استغلت الوضع الصحي لتبون.. كيف سعت فرنسا لاسترجاع نفوذها في الجزائر؟
طالب نواب في البرلمان الجزائري "الحكومة" باتخاذ موقف رسمي من تحركات السفير الفرنسي الجديد "فرانسوا غويات"، الذي أجرى عددا من اللقاءات مع مسؤولين في البلاد وُصفت بـ"المشبوهة"، وبأنها "انتهاك صارخ للسيادة الوطنية".
صحف جزائرية نقلت، وجود استياء رسمي من تحركات السفير الذي عقد لقاءات مع وسائل إعلام وسياسيين مروجا لمشروع "المرحلة الانتقالية"، الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في حواره مع مجلة "جون أفريك"، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2020.
"ماكرون" قال في الحوار: إنه "يدعم الرئيس تبون، في قيادة مرحلة انتقالية لمساعدة البلاد في تجاوز أزمتها السياسية"، وتلا تصريحه تحركات السفير، ما جعل الكثيرين يشككون في حسن نية النظام الفرنسي.
تحركات مشبوهة
الحديث عن مرحلة انتقالية في الجزائر يعود مع كل أزمة سياسية، ومفاده حل كل المؤسسات المنتخبة، واستبدالها بمجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا، قبل الذهاب إلى انتخابات رئاسية ونيابية.
في 7 ديسمبر/كانون الأول 2020، نشر مرشح الرئاسة السابق "عبد القادر بن قرينة"، بيانا قال فيه: "منذ تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول قضايا وطنية داخلية، وهناك أصوات تتعالى من جديد تنادي بمرحلة انتقالية".
وحسب ابن قرينة فإنه "بغض النظر عن صحة الرئيس، فإننا نؤكد في حركة البناء الوطني (الحزب الذي يقوده)، بأننا دوما مع أي إجماع وطني للقوى التمثيلية للأمة الجزائرية".
وفي بيان عبر "فيسبوك"، نشره يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، انتقد كمال بن العربي، النائب عن حزب "جبهة التحرير الوطني" (الحزب الواحد سابقا)، تحركات السفير الفرنسي الأخيرة.
وأفاد ابن العربي قائلا: "لفت انتباهي حديث متكرر لوسائل الإعلام، نقلا عن جهات سياسية بوجود تحركات مشبوهة، ولقاءات سرية مع أطراف سياسية وإعلامية للسفير الفرنسي الجديد بالجزائر".
وتابع النائب، -الذي سبق واقترح مشروع قانون لتجريم الاستعمار-: "أطالب السلطات بما فيها وزير الخارجية، بالتدخل والتحقق من هذه المعلومات وتفاصيلها، لأن هذه القضية يجب أن لا تمر مرور الكرام، فالأمر يتعلق بسيادة الدولة الجزائرية غير القابلة للمساس".
وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، نشرت أميرة سليم، النائبة في البرلمان عن حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" (موال للسلطة)، بيانا عبر "فيسبوك"، أدانت فيه تحركات السفير الفرنسي.
وقالت النائبة: "السفير الفرنسي يستغل فراغ حياتنا السياسية، لنشر الفوضى والتحريض، لا للمرحلة الانتقالية مهما كان الثمن، والبرلمان سيقف له بالمرصاد".
وأضافت: أن السفير "يقوم باستقبال المروجين للمرحلة الانتقالية، في مقر سفارته تحت حجة دعم حق التعبير السياسي الحر، والدفاع عن حقوق الإنسان".
واعتبرت "أميرة سليم"، أن ما يقوم به السفير الفرنسي الجديد، هو "استغلال للمرحلة الحالية، التي بلغها صراع القوى السياسية"، قبل أن تشدد على أن الجزائر "لن تقبل نصائح أو توجيهات أحد".
وقالت النائبة: "السفير يجب أن يفهم أن الجزائر ليست من جمهوريات الموز، وأن الرد اللائق عليه، سيكون عبر المؤسسات الدستورية أيضا. أطالب باستدعاء السفير الفرنسي من قبل وزير الخارجية الجزائري (صبري بوقادوم) والاحتجاج على سلوكه غير المقبول".
"هدية مسمومة"
في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، نشر موقع "الميادين" خبرا، نقلا عن مصادر مطلعة، أفاد بأن السلطات الجزائرية تعتبر السفير الفرنسي الجديد بمثابة "هدية مسمومة" من الرئيس ماكرون، كما أنها تدرك جيدا "الدور التخريبي الذي لعبه السفير الفرنسي في الأزمة الليبية".
