الذكرى التاسعة لشرارة الربيع العربي.. هذه إنجازات تونس وإخفاقاتها

12

طباعة

مشاركة

في نفس الشارع المقابل لمقر ولاية سيدي بوزيد (المحافظة) وسط تونس، يجتمع الآلاف من أبناء المدينة وزوارها، لكن هذه المرة لإحياء ذكرى 9 سنوات على إقدام الشاب العشريني محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده، احتجاجا على وضعه الاجتماعي الذي يعيشه وكثير من أبناء جيله في تونس.

الحادثة قلبت الموازين في المنطقة العربية، وغيّرت مسار التاريخ فيها لتحوّل سكون شتاء أنظمة قمعية، إلى ربيع الشعوب الطامحة للتحرر والسيادة والاستقلال، حيث لم تتوقف صرخة "الشعب يريد" في العام 2010، ولم تحبسها الحدود في تونس فقط، بل لا يزال صداها متكررا إلى الآن في شوارع بيروت وبغداد والجزائر، ومبشرا بعهد جديد لشعوب الأمة العربية.

ما زال التوانسة كما العرب يحتفظون بذاكرة الثورة، فخورين بما أنجزوه في شتاء العام 2011، حين أجبروا الرئيس الراحل زين العابدين بن علي على مغادرة البلاد، فارا من شعبه، وعلى الرغم من عدم تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ومواصلة التونسيين رفعهم لنفس المطالب، لكنهم يرون أن الوضع لا يمكن مقارنته بما كان عليه في السابق.

احتفاء بالثورة

وشهدت مدينة سيدي بوزيد أنشطة بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، وقد أقر منذ سنوات هذا اليوم كعطلة في الولاية.

إلا أن احتفال هذا العام، شهد غياب رئيسي الحكومة والبرلمان، وحضور متأخر لرئيس الجمهورية قيس سعيد، ما أثار غضب واستنكار عدد كبير من أهالي المدينة، وعائلات الشهداء والجرحى، خاصة وأنهم يعتبرون أن الرئيس الجديد قيس سعيّد وصل إلى كرسي قرطاج بسبب رفعه لنفس شعارات الثورة والانتساب لها. 

وعبر يوسف الجلالي الناطق الرسمي باسم هيئة المهرجان عن الغضب والاستياء في صفوف أبناء سيدي بوزيد من غياب الرؤساء الثلاثة عن حضور ومواكبة إحياء الذكرى التاسعة، مبينا أن شعارات الثورة هي "كذبة كبرى" في نظر البعض.

وأضاف الجلالي في ندوة صحفية أن غياب الرؤساء الثلاثة سيزيدهم انتصارا وعزيمة لمواصلة المسار الثوري، مبينا أنهم كانوا  ينتظرون على الأقل حضور رئيس الجمهورية الذي وجهت له دعوة رسمية.

في الأثناء، تتواصل الدعوات لاعتبار 17 ديسمبر/كانون الأول يوم عطلة وطني على غرار 14 يناير/كانون الثاني، حيث دعا الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي إلى اعتبار هذا  اليوم عطلة بكامل جهات البلاد وليس بسيدي بوزيد فقط، مشيرا إلى أن هذه الولاية تعتبر مهد الثورة التونسية وبفضلها أصبح من صمتوا في السابق يتكلمون اليوم.

نقائص عديدة

لا يزال حلم أهالي سيدي بوزيد على المستوى التنموي مستمرا بعد كل هذه السنوات من الثورة، فالولاية لم تشهد نقلة نوعية كما كان ينتظرها الشعب.

على العكس، فإن الأمور الاجتماعية والاقتصادية زادت سوءا، فالولاية وفق أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحتل المرتبة الثانية من بين الولايات الأكثر غضبا بعد ولاية القيروان خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2019 والمرتبة الثالثة من حيث عدد الاحتجاجات الجماعية.

وكان أول الشعارات التي رفعت أثناء اندلاع الثورة "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، احتجاجا على فشل النظام التونسي في إيجاد حلول لمئات الآلاف من العاطلين عن العمل في البلاد، على الرغم من حيازة عدد كبير منهم على شهادات جامعية، إلا أن الوضع بعد 9 سنوات لم يتغير  كثيرا.

وأفاد المعهد الوطني للإحصاء، في مسح خاص بالتشغيل نشره في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أن نسبة البطالة في تونس بلغت خلال الثلث الثالث من العام الجاري 15,1 % ليبلغ عدد العاطلين عن العمل 628,3 ألف شخص.

كما ارتفعت نسبة البطالة لدى حاملي الشهادات العليا خلال الثلث الثالث من العام الجاري إلى 28,6% ليصل عددهم إلى 262,700 عاطل عن العامل.

إضافة إلى عدد من المشاكل الأخرى التي تعيشها البلاد من عجز في الميزان التجاري، وتراجع في مؤشرات التنمية وبروز عدد من الأزمات في البنية التحتية وقطاعات النقل والصحة.

