أردوغان يفضلها.. هل تقود إستراتيجية "التحدي" تركيا للانتصار؟
في السياسة الدولية يعد مبدأ "الرد بالمثل" وسيلة قهرية لإجبار دولة على احترام سيادة دولة أخرى، واحترام القانون الدولي الذي ينظم العلاقات بينهما، والتعهدات والاتفاقات المشتركة، واحترام رعايا الدولة في بلد آخر، وتقديم تعويض في حال لحق ضرر بالدولة المعتدى عليها.
وبالقدر الذي يدل مبدأ "الرد بالمثل" على تساوي (الفعل ورد الفعل) في الحجم والنوع، فإنه يشير أيضا إلى الرغبة في إيجاد نوع من التوازن والتكافؤ في سياق العلاقات بين الدولتين.
الدبلوماسية التركية فعّلت هذا المبدأ بشكل واضح ومتكرر، خلال الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعرضت لها في العقد الأخير، على وجه الخصوص، وارتبط مبدأ "الرد بالمثل"، بما يحمله من مفهوم التحدي، وعدم الانصياع، بشخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
مرارا ما أكد الرئيس التركي أنه لن يتوانى عن اتخاذ سياسة الرد بالمثل، لكل من يحاول أن ينال من سيادة أو استقرار الأراضي التركية، وفي حين اعتبر البعض ذلك مغامرة وتهورا، وسببا للأزمات الاقتصادية المتلاحقة، رأى آخرون أنه مبدأ فاعل ينسجم مع مفهوم توازن القوى، وقادر على تحقيق المصلحة، والدفع باحترام القوانين الدولية والمعاهدات بين الدول.
الرد بالمثل
عقب انطلاق عملية نبع السلام في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أعلنت تركيا أنها ستلجأ للمعاملة بالمثل ردا على تهديدات أمريكية وأوروبية بفرض عقوبات.
وأكد الرئيس أردوغان، أن بلاده أطلقت عملية عسكرية (نبع السلام) شمال شرق سوريا لإفشال مخطط إقامة دولة إرهابية كردية على الحدود مع تركيا، وأن بلاده ستنتهج سياسة "الرد بالمثل"، إذا ما قررت دول أوروبية فرض عقوبات اقتصادية أو فرض حظر على مبيعات الأسلحة.
لم تدم العملية العسكرية طويلا، حتى تم الإعلان عن توصل تركيا والولايات المتحدة الأمريكية لاتفاق يقضي بأن تكون المنطقة الآمنة في الشمال السوري تحت سيطرة الجيش التركي، ورفع العقوبات عن أنقرة، واستهداف العناصر الإرهابية.
وعلق فؤاد أوقطاي، نائب الرئيس التركي على ذلك الاتفاق قائلا: "لقد فازت تركيا بقوتها في الميدان، وإستراتيجيتها على طاولة المفاوضات، والموقف الحاسم للقائد رجب طيب أردوغان".
فهل نجحت إستراتيجية "التحدي" التي تنتهجها الدبلوماسية التركية في عصر أردوغان، والمتمثلة بعدم الانصياع للضغوط الخارجية وانتهاج سياسية "الرد بالمثل".
أدوات تركيا
تمتلك تركيا ملفات عامة، تمثل أدوات ضغط تستخدمها، وتلوح باستخدامها، للرد من خلالها على العقوبات التي تتخذ ضدها، والممارسات التي تعتقد تركيا أنها تسهم بزعزعة استقرار تركيا.
أهم تلك الملفات قضية اللاجئين السوريين، حيث تهدد تركيا دول الاتحاد الأوروبي، بفتح البوابات للملايين من اللاجئين السوريين، إذا ما تطلب الأمر ذلك.
سبق للرئيس أردوغان أن قال في خطاب تزامن مع إطلاق "نبع السلام": "الحرب في إدلب والهجمات التي تنفذها الوحدات الكردية ضد المدنيين في شمال سوريا، تنذر بموجة جديدة من اللاجئين السوريين إلى تركيا، وهو ما يضاعف من العبء على الحكومة التركية".
وأضاف: "التعاطف الذي تبديه الدول الأوروبية مع الوحدات الكردية في شمال سوريا، غير عابئة بالأمن القومي التركي، بالتزامن مع عدم إيفائها بتعهداتها المالية لتركيا، يدفع أنقرة للتفكير بفتح البوابات للاجئين".
تركيا تعد شريكا للاتحاد الأوروبي في مكافحة الإرهاب والجريمة والتهريب، وفتح البوابات لملايين اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين سوف يضاعف من فرص تعرض دول الاتحاد الأوروبي لهجمات إرهابية، حسب مراقبين.