"فرانسوا غويات" وهو سفير سابق لدى السعودية وتونس والإمارات ودبلوماسي سابق في سوريا وليبيا، ومتقن للغة العربية، أثار الجدل في الجزائر بإعلانه أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية بالجزائر "فشلت"، بسبب ما وصفه بحضورها القوي في السوق.
كما عاد وأغضب الجزائريين حين تحدث عن "سوء فهم" لتصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص ملف الذاكرة مع الجزائر، ورفض ماكرون مسألة الاعتذار، قائلا: "نحن لا نستعمل مصطلح الاعتذار في محادثاتنا بل الاعتراف التاريخي".
وعن تصريحات "ماكرون" عن المرحلة الانتقالية قال السفير: "أعتقد أن الرئيس أسيء فهمه، وقوله: إن الرئيس تبون شجاع، معناه: أنه وصل مقاليد الحكم في وضع جدا معقد".
وأضاف: "أما دعمه (ماكرون) للمرحلة الانتقالية فيقصد بها الانتقال من مرحلة إلى أخرى دون إملاءات على أي جهة، ونحن بعيدون عن التدخل في الشأن الداخلي للجزائر".
غياب الرئيس
الأزمة الأخيرة زادت من تصاعد التوتر القائم بين البلدين، والذي تزامن مع بدء الحراك الشعبي في 2019، عندما طالب المحتجون بإنهاء التبعية لفرنسا، ومحاسبة كل من يخدم أجندتها من داخل السلطة.
لكن الأزمة اشتدت في الأيام الأخيرة، عندما اتهم وزير الاتصال "عمار بلحيمر" وعدة أحزاب جزائرية، فرنسا بالوقوف وراء لائحة الاتحاد الأوروبي التي تنتقد وضع حقوق الإنسان في الجزائر.
وقال بلحيمر، في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية: إن بلاده "تتعرض لوابل متدفق من الهجمات اللفظية من طرف فرنسا".
زاد الأمر سوءا، غياب الرئيس "عبد المجيد تبون" الموجود بألمانيا للعلاج منذ 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بعد إصابته بفيروس كورونا وفق الرئاسة، وكانت الرئاسة قد أعلنت نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أن هناك "جهات مغرضة تسعى لاستغلال غياب الرئيس تبون لإثارة البلبلة".
ومع الإعلان عن خبر عودة الرئيس من ألمانيا قريبا، عبرت وسائل إعلام عن نبض الشارع، وتحدثت عن تعديل حكومي، وضخ دماء جديدة في مراكز صنع القرار، معتبرة أن "الوضع يستدعي إجراء تغيير حكومي بعد عودة الرئيس من ألمانيا".
ورأى مراقبون أنه من الأهمية إعادة تشكيل حكومة توافُق نظرا لوجود وجوه استفزازية في الحكومة الحالية ساهمت في تنفير المواطن بتصريحات غير مسؤولة.
وذهب آخرون إلى وصف كل هذه الانتظارات التي يعلقها الجزائريون على عودة تبون، بـ"الفرصة التاريخية" التي ستتاح للرئيس لإعادة تصحيح المسار واسترجاع ثقة الشارع، الذي يعتبر المسؤولين الحاليين وجها جديدا للسلطة.
"إصلاحية دستورية"
الأستاذ بقسم العلوم السياسية جامعة عنابة بالجزائر "مراد بن قيطة"، يعتقد أن الجزائر بالفعل تمر بمرحلة انتقالية، لكنها ذات طبيعة "إصلاحية - دستورية" بالأساس، تهدف من خلالها السلطة الجديدة لإعادة تجديد بنية النظام السياسي.
وقال ابن قيطة في حديث مع "الاستقلال": "رغم أن مساعي إعادة استخلاف مؤسسات النظام السابق من قبل الرئيس الجديد أخذت وتيرة متسارعة في البداية، لكنها تعطلت بشكل مفاجئ بفعل جائحة كورونا، وتعرضه لوعكة صحية مفاجئة".
أما المرحلة الانتقالية المنشودة من منظور فرنسي، والتي روج لها "ماكرون" وسفيره، يقول خبير العلاقات الدولية: فإنها "تتعدى مجرد عملية الدفع باتجاه انتقال دستوري سلس للسلطة، بل على العكس من ذلك، هي عملية مسيّرة وموجهة تهدف لإعادة هندسة الواقع السياسي الجزائري برمته، بما يخدم مصالحها، ويتيح لها مرة أخرى القدرة على التأثير في المراكز القرارية الفاعلة، والتحكم في التوازنات الداخلية".
