معاناة من اليوم الأول.. رحلة عذاب 60 ألف أسرة معتقل في سجون السيسي

محمد صلاح | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

"أهلا بك في الجحيم"، مقولة تنطبق على الوضع الحقوقي في مصر التي اكتظت سجونها بآلاف المعتقلين منذ انقلاب يوليو/تموز 2013، (نحو 60 ألف معارض معتقل)، ومازالت الاعتقالات مستمرة مع خروج احتجاجات وحراك في الشارع مطالبا برحيل رئيس النظام عبد الفتاح السيسي وحاشيته.

الاعتقال ليس مجرد كلمة عابرة، بل تدمير لإنسانية البشر، ومرادف للجحيم بعينه، جحيم لشخص المعتقل نفسه عندما يلقى به في واحد من أسوأ الأماكن وحشية في العالم، حيث التعذيب وضعف الرعاية الصحية والإهمال الطبي والإذلال والإهانة وربما القتل، وجحيم لأسرته التي تعاني أهوال وويلات البعد وألم الفراق.

مع أول يوم اعتقال تبدأ معاناة أسر المعتقلين في تدبير المال لشراء مستلزمات زيارة المعتقل من طعام وملابس وأدوية في حال مرضه، وتوفير مبلغ مالي يودع في خزينة الأمانات بالسجن، ونفقات الانتقال إلى السجن الذي غالبا ما يكون بعيدا عن محل السكن، ما يضطر بعض الأسر إلى بيع ممتلكاتهم توفيرا لسبل الإنفاق، ولجوء البعض الآخر إلى الاقتراض. في محاولة مضنية للصمود ومواصلة الحياة.

خراب البيوت

لا تدخر سلطات الانقلاب جهدا في العمل على خراب بيوت أسر المعتقلين، ليس بتحطيم محتوياتها وربما حرقها أثناء هجمات الاعتقال فحسب، ولا بحرمانهم من راتب عائلهم المعتقل إن كان موظفا، ومصادرة ماله وشركاته إن كان رجل أعمال، ولكن بتشريدهم وتجويعهم بدءا من منع توظيف أي فرد من الأسرة لدواع أمنية، وحتى حرمانهم من حصصهم التموينية التي لا تكاد تفي بالحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية، وهي عبارة عن 5 أرغفة وزجاجة زيت و2 كيلو سكر لكل فرد شهريا، بحد أقصى 4 أفراد.

وفي إطار إحكام الحصار على أسر المعتقلين وذويهم، تقوم سلطات الانقلاب بتطبيق سياسة العقاب الجماعي باعتقال كل من يحاول تقديم أي شكل من أشكال الدعم الإنساني لهم، حيث شهدت الأشهر الماضية اعتقال أشخاص من مختلف المحافظات المصرية، بتهمة جمع تبرعات لدعم أسر المعتقلين، ووجهت لهم تهم الانضمام لجماعة تدعو إلى الإرهاب.

كما حدث في القضية المتهم فيها ابنة نائب المرشد العام للإخوان المسلمين عائشة خيرت الشاطر، ومعها عدد من الناشطات الحقوقيات، فضلا عن اعتقال عدد من السيدات على خلفية تقديمهن دعما لأسر المعتقلين بمناسبة شهر رمضان.

وذكرت زوجة أحد المعتقلين لموقع عربي 21، أن "اثنين من السيدات اللاتي كن يقمن بإيصال المساعدات لها، ولغيرها من أسر المعتقلين، تم اعتقالهما، كما أن عددا آخر من الذين كانوا يقومون بهذا الدور، اضطروا للهروب إلى خارج مصر نتيجة الملاحقات الأمنية التي تعرضوا لها".

وأشارت السيدة: "أنها وأسرتها تعرضوا لمضايقات بعد اعتقال زوجها، تمثلت في فصل ابنها الأكبر من عمله، لأن والده معتقل، كما تم ملاحقة زوج ابنتها، ما جعلهم ينتقلون من مدينة لأخرى، وهو ما كان له تأثير سلبي على أحفادها الصغار، الذين لم يستقروا طوال هذه السنوات في مدرسة واحدة".

وأضافت قائلة: "زوجي تم اعتقاله ظلما، وحكمت ضده المحكمة بالمؤبد 25 عاما، والشركة التي كان شريكا فيها تم تصفيتها بعد مداهمتها أكثر من مرة، ما جعل أوضاعنا المادية سيئة، وخصوصا بعد قطع هذه المساعدات".

تعذيب وتأديب

"تأتى إجراءات المنع من الزيارة عن المعتقلين بالمخالفة لنص المادتين 141 من قانون الإجراءات الجنائية و53 من قانون المحاماة التى تعطى للمحامي المرخص له من النيابة بزيارة أحد المحبوسين فى السجون العمومية حق زيارته فى أى وقت والاجتماع به على انفراد وفى مكان لائق داخل السجن".

