المصريون بكوا "آيا صوفيا" قديما.. ماذا تغير في عهد السيسي؟
"آيا صوفيا مسجلة كمسجد، في سندات الملكية التي تحمل اسم مؤسسة محمد الفاتح، وهو السلطان العثماني الذي كان قد ضم القسطنطينية إلى الدولة العثمانية، خلال القرن الخامس عشر". جاء هذا في حيثيات حكم المحكمة التركية بإعادة صرح "آيا صوفيا إلى مسجد مشيرة إلى أن هذا التصنيف غير قابل للتعديل.
ورغم أن ذلك الصرح تحول إلى متحف بعد إلغاء الخلافة العثمانية، في عهد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، لكن رمزيته والمطالبة بإعادته كمسجد ظلت حلما يراود الأتراك، إلى أن تحقق قبل أيام قليلة في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
وهو ما أحدث دويا واسعا في مختلف أنحاء العالم، ولكن ثمة اختلاف في مصر التي يشهد نظامها الحاكم بقيادة عبد الفتاح السيسي، عداوة شديدة مع تركيا بسبب موقف الأخيرة من الانقلاب العسكري.
ولذلك، شنت النخبة الإعلامية والسياسية المصرية، هجوما لاذعا على أردوغان بسبب "آيا صوفيا"، مغفلة مشاعر ملايين المصريين الذين أثلج صدورهم ذلك القرار، ومتجاوزين للتاريخ نفسه، عندما رثى شعراء مصر الأفذاذ على غرار أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، "آيا صوفيا" عندما حولت في زمانهم إلى متحف.
رثاء قديم
آيا صوفيا صرح عظيم شيد عند مدخل مضيق البوسفور، في قلب العاصمة التركية إسطنبول، التي كانت تعرف قديما بـ "القسطنطينية"، وتوج فيها الأباطرة البيزنطيون وحولت إلى مسجد بعد الفتح العثماني على يد السلطان محمد الفاتح في القرن التاسع الهجري، وتحديدا في عام 1453 ميلاديا.
وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1934، وبناء على تعليمات مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، أصدر مجلس الوزراء التركي القرار رقم 1589، القاضي بتحويل وضعية جامع "آيا صوفيا" التاريخي في مدينة إسطنبول، إلى متحف.
ذلك القرار في حينه مثل ضربة قاصمة للعالم الإسلامي، وتحديدا في مصر قلب العروبة النابض، التي خرج شعراؤها وأدباؤها ينعون "آيا صوفيا" الجامع العريق، ويكتبون فيه المآثر والمآسي.
وكان على رأس الشعراء الذين انتفضوا لما حل بـ "آيا صوفيا" أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي قال:
كنيسة صارت إلى مسجد.. هدية السيد للسيد
كانت لعيسى حرمًا فانتهت.. بنصرة الروح إلى أحمد
أما الرثاء الطويل والحزن العميق، فكان من نصيب شاعر النيل حافظ إبراهيم، الذي كتب قصيدة مؤثرة قال فيها:
آيا صوفِيا حانَ التَفَرُّقُ فَاِذكُري.. عُهودَ كِرامٍ فيكِ صَلّوا وَسَلَّموا
إذا عُدتِ يَوما لِلصَليبِ وَأَهلِهِ.. وَحَلّى نَواحيكِ المَسيحُ وَمَريَمُ
وَدُقَّت نَواقيسٌ وَقامَ مُزَمِّرٌ.. مِنَ الرومِ في مِحرابِهِ يَتَرَنَّمُ
فَلا تُنكِري عَهدَ المَآذِنِ إِنَّهُ.. عَلى اللَهِ مِن عَهدِ النَواقيسِ أَكرَمُ
روابط البلدين
وفي هذا الإطار يقول الأستاذ بجامعة الأزهر محمد أبو زيد: إن "مصر لم تنفك عن تركيا على مدار التاريخ الإسلامي الحديث، ومثل سقوط الخلافة العثمانية، والتحولات التي تمت في إسطنبول، وعلى رأسها تغيير (آيا صوفيا) من مسجد إلى متحف، صدمة هائلة في الوعي المصري، وانتفض العلماء والشعراء، ورجال الدين وعلى رأسهم الأزهر ضد هذه الإجراءات التي حاولت أن تسلخ تركيا من هويتها الإسلامية".
