ومرضية لها، خاصة مع انهيار المفاوضات إثر انسحاب "إثيوبيا" من لقاء التوقيع في واشنطن، وبدء التلاسن المتبادل بين الطرفين.

الأمر لم يتوقف على العجز عن الفعل أو اتخاذ القرار، بل في تباين المواقف، ظهر ذلك في رد فعل السودان بالتحفظ على مشروع قرار الخارجية المصرية، وهو ما كان صادما للقاهرة. 

رأى الجانب السوداني أن "القرار ليس في مصلحته، ولا يجب إقحام الجامعة العربية في هذا الملف"، وأبدى تخوفه مما قد ينتج عنه هذا القرار من "مواجهة عربية إثيوبية".

لا يخفى أيضا دعم الإمارات لرئيس وزراء إثيوبيا "آبي أحمد" في العديد من الملفات، وإمداد بلاده بأموال للاستثمار في مشروع "سد النهضة".

قدمت أبوظبي مساعدات مالية دولارية أسهمت في عمليات بناء السد، علاوة على تعهدها عام 2019، بتقديم 3 مليارات دولار في شكل مساعدات واستثمارات إلى "إثيوبيا".

فشل المنظومة العربية كـ"تكتل" دفع مصر المتأزمة للجوء إلى الولايات المتحدة كحل أخير لحلحلة الإشكالية، وفي 13 يناير/كانون الثاني 2020، تم اجتماع تقييمي للمفاوضات برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي في واشنطن بين وزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان، لتعلن "إثيوبيا" في اليوم التالي فشل تلك المفاوضات في حل النزاع المستمر مع مصر.

 

الجحيم السوري

سوريا هي الضحية الأبرز لفشل المنظومة العربية، بعد قرابة 10 سنوات من الثورة على نظام الديكتاتور بشار الأسد، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين، إضافة إلى نزوح الملايين، تحولت سوريا إلى دولة فاشلة مزقتها الحرب، وغدت أرضا مستباحة من الجميع. 

القرار العربي المتخبط بدأ في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، إذ قرر وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ عقدوه في القاهرة تعليق عضوية سوريا بجامعة الدول العربية، كما أعلنوا فرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد دمشق، وحثوا الجيش السوري على عدم استخدام العنف ضد الشعب الثائر على النظام.

وفي 2013. وافقت "القمة العربية" التي عقدت في الدوحة على تسليم المقعد للمعارضة السورية، إلا أنه عاد شاغرا بقمة شرم الشيخ في مارس/آذار 2015، وأعيد وضع علم النظام السوري، في خطوة ألغت أحقية المعارضة بمقعد "جامعة الدول العربية".

الخطوة المصرية بقيادة عبد الفتاح السيسي، أتت منسجمة مع مواقف العراق والجزائر وسلطنة عُمان ولبنان، الذين رفضوا منذ البداية إلغاء عضوية سوريا في الجامعة العربية، بعدها توالت المواقف الداعمة لنظام الأسد.

انحياز جزء من منظومة الحكام العرب إلى الأسد الذي فتك بشعبه، ساهمت في وصول الأزمة السورية إلى نقطة بعيدة، وعجز عن إنقاذ الوضع المتأزم في بلد أنهكته الحروب.

مجلة "الإيكونومست" البريطانية نشرت تقريرا في 29 أبريل/نيسان 2019، تناول دور الجامعة العربية قائلة: "مع اشتعال الأوضاع في سوريا وليبيا وتحدي إيران للخليج للتمكن من المنطقة، وتراجع أميركا عن دورها بوصفها الضامن النهائي للاستقرار، كان يجب أن يكون كل هذا فرصة لجامعة الدول العربية لإثبات ذاتها".

مضيفا: "بدلا من ذلك، يبدو أن هذا الكيان ينجرف بشكل أعمق، وأكثر من أي وقت مضى، إلى حالة من الضياع وفقدان الأهمية والمعنى، ومفهومها للتجديد أن يُستبدل أمينها العام الثمانيني بعجوز سبعيني، في تغيير فارغ بلا قيمة". 

ليبيا المجزءة

عندما قُتل الرئيس الليبي المخلوع "معمر القذافي" على يد الثوار خلال معركة سرت في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، كانت ليبيا في طور مرحلة جديدة بعد 40 سنة من حكم القذافي. 

النظام العربي لم يستوعب تلك المتغيرات، ولم يسع إلى تدارك أزمة تلوح في الأفق واقتتال أهلي ظاهر للعيان، وعلى العكس تورطت أنظمة عربية في إشعال الصراع، وتسببت في تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب.

القاهرة بقيادة السيسي، كانت ترى أن الجارة الغربية تمثل تهديدا مباشرا على أمنها القومي، خاصة في توجيهها اتهامات بتهريب السلاح وإيواء الإرهابيين من خلال الحدود الشاسعة بين البلدين.

