بدعوى الإساءة للسيسي.. هكذا حذف النظام كلمة "بلحة" من التراث الفني
كعادتهم دوما في السخرية من حكامهم، أطلق مصريون على رئيس نظامهم عبد الفتاح السيسي، لفظ "بلحة"، لدرجة أن مجرد نطق الكلمة في أي مكان، أو كتابتها على محرك البحث الأشهر في العالم "جوجل" تخرج لك مباشرة صورة السيسي.
اللفظ الساخر أزعج السلطة بشكل كبير ما جعلها تنتفض وتسخر أجهزتها الأمنية ومؤسساتها الرقابية في مطاردة وحظر أي عمل فني يستخدم مصطلح "بلحة" أو حتى مجرد وجود كلمة "بلح" في ثنايا العمل.
أغنية محظورة
في 21 أغسطس/ آب 2020، فوجئ رواد عرض "مسرحية سيد درويش"، المقامة على مسرح البالون بالقاهرة، بمنع الرقابة لأغنية "يا بلح زغلول" ضمن أحداث المسرحية الاستعراضية، التي تحمل اسم الملحن الشهير سيد درويش، بلا سبب مفهوم.
لكن وفق متابعين، فإن سبب المنع هو ربط السلطات وأجهزة الرقابة بين كلمات الأغنية ولقب "بلحة" الذي يتندر به كثير من المصريين على السيسي.
"يا بلح زغلول"، أغنية عريقة في التراث الغنائي المصري تعود لنحو قرن كامل من الزمان، ومرتبطة بأحداث تتعلق بالنضال الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي.
والمشار إليه بـ"زغلول" في الأغنية، هو سعد زغلول باشا زعيم ثورة 1919، التي اندلعت قبل قرن واستمرت لسنوات، ضد الاحتلال الإنجليزي، وأطلق المصريون فيها تراث من الشعارات والنثريات والأغاني الوطنية، ومنها "يا بلح زغلول" حيث تحايل الموسيقار الراحل سيد درويش على ذكر اسم سعد زغلول صراحة، خوفا من سلطات المحتل البريطاني، وتغنى بواحد من أفضل أنواع البلح المصري المسمى "بلح زغلول".
ظل المصريون يرددون الأغنية لسنوات، وفي أوقات مختلفة كدلالة على الهوية الوطنية، وتذكرة بالثورة المصرية العريقة، التي كانت فارقة في مسيرة التحرر والاستقلال.
الناقد الفني المصري طارق الشناوي، وصف الحظر بأنه "عبث من المستحيل التجاوز عنه"، قائلا: "الرقابة تدخلت بعنف، وحذفت، أغان مثل (يا بلح زغلول) التى رددها الوجدان المصري فى تحديه لسلطة الاحتلال آنذاك".
وأضاف الشناوي في مقاله "أنين سيد درويش"، بصحيفة "المصري اليوم": "من الذي ينصب من نفسه رقيبا على تراث موسيقي ردده المصريون قبل نحو 100 عام أو أكثر، كيف يجرؤ على حذف أغنية لا تزال لها مساحة على خريطة الإذاعة والتليفزيون، وكل الفرق الموسيقية التراثية فى مصر تقدمها؟".
"بلحة" حبش
عداوة نظام السيسي للتراث الفني المتعلق بكلمة "بلحة" لم يقف عند المنع والحظر، بل وصل إلى درجة السجن والموت بداخله، وهو ما حدث مع المخرج المصري شادي حبش، الذي مات في زنزانته بسجن طرة جنوب القاهرة يوم 2 مايو/ أيار 2020.
موت حبش كان بمثابة الصدمة لكثيرين، فعمره لم يتجاوز 25 عاما (مواليد 21 أغسطس/آب 1995)، ومات داخل السجن، دون أن يعرف أحد ملابسات الوفاة، وهل كانت قتلا عمدا أم إهمالا طبيا؟.
أما التنكيل بحبش فجاء انتقاما بسبب أغنيته المصورة "بلحة"، التي ذاع صيتها، ولاقت صدى واسعا ومتابعة عالية على وسائل التواصل الاجتماعي داخل مصر وخارجها.