وأضاف لـ"الاستقلال": أن "الأمم قد تغفل أو تضعف، ولكن لا تموت، ويأتي وقت من الزمن ويتم إحياؤها، وعودتها إلى جذورها مرة أخرى، وهو ما يحدث حاليا مع تركيا، لذلك فإن حركة التغيير القائمة هناك طبيعية، وفي المسار الصحيح، فالدولة التي كانت تتسول اعتراف أوروبا ورضاء الغرب، لم تعد كما كانت، وأصبحت تملك قرارها".
وذكر أنه "لا يجب أن تطغى الخلافات السياسية على مشاعر المسلمين في العالم ومصر تحديدا، من حدث جلل كعودة آيا صوفيا إلى جامع، وهو أمانة السلطان محمد الفاتح التي أضيعت بقصد".
وشدد: "هناك علماء ودعاة يحاولون أن يصيغوا الفتاوى وفق رؤية النظام السياسي، وهذا لا يستقيم مع الشريعة، فالقسطنطينية التي فتحت حربا، وبعد معارك هائلة مع البيزنطيين، كان يحق لمحمد الفاتح أن يحول كنيستها إلى جامع وفق الشريعة، خاصة وأن الفاتح كان في زمرته فقهاء من كبار علماء الأمة عبر تاريخها، وليس في زمانه فقط".
ومن هؤلاء معلمه آق شمس الدين، فقيه زمانه وحجة عصره، وكذلك محمد بن إسماعيل الكوراني، الذي يعرف في التاريخ بـ"الملا الكوراني"، وغيرهم، وفق ما يقول أبو زيد.
ويتابع: "لذلك فلم يكن قرار الفاتح نفسه بمعزل عن الشريعة الإسلامية، خاصة وأن تلك العملية، جاءت بعد أن تحولت مساجد كبرى في تاريخنا إلى كنائس، وعلى رأسهم جامع قرطبة العظيم، الذي كان يفوق في زمانه حجم المسجد النبوي، والحرام، والأقصى، مجتمعين".
عداء مستحكم
استخدم النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، النخبة السياسية المؤيدة له، في الهجوم على إعادة "آيا صوفيا" إلى مسجد مرة أخرى، ولم يكتف بهم، بل وصل الأمر إلى مؤسسات الدولة الدينية.
وفي 11 يوليو/ تموز 2020، اعتبر إبراهيم نجم، مستشار مفتي الجمهورية، أن "قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تحويل معلم آيا صوفيا التاريخي في إسطنبول إلى مسجد لعبة سياسية خطيرة".
وذكر في في حديث لوكالة تاس الروسية، أن "تحويل آيا صوفيا إلى مسجد إجراء يجب النظر به في سياق الهدف السياسي الذي حدده أردوغان".
وسلك نفس المسار سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والمقرب من النظام المصري، الذي قال: إن "قرار أردوغان هو أمر مسيء للمسلمين وللإسلام، ولا بد على كل مسلم أن يتبرأ من هذا الفعل، ولا بد أن يعرف الجميع أن هذا هو حكم الإخوان"، وفق تعبيره.
وهذا التلبيس الواضح، يتعمد الإعلام المصري صياغته دائما، بأن يقرن بين جماعة الإخوان المسلمين والرئيس أردوغان، مؤسس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
وقد غرد رجل الأعمال المصري المسيحي نجيب ساويرس عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" معلقا على الحدث، وموجها خطابه للرئيس التركي، قائلا: "نبارك لك عداوة مسيحي العالم كله".
نبارك لك عداوة مسيحي العالم كله ������ https://t.co/wuDtKdmgnQ
— Naguib Sawiris (@NaguibSawiris) July 10, 2020
فيما حملت الصحف الرسمية التابعة للنظام المصري، مثل "اليوم السابع - المصري اليوم - الوطن.. وغيرها" حملة هجوم شرسة على قرار المحكمة التركية، وعلى أردوغان، في معرض المكايدة المستمرة لتركيا.
وتعليقا على رأي الإفتاء المصرية، وسعد الدين الهلالي، كتب الداعية الإسلامي عصام تليمة، على صفحته الشخصية بموقع "فيسبوك" قائلا: "كتب الشيخ الغزالي رحمه الله كتابه: (كفاح دين) سنة 1962، وتعرض للمصادرة، ثم التحقيق معه، لأنه ذكر فيه تفاصيل مساجد حولها حكم العسكر لخرابات، ومقالب زبالة، وهدم 14 مسجدا في القاهرة الكبرى فقط، بحجة تجميل القاهرة، ولم يتم بناء أي مساجد بديلة!".