إلا أن هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لا يخفي المنجز السياسي الذي حققته تونس خلال هذه السنوات، بنجاح تجربتها في الانتقال الديمقراطي وتثبيت مكتسبات الثورة في حرية التعبير والإعلام.

ثورة كرامة 

منذ اليوم الأوّل للثورة، تلازمت المطالب الاجتماعية مع السياسية، حيث رفع التونسيون شعارات تطالب بتحقيق الحرية والديمقراطية، كان أبرزها "خبز وماء وبن علي لا"، تأكيدا على قابليتهم للتضحية من أجل إسقاط الديكتاتورية وإنهاء نظام الحكم البوليسي الذي استمر لعقود بعد الاستقلال.

لذلك لم يتوقف حراك التوانسة بعد فرار المخلوع زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، حيث استمرت التحركات والاعتصامات في القصبة الأولى والثانية، إلى حين تحقيق مطالبهم في حل الحزب الحاكم والبرلمان وتعطيل العمل بالدستور، والإعلان عن انتخابات مجلس وطني تأسيسي من أجل سن دستور جديد للبلاد تحت إشراف هيئة مستقلة للانتخابات.


ونجح التوانسة خلال هذه السنوات التسع بتنظيم 3 انتخابات تشريعية، وتداول 4 رؤساء رئاسة البلاد 2 منهم بعد انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة باعتراف جميع المنافسين والمراقبين الدوليين. 

كما نجحوا في تركيز السلطات المحلية في البلاد، بانتخاب قرابة 360 بلدية في كامل البلاد شهدت منافسة عشرات الآلاف من المترشحين. 

وتصدرت تونس قائمة البلدان العربية في مؤشر الحريات لعام 2019 وفق التقرير السنوي لمنظمة "فريدوم هاوس" الأمريكية، وذلك بـ 69 نقطة من أصل 100.

وواصلت تونس تصدر قائمة الدول العربية في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2019، حسب منظمة مراسلون بلاحدود، وحققت هذا العام قفزة ملحوظة حيت تقدمت بـ 25 مركزا لتحتل المركز الـ 72. وجاء ترتيب الدول العربية على اللائحة، التي ضمت 180 بلدا.

ويرى المؤيدون للثورة التونسية وكل ما تلاها، أن صمود الحالة التونسية في حد ذاته، في وقت فشلت فيه جل تجارب "الربيع العربي"، يعد انتصارا، وهم يعتبرون أن قوى الثورة المضادة تكاتفت بكل قوة من أجل إفشال المرحلة الانتقالية التي تلت الثورة في تونس، وأن ما تمر به البلاد من وضع اقتصادي واجتماعي هو شيء طبيعي، ويحدث في أعقاب كل الثورات.

ويعتقد الصحفي التونسي سلمان زكري أنّ التجربة التونسية رغم وضعها حجر أساس الديمقراطية بإرساء الانتخابات الخامسة منذ الثورة إلا أنها لا تزال في صراع حقيقي مع الثورة المضادة التي قد تتجلى في أشكال متعددة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وأضاف في حديث لـ"الاستقلال": "داخليا، تتسرب الثورة المضادة من خلال ضعف النخبة السياسية الحاكمة بمختلف تياراتها منذ 2011، ما جعل الدولة عاجزة عن وضع حد للفساد المستشري".

ويتابع: "رغم تفكك منظومة النظام القديم سياسيا، فإن نفوذ الدولة العميقة لا يزال ملموسا لدى الرأي العام خاصة بعدم فتح ملفات فساد كبرى يتحكم فيها قلة من النافذين في البلاد على رأسها ملفات الطاقة والتوريد والتصدير، فضلا عن التدخل الأجنبي ولعل آخر المستجدات هو ما كُشف مؤخرا من تحكم أجنبي عبر لجنة فرنسية أوروبية في البنك المركزي والسياسات الاقتصادية في البلاد".

واعتبر زكري أن كل هذا تتحمل مسؤوليته أطر الدولة التي بقيت منشغلة في المناكفات السياسية بين الأحزاب وعاجزة عن حل أبسط مشكلات المواطن التونسي.

كما يرى الصحفي أن تونس لا تزال منفردة بتجربتها في الربيع العربي بين باقي الدول العربية، إلا أن وجودها بين ثلاثي عربي (ليبيا الجزائر مصر) والتي خاضت شعوبها ثورات وتحركات ضد السلطة وانتهت إلى نتيجة غير مأمولة، إما بحكم العسكر أو تقاتل داخلي، يؤكد أنها تقع في وسط جغرافيا سياسية ساخنة وصعبة.

وبين أن الثورة المضادة التي تقودها بعض الدول الأجنبية تستهدف تونس كما استهدفت جيرانها، "ولعل المخطط الذي يهدف إلى سيطرة اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس سيكون من أخطر ما يهدد تونس على حدودها في صورة ما حصل".