يواجه أهالي المعتقلين أشكالا مختلفة من التعنت الذي تمارسه السلطة الانقلابية خلال الزيارات، في محاولة لكسر إرادتهم ماديا ومعنويا ليتخلوا عن ذويهم، وذلك بحصر الزيارة في عدد قليل من الزوار من بين طوابير طويلة بالمئات، ومنع دخول الطعام والملابس وبعض الأدوية التي تحضرها الأسر، وقصر مدة الزيارة التي تكون في بعض السجون من خلف حائط زجاجي ويكون التحدث فيها عبر هواتف مراقبة أمنيا، وبتعمد الإيلام النفسي لأهالي المعتقلين، برؤية ذويهم في الزيارة وقد بدت عليهم آثار الضرب أو التعذيب.

تحكي السيدة سحر من محافظة الجيزة، لموقع رصيف22 عن المضايقات التي تتعرض لها أثناء زيارة ابنها محمد طالب الحقوق المعتقل، قائلة: "كل ما تعرضت له من مضايقات يهون، لكن ما لا أحتمله أن يعتدوا على ابني داخل السجن، فقد ضربوه هو وزميله ضربا مبرحا، ولم يكتفوا بهذا بل عاقبوه بالحبس في غرفة التأديب بضعة أيام، واتهموه بالاعتداء على شرطي، وحرروا محضرا بذلك، وجرى تحديد جلسة له في قضية ثانية تضاف إلى قضية التظاهر".

السيدة هناء، وهي زوجة طبيب معتقل وأم لشاب معتقل هو الآخر، فهمست محتجة على رفض سلطات السجن المتكرر السماح لها بإدخال بعض الحلوى لابنها المريض الذي يحتاج إلى السكريات، قائلة: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فعوقبت عقابا قاسيا.

مضيفة: "حُرمت من الزيارة وتم تحويلي إلى قسم الشرطة ومعي ابني أنس، وفي القسم أصروا على حجزي لأبيت في الحبس حتى أمثُل أمام النيابة صباح اليوم التالي".

وتابعت: "أبلغت بنقل زوجي وابني إلى مجمع سجون وادي النطرون الذي يبعد عن القاهرة بمئات الكيلومترات، ووضع كل منهما في سجن مختلف، لأسافر لكل منهما هذه المسافة البعيدة جدا مرتين أسبوعيا".

كما أُهينت زوجة أحد المعتقلين في قسم شرطة العرب عندما كانت تزوره في أحد أيام شهر رمضان، حيث سحلت على الأرض وخلعوا نقابها وانكشف شعرها، ووضعوا في يديها الأصفاد إلى ما بعد الإفطار، وهددوها بالاعتداء عليها وخلع ملابسها، لأنها اعترضت على منع الزيارة.

وبعد 4 سنوات قضتها السيدة أحلام متنقلة بين 5 سجون، طمعا في لحظات تظفر فيها برؤية وجه ابنها الطالب الجامعي أحمد (20 عاما)، بعد أن أصبحت وحيدة دون رفيق يساعدها لتحمل هذا العذاب، باعتقال أخيها الأكبر، ووفاة زوجها في اليوم التالي لاعتقال ولدها الوحيد، حيث ماتت هي الأخرى على عتبات سجنه، بعد أن منعها الضابط رئيس مباحث سجن الزقازيق العمومي من الزيارة.

نساء وحيدات

من أقسى توابع اعتقال عائل الأسرة أن تجد الزوجة نفسها وقد أصبحت امرأة وحيدة ومعيلة لأبناء شبه أيتام بعد أن حيل بينهم وبين التواصل مع آبائهم.

تحكي زوجة أحد المعتقلين عن إحدى المرات التي أعدّت فيها متطلبات الزيارة، بالنظر إلى أنها تسافر في الثانية فجرا من محافظة بورسعيد للوصول في السادسة صباحا إلى مجمع سجون طرة.

تقول أنها ركبت إحدى سيارات الأجرة من أمام بيتها، لتتجه إلى الموقف المخصص للسفر إلى القاهرة، وفي أثناء وجودها داخل السيارة، ركب شخص آخر إلى جوار السائق دون أن يستأذن منها، فطلبت منه النزول فرفض، ووجدت أبواب السيارة كلها مغلقة وهو ما أشعرها بالريبة والخوف.

أخرجت هاتفها وتظاهرت بالحديث مع شخص آخر يقود سيارة أخرى تسير خلفها، صدّق السائق الرواية المختلقة عندما رأى سيارة أخرى تسير خلفه، فأنزلها وهرب بعيدا.

تقول الزوجة: "الناس تنظر إلى زوجة المعتقل على أنها تحتاج لأي رجل، خاصة مع تعاقب سنوات السجن والاعتقال، حتى أن نظرات أفراد الأمن أثناء الزيارات كلها بهذا الشكل، يقولون لنا لماذا تصبرون عليهم وربما لا يخرجون من هنا أحياء؟".

السيدة ابتسام زوجة أحد قيادات حزب الحرية والعدالة، اعتقل زوجها مباشرة بعد دفن نجله الأكبر الذي قتل في ميدان رابعة، كما اعتقل 3  من أبنائها الذكور الباقين على فترات مختلفة خلال عام 2014، وتمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري. وبعد أن تشتت شمل عائلتها بين السجون، أغلقت على نفسها باب المنزل ولا تفتحه إلا للذهاب إلى زيارات السجون، أو قضاء حاجات ضرورية.