وتابع: "كان مرجع الغزالي في المعلومات هو إحصاءات بلدية القاهرة، يعني معلومات رسمية. ونفس الأمر حدث في عهد مبارك، والسيسي، ثم يخرج لك سعد الهلالي وأمثاله من مشايخ (الغبرة)، ليتحدث عن الصلاة في مسجد آيا صوفيا لا تجوز شرعا!".
ما وراء الكراهية
مهاجمة النظام المصري وأذرعه الإعلامية والسياسية، لتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد مرة أخرى، نابعة من خلافات أعمق بين النظامين المصري والتركي، تعود إلى ما بعد الانقلاب العسكري في مصر يوم 3 يوليو/ تموز 2013، حيث اتخذت أنقرة موقفا مناهضا، ورفضت الاعتراف بالسيسي كرئيس، ومن وقتها بدأت مواجهات شرسة لا تتوقف بين الجانبين.
ففي 26 فبراير/ شباط 2020، نشرت مجلة "إنتليجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بالشؤون الاستخباراتية، تقريرها تحت عنوان "القاهرة تتخذ خطوات لتأسيس جبهة أمنية عربية لوقف طموحات أردوغان"، حيث أكدت المجلة الفرنسية أن "عباس كامل رئيس مخابرات السيسي، يحاول حشد الأنظمة العربية، لمعاداة تركيا، ووقف تطلعاتها، وتمددها في المنطقة".
ونشرت صحيفة "العرب" القطرية في 20 فبراير/ شباط 2020 تقريرا بعنوان "عباس كامل يقود تنسيقا أمنيا مصريا لمواجهة التمدد التركي"، ذكرت من خلاله عبر مصادر أمنية، معلومات تفصيلية عن لقاءات عباس كامل ببعض رؤساء أجهزة المخابرات العربية، وما كشفه لهم من معلومات، ومتطلباته المستقبلية، لمواجهة ما أطلق عليه النفوذ التركي في المنطقة.
ولعل من الأسباب الوجيهة للحملة المصرية في قضية "آيا صوفيا" هو تحويل وجه شرائح شعبوية مصرية، دائما ما تعقد مقارنات بين النظامين، خاصة وأن قضية المساجد في مصر، وهدمها وإهمالها، تواجه نظام السيسي دائما.
ففي يونيو/ حزيران 2014، وإبان تولي السيسي منصب الرئاسة، بلغ عدد المساجد والزوايا التي صدرت قرارات بإغلاقها في الإسكندرية وحدها 909 مساجد، وزوايا بدعوى مخالفتها الشروط والضوابط المنصوص عليها في القانون.
وفي مايو/أيار 2015 تعرضت 5 مساجد للهدم في محافظة شمال سيناء بإشراف مباشر من الجيش، هي "الوالدين"، و"الفتاح"، و"النصر"، و"قباء"، و"قمبز".
وفي يوليو/تموز 2016، وافق وزير الأوقاف محمد مختار جمعة على هدم 64 مسجدا على مستوى الجمهورية، لوقوعها ضمن نطاق توسعات هيئة السكك الحديدية، بينها 12 مسجدا في مركزي طلخا وشربين بمحافظة الدقهلية (شمالا).
وفي مارس/ آذار 2019، جرى هدم 8 مساجد في محافظة الإسكندرية وحدها، كان آخرها مسجد "الإخلاص" ، لينضم إلى مساجد "عزبة سلام"، و"فجر الإسلام"، و"التوحيد"، و"عثمان بن عفان"، و"نور الإسلام"، و"الحمد"، و"العوايد الكبير".
ويعد تقليص دور المساجد، من أبرز سياسات السيسي التي اتبعها لوأد النزعة الدينية في قلوب المصريين، فدائما ما تربط أذرعه الإعلامية بين المساجد والإرهاب.
المصادر
- رغم الفقر وكورونا وسد النهضة.. آيا صوفيا يشعل حربا مصرية على مواقع التواصل
- أول تعليق من «الإفتاء» على قرار أردوغان تحويل «آيا صوفيا» لمسجد
- مصر تعلق على قرار أردوغان تحويل آيا صوفيا لمسجد
- لماذا أثار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد كل هذا الجدل والانقسام؟
- آخرهم البابا فرانسيس.. قيادات دينية انتقدت تحويل آيا صوفيا لمسجد
- سعد الهلالى: تحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد أمر يسيئ لكل مسلم.. ويوجه رسالة للأتراك
- آيا صوفيا: قصة صرح يجسد تقلبات التاريخ