وفي يناير/كانون الثاني 2017، وهو مفتتح عام شهد توترا متصاعدا بين واشنطن وأنقرة، لوحت تركيا بحقها في إغلاق قاعدة "إنجرليك" الجوية في محافظة أضنة جنوب تركيا، صرح وقتها المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، أن: "لتركيا الحق في إغلاق القاعدة وفق الظروف".
وفق متابعين، فإن إغلاق قاعدة "إنجرليك" الجوية إن تم سيحرم واشنطن من قوة إستراتيجية كانت تمتلكها في الشرق الأوسط، وتنفذ من خلالها طلعات جوية ضد "تنظيم الدولة" في سوريا، في إطار تحالف دولي ضد الإرهاب تقوده الولايات المتحدة.
وحسب مراقبين، فإن الولايات المتحدة لا ترغب بأن تتسبب بدفع تركيا للابتعاد عن الغرب والتقارب أكثر مع روسيا، وهو الأمر الذي كانت تركيا قد لوحت به سابقا بتوجهها لشراء طائرات روسية، بديلا عن طائرات إف 35 الأمريكية، وتحسين العلاقات العسكرية مع موسكو.
لا يكف المسؤولون الأتراك بتذكير دول الاتحاد الأوروبي ومسؤولي حلف شمال الأطلسي في كل مناسبة بضرورة احتياجهم لتركيا، نظرا لأهمية الجغرافيا التركية الواقعة على مضيق البوسفور، الممر المائي الأهم في المنطقة.
كذلك الامتداد الإستراتيجي التي تمثله تركيا لدول الاتحاد الأوروبي، والموقع الذي يمثل حائط صد بين أوروبا ودول الشرق الأوسط التي تشهد اضطرابات سياسية وعسكرية، بالإضافة إلى أزمات اقتصادية وإنسانية، وفق خبراء.
أزمة أس 400
عقب الأزمة السياسية التي نشبت بين واشنطن وأنقرة، جراء شراء تركيا أنظمة الدفاع الصاروخية أس 400، من روسيا، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في مقابلة تلفزيونية له: إن أنقرة "سترد بالمثل" إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها بسبب شراء أنظمة الدفاع الصاروخي أس 400 الروسية.
ورغم الضغط الأمريكي على تركيا بإلغاء الصفقة، والتهديدات المتعاقبة بفرض عقوبات على أنقرة، والحديث عن طرد الطيارين الأتراك الذين يتلقون تدريبات على طائرات إف 35 في الولايات المتحدة، والتهديد بإلغاء عقود ممنوحة لشركات تركية لصناعة قطع لطائرات إف 35، إلا أن أنقرة أصرت على إتمام الصفقة.
وفي ظل التلويح الأمريكي بعدم بيع طائرات إف 35 الأحدث في العالم لتركيا، إذا ما اشترت أنقرة منظومة الصواريخ الروسية، لوحت أنقرة بأنها سوف تتجه إلى شراء طائرات حربية روسية حديثة، ودعت في ذات الوقت إدارة الرئيس ترامب لمراجعة خطواتها في هذا الإطار.
وبعد إصرار تركيا على موقفها وتمام الصفقة التركية الروسية، أعلن ترامب في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض في يوليو/تموز الماضي، أنه لا يلوم تركيا على شراء منظومة "أس 400" للدفاع الجوي من روسيا.
وعزز ذلك التصريح خلال لقائه الرئيس أردوغان في قمة مجموعة العشرين المنعقدة نهاية يونيو/حزيران الماضي في مدينة أوساكا اليابانية، حيث قال ترامب: إن تركيا اضطرت لشراء منظومة الصواريخ الروسية، لأنه لم يسمح لها بشراء منظومة باتريوت الأمريكية خلال فترة رئاسة باراك أوباما.
وأضاف: "نناقش حلولا مختلفة. إنها مشكلة ما من شك في ذلك". وأبدى ترامب تعاطفه مع نظيره التركي ملقيا اللوم على إدارة سلفه في وضع شروط لشراء تركيا صواريخ باتريوت، وقال: إن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) "وصديق للولايات المتحدة منذ مدة وشريك تجاري كبير لا يجوز التعامل معها بالأسلوب الذي اتبعته إدارة أوباما".
أزمة قبرص
ملف قبرص يمثل الأزمة الأشد تعقيدا في تاريخ الجمهورية التركية، منذ استقلال قبرص عن بريطانيا في 1960، حيث تحكم جزيرة قبرص عرقيتان (يونانية وتركية)، ومع أن الجزيرة قسمت لدولتين إلا أن الأزمات بين العرقيتين انعكست على علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، وتسببت بأزمات متكررة بين الجانبين.