أما خطيبات المعتقلين، فتُعبر سميرة عن معاناتهن قائلة: "بعد أقل من شهر من كتب الكتاب، اعتُقل زوجي، وحُكم عليه بالمؤبد. ومع مرور الوقت شعرت أن حياتي قد توقفت، وتسرّب اليأس إلى قلبي، فاُصبت بالاكتئاب وقضيت عاما كاملا أتردد على طبيب نفسي لإصابتي بانهيار ما بعد الصدمة".

مضيفة: "أتساءل، ماذا سيكون موقفي إذا تأكد الحكم بالمؤبد؟ إنني أقترب من التاسعة والعشرين من العمر، وأتوق إلى أن أكون أمًّا، هل أعتبر أنه ابتلاء حياتي وأتحمل".

صدمات نفسية 

زوجة أحد المعتقلين، سيدة أربعينة سمت نفسها "أم دعاء"، تروي للعربي الجديد، كيف توقعت من زوجها، الذي خرج من المعتقل في أبريل/ نيسان 2017، أن يعاملها بشكل جيد كما كان يفعل قبل سجنه".

مضيفة: "لكني فوجئت بشخص آخر مختلف في مشاعره العاطفية وعلاقاته الاجتماعية، إذ تحول من إنسان منفتح إلى انطوائي يخاف من مواجهة الناس، زوجي تعرض للتعذيب داخل محبسه، وهو السبب المحتمل لتغيّر حالته".

هذه السيدة ليست الوحيدة التي عانت من التغيرات التي تحدث للأزواج بعد الخروج من الاعتقال، فطبقا لحالات وثقها مركز حقوقي أعد دراسة عن الاعتقال وتأثيره على حياة المعتقلين، فإن المفرج عنه غالبا ما يتعرض لأزمات نفسية ومادية بعد خروجه".

أبرز هذه الأزمات الخوف من الملاحقات الأمنية، والذي يدفعه للبحث عن محل إقامة آخر غير الذي كان يعيش فيه، وربما يضطر إلى تغيير إقامته أكثر من مرة، وتغيير مدارس أبنائه وعلاقاته الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى مشاكل الحصول على عمل، نظرا للإجراءات الأمنية القاسية التي تطارده لمنعه من العمل في أي مكان".

الباحث الاجتماعي عبد الله إبراهيم، المتخصص في دعم أسر المعتقلين والشهداء، رصدت مجموعته التي تعمل بشكل غير رسمي خوفا من الملاحقة الأمنية، الكثير من الأزمات النفسية التي يواجهها العائدون من الاعتقال، ويمكن أن تؤثر على استقرارهم الأسري، كحالات الطلاق التي تقع بسبب فشل الزوج الذي كان معتقلا في تلبية متطلبات بيته الزوجية والاقتصادية".

ليست المشكلة إذن في الصدمات النفسية التي من الممكن أن يعانيها أهل المعتقل وحدهم، ولكن في الدور المنوط بهم للتعامل مع صدمات المعتقل العائد أيضا.

الطبيبة النفسية بسمة عبد العزيز، عضو مركز النديم لعلاج وتأهيل ضحايا العنف، قالت للجزيرة "فترة الاعتقال الطويلة والتعرض للتعذيب تنعكس نفسيا واجتماعيا وأسريا وعمليا على السجين وأسرته".

أخصائية الاستشارات الأسرية والنفسية رسمية علي، تشير أيضا إلى أنه " كما يمر الشخص الذي تعرض لتجربة الاعتقال بالصدمات النفسية، تعيش أسرته صدمة الغياب وإحساس التقصير وجلد الذات والعجز.. وبالتالي فالأسرة نفسها قد تكون بحاجة لتأهيل نفسي للتكيف مع الوضع".

أما عن وضع الزوجة، فتقول:"خلال فترة اعتقال الزوج تكون الزوجة هي المسيطرة، وحين يعود ليأخذ دوره، تكون خائفة من ترك عجلة القيادة، وبالتالي تحدث الخلافات، أو قد تكون وصلت لذروة التعب، فتطلب منه قيادة المنزل، وهو غير مؤهل لذلك، فتنشب الخلافات الأسرية".

وإن كانت هذه النظرة السوداء للوضع الأسري لمعتقل الرأي ليست دائمة، بحسب رسمية علي، "هناك أسر لا تشهد مشاكل، بل تكون هي الملاذ الآمن والداعم الأول بعد الاعتقال".

في حين ترى بسمة عبد العزيز أن "جزءا كبيرا من أزمة الاعتقال يتمثل في أن المجتمع - في كثير من الأحيان - يكون غير مساند، وهو ما يكون له أثر مضاعف للأزمة".

يبقى أن سياسة الاعتقال ليست إجراءا شخصيا يستهدف من يعارض النظام بالعقاب والردع أوالتقويم، لكنها عملية هدم مدروسة ومنظمة لكينونة المجتمع المتمثلة في الأسرة، بغرض إنهاكها وتفكيكها ليمضي الاستبداد في طغيانه وفساده دون إزعاج أو مقاومة.