وفي مارس/ آذار 2018، أخرج الفنان الشاب الراحل شادي حبش أغنية "بلحة" التي أداها المغني رامي عصام، وسخرت من السيسي، بعدها مباشرة، تم القبض على حبش، في حملة اعتقالات طالت أيضا خبير مواقع التواصل الاجتماعي، مصطفى جمال، المسؤول عن صفحة رامي عصام على فيسبوك.
كما حكمت المحكمة العسكرية على كاتب الأغنية، جلال البحيري بالسجن 3 سنوات، بتهمة إهانة الجيش والرئيس.
تراث فني
السؤال الذي طرحه مراقبون عدة، إذا كانت الرقابة المصرية أقدمت على التعامل مع الأغنية التراثية "يا بلح زغلول" بالمنع، فكيف ستتعامل مع كم هائل من الأعمال السينمائية والغنائية التي كثيرا ما تردد فيها لفظ "بلحة" أو كلمة "بلح"؟.
أشهر تلك الأعمال الساخرة التي جاء فيها لفظ "بلحة" هو فيلم "الدنيا على جناح يمامة" عام 1989، بطولة الفنان الراحل محمود عبد العزيز، والفنانة ميرفت أمين.
أشهر لقطات الفيلم، عندما يتم القبض على البطل داخل مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، مشتبها فيه بأنه شخص مختل عقليا يدعى "بلحة" دائم الهرب من المستشفى.
فيما يعج التراث الغنائي المصري بالعديد من الأغاني التي تناولت "البلح" ومن أشهرهم أغنية "يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا" للمطربة الجزائرية وردة، من تأليف المؤلف المصري صالح جودت، وتلحين بليغ حمدي.
نتيجة معاكسة
الصحفي المصري عبد الرحمن الشرقاوي، قال لـ"الاستقلال": "حظر أغنية تراثية لها بعد وطني مثل (يا بلح زغلول) بحجة الإساءة للسيسي، حالة تمثل واقعا مريرا يعيشه المصريون".
متسائلا: "إلى أي درجة من السقوط وصلت حرية الرأي والتعبير في مصر؟، فنحن لا نتكلم عن نقد للنظام أو مهاجمته، لكن نتحدث عن تراث، ربما استخدمه البعض للتعبير عن موقفهم، أو السخرية من الحاكم وهذا أمر طبيعي، خاصة وأن الأغنية ليس فيها تعابير خادشة أو سباب واضح".
وأضاف الشرقاوي: "الحقيقة أن الرقابة تنشط بقوة لرصد وتتبع مثل هذه الحالات، فيما تغض الطرف عن المهازل التي تحدث في أغاني المهرجانات، والهجوم والتطاول على الرموز الدينية كما يحدث في بعض القنوات، من تناول مسيء للصحابة، ومنهم الذين يهاجمون التراث الإسلامي بشكل مستمر مثل إبراهيم عيسى، وإسلام البحيري، وغيرهم".
وتابع الصحفي المصري: "ومع ذلك فإن الأنظمة المستبدة والديكتاتورية تتميز بعدم الذكاء والحنكة في التعامل مع المواقف، وتظن أن المنع والحظر والقهر هو الحالة المثلى للتعامل مع الأمور، ما يأتي بردة فعل عكسية، فمنع أغنية (يا بلح زغلول) أضاف لها وضعا مختلفا، وستذكر في التاريخ على هذه الحالة، وسيكتب المؤرخون والنقاد أن نظام السيسي منعها لاعتقاده بأنها مسيئة له، وساخرة منه، ولو تركها لما حازت على هذا الزخم والتفاعل".
واستطرد: "التراث الفني والغنائي المصري فيه كثير من الأعمال التي ذكرت البلح، سواء بالسخرية، أو المدح ولا نعرف كيف يمكن لهذا النظام أن يتعامل معها؟ وأكثر من ذلك الأعمال القادمة، هل نحن بصدد منع استخدام مصطلح (البلح) في جميع الأعمال السينمائية والفنية، تحت حجة أن الأمر مسيء للرئيس!".