التدخل المصري تجاوز الضغوط السياسية وعقد تحالفات مع أطراف محددة، بل وصل الأمر إلى تدخل عسكري مباشر، وتوجيه ضربات عسكرية من قبل الطيران الحربي المصري في العمق الليبي في فبراير/شباط 2015، حيث قصفت مدينة درنة.

وعاود السيسي التدخل العسكري في ليبيا مرة أخرى، عندما نفذت الطائرات الحربية المصرية هجوما مباغتا على مدينة درنة في 2 يونيو/حزيران 2017، وهو ما اعتبره محللون عسكريون ذريعة لتعزيز حليفها اللواء خليفة حفتر، ما جعل دفع الجزائر للاحتجاج رسميا مطالبة بوضع حد للضربات الجوية المصرية في التراب الليبي.

السودان الوحيد

ما ينطبق على الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، قد ينطبق أيضا على الموجة الثانية التي هبت نسائمها في السودان 2019، الذي لم يختلف كثيرا عن نظرائه من الدول العربية التي تعاني اضطرابات وقلاقل، منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان 2019.

ما زال السودان يعاني من الحروب الأهلية والصراعات القبلية بين الحكومة المركزية والمتمردين، والتي ظلت لسنوات طويلة، مثل حرب دارفور، والمعارك مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في جنوب كردفان، وما زال النظام العربي عاجزا عن التدخل والحل.

السودان الجديد اضطرت للجوء إلى جنوب السودان وإثيوبيا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، وجهت الرئيسة الإثيوبية "ساهلي زويدي"، دعوة إلى المجتمع الدولي لدعم السلام بين حكومة الخرطوم والحركات المتمردة في احتفال توقيع اتفاقية السلام.

وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلنت لجنة وساطة جنوب السودان مشاركة 3 رؤساء دول، و3 رؤساء وزراء، وعدد من المسؤولين العرب والأفارقة والغربيين، في الاحتفال بالتوقيع النهائي على اتفاق سلام السودان، بالعاصمة جوبا.

وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، جرى توقيع الاتفاق النهائي للسلام في جوبا بين كل من حكومة الخرطوم وممثلين عن حركات مسلحة منضوية داخل "الجبهة الثورية".

كانت جوبا حاضرة بينما غابت الجامعة العربية، حتى الوفود العربية القليلة التي شاركت لم تكن فاعلة، بطريقة أقرب إلى الرمزية، بينما ضمنت دولة جنوب السودان الوليدة الاتفاق ورعت المصالحة.

فخ الصحراء

ورغم أن المغرب نجا من ثورات الربيع العربي في موجتيها الأولى والثانية، لكنه لم ينج أيضا من فخ الخذلان والتخاذل العربي ونصرته في قضية إقليم الصحراء المعقدة والممتدة منذ سنوات.

تعد أزمة الصحراء من أطول النزاعات في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث بدأ النزاع فعليا عام 1975، عندما وقعت إسبانيا قبل جلائها من الصحراء الغربية، "اتفاقية مدريد" مع كل من المغرب وموريتانيا، والتي اقتسم بموجبها البلدان الجاران الصحراء. 

الصحراويون المسلحون الذين أسسوا "جبهة البوليساريو"، رفضوا الاتفاقية وطالبوا بالانفصال، وصعدت الجبهة من وتيرة عملياتها، وقامت بالتحريض على المظاهرات المطالبة بالاستقلال، بينما اتجه المغرب وموريتانيا إلى محكمة العدل الدولية، متجاوزين الجامعة العربية التي فشلت طوال الوقت في حل الأزمة.

ومنذ ذلك الوقت وعلى مدار 45 عاما، اعتبر المغرب قضية الصحراء قضيته الوطنية الأولى، ومحددا أساسيا لأجندته الدبلوماسية وتحالفاته الدولية، وعليها يحدد بوصلة الموالاة أو العداء.

جاءت المفارقة بأن ما عجز عنه النظام العربي مدة 4 عقود، أنفذه الرئيس الأميركي (المنتهية ولايته) دونالد ترامب بقرار اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على كامل أراضي الصحراء الغربية.

وأتبع القرار بتغريدة عبر حسابه بتويتر، يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، قائلا: "اختراق تاريخي آخر، اليوم اتفقت صديقتانا العظيمتان إسرائيل والمملكة المغربية على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، اختراق هائل للسلام في الشرق الأوسط".

بعدها اعتمدت "واشنطن" خريطة رسمية جديدة للمغرب تضم الصحراء الغربية، قدمها رسميا "ديفيد فيشر" السفير الأميركي في الرباط. الخريطة الجديدة لم تكن على مستوى الجغرافيا فقط، ولكن السياسة أيضا بتطبيع علني ورسمي مغربي مع إسرائيل، وهو ثمن لفشل المنظومة العربية ككل، ولإخفاق "جامعة الدول العربية"، بعدما امتد طابور التطبيع العربي طولا وعرضا من أبوظبي إلى الرباط والقائمة مفتوحة.

