سحب القوات الأميركية من ألمانيا.. كيف يهدد أمن واشنطن القومي؟

محمود سامي | 4 years ago

12

طباعة

مشاركة

يتجاوز إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تقليص بلاده ثلث قواتها المنتشرة في ألمانيا، فكرة عقاب برلين، إذ إن الكثير من تفاصيل الخطة غير معلن ويشوبه غموض بشأن التدخلات العسكرية في مناطق عدة في العالم.

وتعتبر ألمانيا من ضمن الحلفاء الرئيسيين لحلف شمال الأطلسي "الناتو". وعلى مدار عام كامل وجه ترامب وسفير بلاده السابق لدى برلين ريتشارد غرينيل، انتقادات للدولة الأوروبية بسبب "عدم تخصيصها ما يكفي للإنفاق العسكري كحليف للناتو"، قبل أن يعلن الأول رسميا بخبر الانسحاب الجزئي".

وقال ترامب في 15 يونيو/ حزيران 2020: إن الولايات المتحدة ستقلص عدد قواتها المنتشرة في ألمانيا إلى 25 ألف جندي بحلول سبتمبر/ أيلول من نفس العام.

وأكد في تصريحات من البيت الأبيض ما كانت عدة وسائل إعلام قد سربته حول خفض عدد القوات الأميركية الموجودة في ألمانيا، مبينا أن نشر القوات في برلين يتم "بتكلفة باهظة على الولايات المتحدة".

الوجود العسكري

ويتمركز في ألمانيا نحو 34500 جندي أميركي، ويبلغ العدد الإجمالي نحو 50 ألفا مع حساب عدد الموظفين المدنيين الإداريين فيها.

ويتمثل الوجود العسكري الأميركي في ألمانيا، في قاعدة رامشتاين الجوية التي تعد واحدة من أهم المنشآت العسكرية لواشنطن، حيث تمثل مركز القيادة الخاص في أوروبا وإفريقيا.

وتستخدم هذه القاعدة في تنسيق غالبية عمليات الطائرات بدون طيار حول العالم، وهي لا تخدم القوات الجوية الأميركية وحلف الناتو فحسب، لكنها أيضا بوابة للعمليات العسكرية في كل أنحاء العالم.

وفي مدينة لاندشتول القريبة من قاعدة رامشتاين الجوية تدير القوات الأميركية مستشفى عسكريا كبيرا، كما توجد في مدينتي فيسبادن وشتوتغارت مراكز قيادة للتدخلات في إفريقيا وأوروبا.

وفي مدينة غرافينفور يوجد أكبر موقع تدريبات لحلف الناتو، كما يتمركز سرب طائرات F16 في راينداليم، وهذه الوحدات هي جزء من البنية الدفاعية لحلف الناتو في أوروبا. 

ونقل هذه المؤسسات أو سحبها هو حسب وجهة نظر خبراء عسكريين ممكن، لكنه مكلف جدا، وفق موقع دويتشه فيله الألماني.

ولا تزال تفاصيل كثيرة غير معلنة في الخطة، وتزداد المخاوف بأنها ستقلص من استعداد واشنطن التدخل عسكريا في مناطق عدة في العالم، وفي مشاركتها بـ"الناتو"، لتتجاوز هذه الخطوة فكرة عقاب ألمانيا على ترددها برفع ميزانيتها للإنفاق العسكري.

كما تتزامن مع ما أثير بشأن شروع واشنطن بخفض تكاليف عملياتها حول العالم، ومنها الانتشار البحري في مياه الخليج، والإعلان عن سحب بطاريات باتريوت المضادة للصواريخ من منشآت نفطية سعودية، إضافة إلى خطة انسحاب من قوة حفظ السلام بسيناء المصرية، بخلاف ما يتردد عن خفض القوات في منطقة المحيط الهادئ.

وتتمركز القوات الأميركية في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وشكلت نقطة منتصف بين قوات الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وبين موطنهم؛ لكنها اكتسبت أهمية جديدة في ضوء الطموحات العسكرية الروسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين.

وقوبلت خطة ترامب بمعارضة شرسة من الأعضاء الجمهوريين في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، الذين قالوا: إن الفكرة ستجعل تنفيذ المهام العسكرية الخارجية "أكثر صعوبة".

