بين تونس و"نبع السلام".. المفتاح فلسطين

12

طباعة

مشاركة

لا يكاد يختلف عاقلان أن أجندة دولة الاحتلال الإسرائيلي فيما يتعلق بتعاملها مع الشعوب العربية تقوم على إغفال وجود قضية فلسطينية أصلا، وهذا الكلام تندرج تحته كافة الرسائل الإعلامية الإسرائيلية في الإعلام العربي، ابتداء من التركيز على المشاكل والحروب الداخلية في العالم العربي وإبرازها بما يغطي على القضية الفلسطينية، وليس انتهاء بالإعلانات المتكررة عن وقوف عدد من الأنظمة العربية إلى جانب دولة الاحتلال وتحولها إلى صفها ومحاولة إبراز بعض الإعلاميين المغمورين في هذا الجانب.

لكن تأبى الرياح أن تأتي دائما بما تشتهيه السفينة الإعلامية الإسرائيلية، فكلما حصل حدث كبير في العالم العربي قفزت القضية الفلسطينية لتتصدر المشهد وتعود إلى مكانتها الطبيعية.

كانت الكلمة التي ختم بها الرئيس التونسي المنتخب د. قيس سعيّد خطابه الأول بعد نجاحه في الانتخابات التونسية لافتة من حيث تأكيده أكثر من مرة على ذكر اسم "فلسطين"، ولعل هذا ما جعل عددا من وسائل الإعلام الإسرائيلية وما شابهها من بعض وسائل الإعلام العربية تبدأ حفلة لطميات وبكائيات وردح على "السلام" الذي سيضيع وينتهي بسبب عدم قبول الشعوب العربية بإسرائيل جارا "طبيعيا" في المنطقة.

ما جعل هذه الجهات تتباكى على تونس يرجع إلى أن فوز سعيّد جاء بشكل كاسح حقيقي وشفاف، وبمشاركة أكثر من 60% من الناخبين التونسيين، وهي نسبة مرتفعة جدا مقارنة بما سبقها من انتخابات في البلاد، كما أن النسبة الممنوحة له تجاوزت 75% من الأصوات، وهو ما يوضح أن الرجل لم يأت من خارج المزاج الشعبي التونسي، وإنما جاء معبرا عن ما يريده الشباب التونسي حقيقة، وكانت إحدى اللحظات الفارقة في مناظرته الناجحة أمام منافسه نبيل القروي هي اعتباره التطبيع مع إسرائيل "خيانة عظمى" هكذا وبكل وضوح.

ولعل هذه النقطة تبقى إحدى أكثر النقاط التي ركز عليها الإعلام العربي والعالمي في تلك المناظرة. هذا يعني في الحقيقة أن المفتاح الأساسي في هذه المعادلة هي القضية الفلسطينية والموقف منها، وكان من الواضح أن سعيّد يفهم هذه المعادلة، ولذلك، وفي لحظة مؤثرة من خطاب انتصاره، أبدى أمنيته بوجود العلم الفلسطيني إلى جانب العلم التونسي.

يأتي ذلك مع استذكار الشعب المصري بالذات مشهد الرئيس الشهيد د. محمد مرسي الذي كان الرئيس المصري المدني الوحيد المنتخب شعبيا، حيث كان المتعارف عليه شعبيا – ولا يزال– أن الانقلاب على مرسي لم يكن لأي سبب أكثر من كونه كان يشكل خطرا على إسرائيل، وأنه وقف إلى جانب الفلسطينيين في حرب غزة الثانية عام 2012، وأنه لم يذكر كلمة "إسرائيل" في أي خطاب له مطلقا منذ اللحظة الأولى التي ترشح فيها للرئاسة حتى الانقلاب عليه، ففلسطين في هذه المعادلة كانت الأساس.

هذا يعني أن القضية الفلسطينية لا تزال تعتبر مفتاحا أساسيا لدى الشعوب العربية التي أطلقت شرارة ثوراتها من تونس، وهو ما يعني أن هذه القضية لم تفقد وهجها بعد برغم محاولات الاحتلال وذبابه الإلكتروني التظاهر بأنها قضية أصبحت في حكم المنتهية.

يشهد لهذا الأمر كذلك الأحداث التي تدور اليوم في شمال سوريا، خلال عملية "نبع السلام" التركية، حيث أن دخول دولة الاحتلال الإسرائيلي على الخط إلى جانب الجماعات الكردية المسلحة (PYD/PKK) التي لا تخفي في الحقيقة تعاطفها مع إسرائيل ومحاولتها استعطاف الطرف الإسرائيلي واعتبار نفسها صاحبة "مظلومية" عنوانها البحث عن دولة، وهي عين الفكرة التي كانت الحركة الصهيونية تدور في فلكها في سعيها لإنشاء دولة الاحتلال في أرض فلسطين.

نفس النقطة تستفيد منها الآلة الإعلامية التركية في إظهار طبيعة الجهات التي تقاتلها في عملية "نبع السلام"، فصورة الجندي التركي وهو يدوس العلم الإسرائيلي لدى اقتحام أحد مقرات هذه الجماعات خلال العملية كان تسريبها للإعلام مقصودا، إذ شكلت إشارة واضحة من قبل الإعلام التركي إلى أن الجماعات الكردية المسلحة التي تقاتل الجمهورية التركية ليست ضحية، وإنما تحمل نفس فكرة المؤامرة التي أنتجت دولة الاحتلال الإسرائيلي وأدت إلى تشريد الشعب الفلسطيني على مدار عقود لم تنته إلى الآن.

المحصلة هنا: أن الدولة التركية تحاول حسب هذه الرؤية منع إقامة "إسرائيل" ثانية على حدودها مع سوريا، وفي المقابل فإن الجماعات الكردية المسلحة تريد إقامة مثل هذا الكيان الذي سينتج عنه مصائب ونكبات مشابهة لما حدث في الحالة الفلسطينية.

وضمن هذه الفلسفة، فإن المعركة ليست بين تركيا وجماعات إرهابية كردية فحسب، وإنما هي حرب استباقية تحاول منع تكرار المأساة الفلسطينية، ومن هنا اكتسبت تركيا التعاطف الشعبي العربي المخالف تماما للتوجه الرسمي الذي أبرزه البيان البائس، الذي أعلنه بعض وزراء الخارجية العرب في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية الميتة سريريا.

وبالتالي، فإن القضية الفلسطينية تقفز مرة أخرى إلى الواجهة لتصبح المعيار الذي تقاس به العدالة والظلم، والحق والباطل، والخير والشر، وهو ما يبين مرة أخرى مركزية هذه القضية، وأنها ليست قضية قابلة للنسيان مطلقا، بالرغم من محاولات دولة الاحتلال الجاهدة للقضاء عليها في الذهن العربي والمسلم، ولا أظنها ستنجح في ذلك يوما.