كان أحد مظاهر تلك الأزمات، الصراع على مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط، حيث بدأت قبرص اليونانية بالتنقيب عن الطاقة في الشرق المتوسط، بدون تنسيق مع جارتها الشمالية، وتبنى الاتحاد الأوروبي خطابا داعما لخطوات قبرص اليونانية، ما دفع تركيا للتحدي المباشر، لأول مرة في تاريخ علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، والرد بالمثل، وإرسال سفن تنقيب عن الطاقة، وتوفير الحماية العسكرية لسفن التنقيب، عبر سفن وطائرات حربية.
ورغم تنفيذ الاتحاد الأوروبي تهديداته، وتنفيذ عقوبات اقتصادية تضمنت اقتطاعات من القروض الممنوحة لتركيا، وإلغاء اجتماعات رفيعة المستوى ووقف اللقاءات الرفيعة المستوى بين أنقرة وبروكسل في ما يتعلق بالنقل الجوي، وكذلك وقف إجراء الاجتماعات الرفيعة المستوى لمجلس الشراكة التركية الأوروبية، إلا أن تركيا استمرت بالتنقيب وصرحت بأنها لن تتراجع عل الإطلاق، ما لم تقم قبرص اليونانية بإيقاف التنقيب.
تهديد وابتزاز
في أغسطس/آب 2018، أعلنت إدارة ترامب فرض عقوبات بحق وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، ووزير العدل التركي عبدالحميد غل، بسبب مزاعم أمريكية بدور الوزيرين في حبس القس الأمريكي أندرو يرانسون، الذي تقول أنقرة إنه متورط بأنشطة تجسسية، ومرتبط بمنظمة "غولن" المسؤولة عن عملية الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016، ومنظمة "بي كا كا" الإرهابية.
وعقب تلك العقوبات أعلن زعيم حزب "الحركة القومية" التركي، دولت باهجه لي، على ضرورة الرد بالمثل على قرار الولايات المتحدة الأمريكية فرض عقوبات ضد وزيرين تركيين وأكد أن تركيا دولة لا يمكن أخذ تنازلات منها عبر التهديد والابتزاز.
بعد أيام قلائل من فرض واشنطن عقوبات على وزيرين تركيين، أعلنت أنقرة على لسان رئيسها أردوغان عن إجراءات مماثلة شملت تجميد ممتلكات وزيري العدل والداخلية الأمريكيين في تركيا.
وفي سبتمبر/أيلول 2017، قامت تركيا بتعليق منح التأشيرات للأمريكان من سفارتها في واشنطن، ردا على قرار السفارة الأمريكية في أنقرة تعليق إعطاء الأتراك تأشيرات سفر إلى الولايات المتحدة.
وكانت الولايات المتحدة قد علقت منح تأشيراتها للأتراك، عقب اعتقال السلطات التركية أحد المواطنين الأتراك العاملين في القنصلية التركية في إسطنبول، لاتهامه بانتمائه لمنظمة غولن، المتورطة بعملية الانقلاب العسكري في 2016، وحظيت الأزمة الدبلوماسية بتغطية إعلامية كبيرة، وكانت من أبرز الأزمات بين البلدين.
كلاب بوليسية
تتعدد الحالات التي تعاملت تركيا فيها مع الأزمات الحاصلة بمبدأ الرد بالمثل، إلا أن بعضها كان مثيرا، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2017، قامت قوات الأمن التركية بتفتيش مسافرين نمساويين بواسطة كلاب بوليسية، في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، ردا على إجراء نمساوي مماثل.
قبلها قامت السلطات النمساوية بانتقاء مواطنين أتراك من بين مسافرين من عدة جنسيات وتفتيشهم، مع عدم تفتيش المسافرين الآخرين على متن الرحلة نفسها في مطار فيينا الدولي، وهو الأمر الذي تم تفسيره كإهانة موجهة لتركيا والرعايا الأتراك.
الأمر نفسه وانطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل، وقعت حادثة شبيهة مع مسافرين ألمان، ردا على إجراءات مشابهة من السلطات الألمانية على مواطنين أتراك في مطار ميونخ الدولي.
المصادر
- أوقطاي: تركيا انتصرت بقوتها في الميدان وفي المفاوضات
- "المعاملة بالمثل".. عُرف دبلوماسي أم عقابٌ دولي؟
- أردوغان يهدد أوروبا مجددا بـ"فتح البوابات" أمام اللاجئين
- تركيا تهدد بإغلاق قاعدة إنجرليك
- استراتيجية اردوغان الجديدة مع أمريكا وأوروبا… الرد بالمثل و«من يعادي تركيا يخسرها»
- الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات سياسية ومالية على تركيا
- بهجه لي: يجب الرد بالمثل على العقوبات الأمريكية
- أردوغان يرد على عقوبات ترامب بإجراءات مماثلة
- تركيا وأمريكا تتبادلان حجب التأشيرات بعد توقيف موظف بسفارة واشنطن
- بالفيديو...تركيا ترد على النمسا بتفتيش مواطنيها بالكلاب في مطار أتاتورك