موقف ورد

وقال ترامب في ذات التصريحات: "نحن نحمي برلين وهي متأخرة عن السداد منذ سنوات وهي مدينة بمليارات الدولارات للناتو وعليهم أن يدفعوا"، واصفا ألمانيا بدولة "مقصرة". 

وتصاعد الخلاف بين برلين وواشنطن منذ تسلم ترامب السلطة في يناير/كانون ثاني 2017، بسبب مساهمة الدول الأعضاء في ميزانية حلف شمال الأطلسي.

وترى الولايات المتحدة أنها تساهم بالجانب الأكبر من هذه الميزانية، وتضغط على الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، لرفع إنفاقها إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2024، وهو هدف متفق عليه منذ سنوات في أروقة التحالف.

لكن برلين ترغب في رفع مساهمتها في ميزانية الحلف البالغة حاليا 1.16% من ناتجها المحلي الإجمالي، بشكل تدريجي، ولا تعلن خطة واضحة لتحقيق هدف "الناتو"، وهو ما يغضب الإدارة الأميركية بشدة.

وتتمحور مواقف الأحزاب السياسية الألمانية، ومن ضمنها الائتلاف الحاكم، حول رغبتها في عدم سحب واشنطن قواتها، كونه سيؤثر كثيرا على أمن برلين وأوروبا، ما عدا أحزاب اليسار واليمين أيضا التي تدعو إلى سحب القوات الأميركية ووضع حد لاستخدامها إلى قاعدة "رامشتاين".

ورفضت برلين الرسمية التصعيد الكلامي مع الإدارة الأميركية، محافظة على سياستها الخاصة في ملف الإنفاق على الدفاع والتجارة اللذين أعلن ترامب أنهما السبب في قراره.

وأكدت الحكومة الألمانية أن بقاء القوات الأميركية في البلاد يخدم حلف الناتو وبالتالي أمن الولايات المتحدة. 

وكان أكثر ما قيل ردا على تصريحات ترامب، تصريح اغريت كرامب كارنباور وزيرة الدفاع الحالية والمرشحة لخلافة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي أكدت أن الناتو ليس منظمة تجارية وأن الأمن ليس سلعة.

فيما أعلن منسق الحكومة الألمانية لشؤون العلاقات عبر الأطلسي بيتر باير -في وقت سابق- أن انسحابا محتملا للقوات الأميركية من الأراضي الألمانية "قد يلحق أضرارا بالغة بالعلاقات بين البلدين".

ومن جانبه، طالب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب "اليسار" الألماني، ديتمار بارتش، بأن تسحب الولايات المتحدة أيضا أسلحتها النووية من الأراضي الألمانية. 

نكاية سياسية

ترى تقارير صحفية غربية أن الخطة الأميركية بشأن ألمانيا تأتي فيما يشبه "النكاية السياسية" وأن العلاقات الألمانية مع روسيا أثرت سلبيا على علاقة برلين وواشنطن.

وما عزز ذلك ما أثير قبل أيام عن طرح قانون في مجلس الشيوخ الأميركي يسعى لتوسيع العقوبات على خط الغاز الروسي "نوردستريم"2 والذي يمس ألمانيا بدرجة كبيرة.

وتعارض الولايات المتحدة بشدة الخط الروسي الذي يمر عبر بولندا وأوكرانيا، لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وفرضت بالفعل عقوبات على الشركات العاملة في المشروع.

وترى واشنطن أن المشروع يقوي النفوذ الروسي في أوروبا، ويمنعها من بيع المنتجات البترولية الأميركية في القارة العجوز.

وبخلاف مخاوف النفوذ الروسي في أوروبا، تسبب الملف الإيراني في أزمة كبيرة في العلاقات منذ مايو/ أيار 2018، حين قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم في 2015، وضغط على الدول الأوروبية لاتخاذ نفس الخطوات.

لكن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قادت موقفا أوروبيا يرفض الانسحاب من الاتفاق، ويتمسك به، ويرفض أيضا العقوبات الأميركية على طهران والشركات والكيانات المتعاملة تجاريا معها.