يضيف ابن قيطة: "التصريحات والتحركات الفرنسية الأخيرة تحتمل تأويلات ودلالات عديدة، أهمها: أنها قد تكون مؤشرا على حالة فراغ معلوماتي لدى الفرنسيين، بخصوص حقيقة الوضع الصحي للرئيس تبون، خاصة وأن هذا الأخير وبخلاف سابقه فضل الذهاب لألمانيا لتلقي العلاج، بعيدا عن المستشفيات والمصحات الفرنسية المخترقة من أجهزة الاستعلام والاستخبارات الفرنسية".
وفي هذا الإطار، يزيد المتحدث: "قد تكون حالة الغموض التي اكتنفت الوضع الصحي للرئيس تبون، سببا في تحرك الطرف الفرنسي باتجاه استثارة السلطة في الجزائر، للكشف عن الوضعية الصحية للرئيس، ومساومة السلطة بفكرة المرحلة الانتقالية، في مقابل قبولها بالوضع الخاص للمصالح الفرنسية في الجزائر".
واستطرد أستاذ العلوم السياسية، قائلا: "قد تفهم تلك التصريحات والتحركات على أنها تعكس قناعة فرنسية، بأن الحالة الصحية للرئيس تبون لن تسمح له باستكمال عهدته الرئاسية".
مضيفا: "وبالتالي يكون الطرف الفرنسي قد بعث برسائل مشفرة لصناع القرار في الجزائر، بأن هنالك استعدادا فرنسيا لمرافقة السلطة في هذا الخيار، وتوفير التغطية الدبلوماسية اللازمة في الخارج، مقابل التراجع عن بعض السياسات التي أثرت على وضع مصالحها الخاص بالجزائر".
استرجاع النفوذ
قال ابن قيطة: "إن الخبرة التاريخية فيما يتعلق بتعاطي فرنسا مع مستعمراتها السابقة، تحيل إلى أن المراحل الانتقالية شكلت ولا زالت رافدا مهما، تعمل من خلاله باريس لإعادة استرجاع نفوذها ومصالحها في البلدان التي تشهد تحولات سياسية واجتماعية غير مرغوب فيها".
وتابع مشددا: "لطالما شكلت هذه المراحل بطبيعتها فرصة سانحة لباريس، لترميم نفوذها المتضرر وتصدع تحالفاتها مع القوى الموالية لها في تلك المستعمرات".
ومن المؤكد، بحسب المتحدث إلى "الاستقلال" أن هنالك عدم رضا فرنسي واضح حتى وإن لم يكن معلنا من تطورات الداخل الجزائري ومواقفها الإقليمية.
ورأى ابن قيطة، أن هذا هو الدافع الذي يجعلها تضغط باتجاه مسار انتقالي جديد، تستطيع من خلاله إعادة التموقع مجددا بعد أن تضررت مصالحها كثيرا، وفقدت أدواتها وتحالفاتها مع قوى كانت تتحكم بالشأن السياسي والاقتصادي والثقافي بالجزائر.
وفي هذا الإطار، يزيد المحلل: "يمكن فهم تحركات السفير الفرنسي الحالي، الذي يحاول إعادة إحياء أدوار بعض القوى التي تعتبر امتدادا للمصالح الثقافية والسياسية والاقتصادية الفرنسية بالجزائر".
أستاذ العلوم السياسية قال: "لا شك في أن غياب الرئيس فسح المجال نسبيا لعودة التحركات الفرنسية في الجزائر، لإعادة استقطاب بعض الأطراف المعروفة بولائها الثقافي والسياسي لباريس، وإعادة بناء شبكة علاقاتها وتحالفاتها مجددا، وهو ما عكسته بالفعل تحركات السفير الحالي، الذي يبدو أنه تلقى أوامر بضرورة الاستثمار في معطى غياب الرئيس بشكل سريع".
وأشار إلى أن الرئيس "تبون" لطالما عبر في مختلف تصريحاته ومواقفه بضرورة مراجعة العلاقات الفرنسية الجزائرية، وفق منطق جديد يستند على الندية وتقاسم المصالح.
ويعتقد ابن قيطة، أنه لا يمكن الحديث عن وجود مسؤولين في مختلف الأجهزة يدينون بالولاء لفرنسا خارج إطار مفاهيم التبعية والكولونيالية (الاستعمارية) الجديدة.
واستطرد قائلا: "الجزائر لا زالت كغيرها من المستعمرات الفرنسية السابقة، لم تقطع بشكل نهائي مع مختلف أنماط التبعية التي رسخها الاستعمار، ما زالت باريس تحظى بعلاقات سياسية وثقافية متميزة مع القوى الفرانكفونية، ولوبيات المصالح المرتبطة معها في الجزائر، حتى وإن خفت صوتها وتأثيرها نسبيا خلال السنة الفارطة".