حرق اليمن 

لم تسلم الثورة اليمنية التي اندلعت في 27 يناير/ كانون الثاني 2011، من مؤامرات الثورات المضادة بدعم سعودي وإماراتي من جهة وإيراني من جهة أخرى.

ورغم نجاح الثورة في الإطاحة بحكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، إلا أن الدعم الذي قدمته إيران لجماعة الحوثي بالمال والسلاح نجح في إشعال معارك مدمرة وانقلابات عسكرية، أطاحت بأحلام الاستقرار، وأفشلت البلد وأدخلته في دوامة الحرب الأهلية.

في 25 مارس/آذار 2015، بدأت المملكة العربية السعودية عملياتها العسكرية في اليمن المعروفة بـ"عاصفة الحزم" في إطار التحالف العربي الذي قادته، للحد من سيطرة "الحوثي"على البلاد، ومنعهم من التقدم إلى مضيق عدن.

وهي عملية رغم تغير مسماها إلى "إعادة الأمل" المستمرة حتى الآن، لكنها خلفت آلاف القتلى وملايين النازحين، مع الفقر المدقع الذي ضرب اليمن طولا وعرضا.

وفي نهاية عام 2015 أعلنت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن ما يقرب من 2.5 مليون يمني فروا من مناطقهم إلى مناطق أخرى داخل البلاد.

وفي تقريرها السنوي للعام 2019، أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنه "لا تزال اليمن أسوأ أزمة إنسانية حول العالم، حيث يحتاج أكثر من 80% من السكان إلى شكل من أشكال المساعدة.

ويواجه 20 مليون يمنيا انعدام الأمن الغذائي ويحتاج 14 مليوناً منهم إلى تدخل إنساني عاجل"، وأضافت "من المُقدّر أن يكون عدد النازحين داخلياً في اليمن قد وصل إلى حوالي 4 ملايين بحلول نهاية عام 2019".

مفترق طرق

الدكتور "محمد غبور"، أستاذ العلوم الاجتماعية قال: "عندما نتحدث عن الربيع العربي قبل 10 أعوام، وعلاقته بفشل النظام العربي، نجد أن الثورات التي حدثت كانت في مفترق طرق، وأن فشل النظام العربي قبل ذلك بعقود، ومستمر حتى الآن، وإنما الانتفاضات والثورات موجة من الموجات".

وأضاف لـ"الاستقلال": "نكسة 5 يونيو/حزيران 1967. كانت أشبه بمسمار ضُرب في نعش القومية العربية، ومن هنا بدأت الفرقة تحدث رويدا رويدا، حتى كانت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والتي عقدها السادات منفردا دونا عن العرب، وتسبب في شرخ عظيم بجدار الوحدة العربية". 

وأردف: "ذلك النهج استمر عبر العديد من الاختبارات التي أظهرت باستمرار فشل النظام العربي كضامن للاستقرار، وملاذ للشعوب، ومن أبرز الأمثلة الغزو الإسرائيلي للبنان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية".

وتابع: "أضف لما سبق أيضا غزو العراق للكويت، ثم حرب الخليج الأولى، والغزو الأميركي للعراق، كل تلك الأحداث أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن المنظومة العربية هشة وغير قادرة على التحديات الجسام، وحماية الأمن القومي لشعوب العرب قاطبة".

"غبور" قال: "هناك رابط عميق بين الشعوب العربية، فالثورة التي اشتعلت في تونس، وصلت إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن، ورغم أن الأسباب ظهرت حول فكرة الأزمات الاقتصادية والفقر والأوضاع الحقوية، لكن الغياب الحقيقي لدور الدول والحكومات والمنظومة ككل ساهم في إسقاط الأنظمة".

مضيفا: "ورغم الترويج بفشل الثورات وصعوبة تكرارها، لكننا رأينا الموجة الثانية في السودان والجزائر، وربما تمتد لدول أخرى مستقبلا، وقد تعاد الكرة في الدول الأولى، وتشتعل الثورات من جديد، فالأسباب قائمة والأوضاع ليست مبشرة".

أستاذ العلوم الاجتماعية المصري يرى أن: "هناك فارقا كبيرا بين كيان موحد مثل الاتحاد الأوروبي، الذي قطع أشواطا طويلة من التعاون والتعاضد على المستوى الإنساني والاقتصادي، وأزال قدرا من الحدود الاجتماعية والثقافية فيما بين أعضائه، وبين اتحاد عربي على شكل جامعة الدول العربية".

وختم "غبور" حديثه بالقول: "العرب في حاجة إلى إصلاح منظومتهم الداخلية، وإلى مشروع كبير يجمعهم على غرار أحلام الوحدة العربية الأولى، حتى يتجاوزوا فشل وإخفاق النظام العربي القائم بشكل شامل ومتعدد الأوجه منذ سنوات".