بل سعت هذه الدول إلى التحايل على العقوبات الأميركية عبر نظام أوروبي للتعاملات المالية مع الدولة الآسيوية، وهو ما يغضب واشنطن بشدة.

وثمة نكاية أخرى ضمن خطة ترامب، تتمثل في شعوره بـ"الإهانة"؛ على إثر رفض ميركل المشاركة في قمة مجموعة السبع التي كان ترامب يعد لها.

وخلال الفترة الماضية، كان ترامب يخطط بقوة لعقد قمة مجموعة السبع في البيت الأبيض لإرسال رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة مصرة على المضي قدما رغم تفشي فيروس "كورونا" المستجد، وإعادة الحياة الطبيعية.

ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مصادر لم تسمها أن "ترامب شعر بالإهانة من موقف ميركل، كما أنه اضطر لتأجيل القمة إلى سبتمبر (أيلول) وخسر التأثير الانتخابي الذي يمكن أن تحدثه في الوقت الحالي".

وكان ترامب قد تحدث في الصيف الماضي عن نيته نقل قوات من ألمانيا إلى بولندا، مؤكدا للرئيس البولندي حينها بأن برلين ليست بمستوى ما يجب أن تفعله في حلف الناتو.

ويسعى الرئيس البولندي أندريه دودا لاستضافة بلاده لقوات أميركية، مقدما نحو ملياري دولار كمساهمة من بلاده لإنشاء قاعدة عسكرية للولايات المتحدة فيها.

وبحسب الخطة الحالية، فمن المتوقع نقل عدد من القوات الأميركية المتمركزة في ألمانيا إلى بولندا.

وفي المقابل، ترى موسكو أن بولندا بحد ذاتها لا تشكل تهديدا لروسيا، ولكن استعدادها لتوفير أراضيها لنشر قوات أجنبية "أمر خطير"، وفق المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، في حديث للقناة الروسية الأولى.

وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 19 يونيو/حزيران: إن نشاط الناتو في منطقة البلطيق وبولندا، "يحمل طابعا استفزازيا صريحا"، وفقا لموقع روسيا اليوم.

الناتو والعراقيل

وفي نفس التاريخ، نقلت تقارير صحافية ألمانية، أن عضوين بارزين في الحزب الديمقراطي تقدما بمشروع قانون أمام الكونغرس الأميركي لوقف قرار ترامب.

ونقلت صحيفة "شبيغل" على موقعها الإلكتروني أن السيناتور الديمقراطي، إليوت إنغيل، وزميله بوب مننديز تقدما معا بمقترح قانون بهذا الشأن، مشيرة إلى أن إنغيل وصف قرار ترامب سحب الجنود من ألمانيا بـ"الكارثي".

وقال: إن خفض عدد القوات هناك يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر، قبل أن يضيف: "قانوننا سيمنع الحكومة من تنفيذ هذه السياسة الكارثية". 

من جهته، اعتبر مننديز أن الولايات المتحدة تعتمد على ألمانيا كموقع مهم، يدعم المصالح القومية لبلاده في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.

ولم يخف القائد السابق للقوات البرية الأميركية في أوروبا الجنرال مارك هيرتلينغ، قلقه حيال مشروع خفض القوات. 

وكتب على تويتر "بما أنني شاركت إلى حد كبير في آخر عمليتي خفض بنيوي للجيش الأميركي في أوروبا، يمكنني الآن أن أقول ذلك علنا: إنه أمر خطير ويُظهر قصر نظر وسيُقابل برفض من الكونغرس".

وقد يواجه ترامب عراقيل "إذا ما طلب نقل الجنود بشكل تعسفي" بينها أن الانسحاب يكلف أموالا، في وقت يحظر القانون الأميركي استخدام أموال الدولة لخفض القوات في أوروبا من دون موافقة الكونغرس.

وبإمكان الكونغرس حجب الأموال بالاستناد لقانون يمنع الإنفاق على تحركات القوات الأميركية من ألمانيا ما لم يظهر الرئيس وقبل ستة أشهر أن هذه الخطورة لصالح الأمن القومي لبلاده.

في المقابل، يمكن للكونغرس أن يقرر ويطلب سحب القوات، أو أن تطلب ألمانيا من الولايات المتحدة القيام بذلك.