الساموراي يشحذ سيفه.. هل تعود اليابان قوة عسكرية في الشرق؟

12

طباعة

مشاركة

شكّل تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأقصى، هاجس قلق لدى اليابان، وهي الدولة المتسامحة التي اتخذت قرارها الدستوري بنبذ الحروب والتفرغ للاقتصاد والتصنيع، وذلك في أعقاب استسلامها للحلفاء بقيادة الولايات المتحدة نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويبدو للمتابع وكأن فترة السلم التي شهدتها اليابان منذ عام ١٩٤٥ وحتى الآن حلم ليل تبخر على وقع جنوح الراعي الأمريكي لإعادة تقييم تحالفاته، وتشكّل شرق أقصى جديد متزاحم بلاعبين صاعدين، يحدوهم الطموح لفرض سطوتهم خارج نطاقاتهم الحيوية.

عودة اليابان للساحة تلقي بظلال قاتمة على "الوثوقية" التي طالما عاشتها في أحضان المظلة النووية الأمريكية، وهي المظلة التي لم يعد يقتصر عداد المشككين في فعاليتها على حلفاء واشنطن في الشرق الأقصى وأوروبا الشرقية.

أبحاث ودراسات كثيرة بدأت في الصدور مؤخرا، تتناول الإجراءات التي تتنامى في اليابان يوما بعد يوم محولة عملاق الصناعة المسالم إلى قوة عسكرية فاعلة في محيطها.

جدل الدستور

يجمع المختصون في القضايا اليابانية على أن العائق الأكبر في سعي اليابان لامتلاك قوة عسكرية حقيقية يكمن في الفقرة التاسعة من دستور البلاد الذي صيغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي ينص على أن اليابان "لا تحارب ولا تحل خلافاتها بالحروب".

بهذه الكلمات القليلة حصرت الإمبراطورية التي غزت معظم جيرانها من الصين إلى الفلبين مرورا بشبه الجزيرة الكورية، نفسها في إطار المقاربات الحوارية والاقتصادية للتعامل مع خصومها.

وهي سياسة ربما أفادت في عالم ثنائي الأقطاب إبان الحرب الباردة، غير أنها تبدو محدودة الفاعلية في إطار التعامل مع قوة الصين الصاعدة بجزرها الصناعية وحاملات طائراتها، فضلا عن صواريخ كيم جونغ أون العابرة للمحيطات، والتي كان يتهدد بها الزعيم الكوري أمريكا في عقر دارها.

هذه المخاطر أدت برئيس الوزراء الياباني شينزو آبي -والذي وصل للحكم في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٢- إلى حث البرلمان على إعادة تفسير الدستور ليتلاءم مع الواقع الجديد. وهو الحق الذي يمتلكه البرلمان وسبق أن قام به عام ٢٠١٤ إبان مشاركة القوات اليابانية في أعمال عسكرية خارج حدود اليابان بالتعاون مع القوات الأمريكية، غير أن طلبات آبي الأخيرة -والتي تتضمنها إستراتيجية التسلح الجديدة- ستحتاج لما هو أكبر من مجرد تفسير جديد.

الكوابح الثلاثية

مؤيدو المشروع الجديد داخل الحكومة اليابانية يهدفون من خلال تحركاتهم -التي بدأت تتبلور منذ عام ٢٠١٧- إلى تحقيق مطلبين أساسيين: "الأول: حذف الفقرة التاسعة من الدستور. والثاني: تغيير مسمى الجيش الياباني من مسماه الحالي (قوة الدفاع الذاتية)".

وهم يعتقدون أن من شأن هذه الخطوات إطلاق أيدي الساسة اليابانيين في الدفاع عن مصالح البلاد بشكل أفضل بالتعاون مع الحلفاء الأمريكيين، وقد وضع رئيس الوزراء شينزو آبي ٢٠٢٠ موعدا نهائيا للفصل في المسألة الدستورية.

ورغم "النبرة العدائية" التي يراها البعض تتصاعد من أروقة صناعة القرار الياباني، فإن اللجان البرلمانية التي أنيط بها مهمة التعامل مع القضية قد ابتدعت مقاربة (الكوابح الثلاثية) لمنع انجراف وزراء حكومة آبي في درب سباق التسلح "الزلق"، فكان أن قرروا أن اليابان لن تقوم بالرد العسكري على أي تهديد إلا بعد التأكد من:

•       كون التهديد حقيقي وآني.

•       عدم وجود بديل دبلوماسي للتعامل مع التهديد.

•       استخدام الحد الأدنى من القوة لتحييد التهديد والقضاء عليه.

الهوية "المسالمة"

رؤية الشعب الياباني للحروب والتسلح  تستند إلى الصدمة الكبرى التي أصيب بها الوعي الجمعي في أعقاب إسقاط الولايات المتحدة للقنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي، والتي مثّلت قوة تدميرهما والمذبحة البشرية، التي واكبتهما رعبا لم يكن أقل فصوله استسلام الإمبراطورية المذل للحلفاء، وقبول الشعب بالوصاية الأمريكية الكاملة عليه حتى عام ١٩٦٠ حين وقعت حكومتي البلدين معاهدة للدفاع المشترك.

ويترافق ذلك مع الصورة الذهنية التي شكلها الياباني المعاصر لنفسه كمصّدر للتكنولوجيا والمنتجات فائقة الجودة وكرائد للفنون التقليدية والبصرية التي تنأى بنفسها عن مطامع فرض الهيمنة على أي شعب.

فقدان الهوية السلمية يشكل هاجسا عند النخب اليابانية وخصوصا الأكبر سنا -في بلد يضم أكبر عدد من المعمرين في العالم-، وهذه التخوفات تستند إلى إمكانية أن تقود التحركات الأخيرة إلى إحياء الرغبات العسكرية الإمبريالية الدفينة في بلد متشبع بالتقاليد التي لا تخلو من عنف مبطن.

والمطالع للتاريخ الياباني يدرك أن الطموحات الإمبريالية التي بدأت محدودة ودفاعية الطابع في أواخر القرن التاسع عشر سرعان ما أدت باليابان في مطلع القرن العشرين إلى أن تحارب روسيا وأن تحتل الصين وكوريا والفليبين وإندونيسيا وصولا إلى ماليزيا والعديد من جزر المحيط الهادي، قبل أن يؤدي الصدام الأمريكي معها في أتون الحرب العالمية الثانية إلى الإطاحة بها بالضربة القاضية.

العملاق النائم

الحديث عن تفاصيل القوة العسكرية اليابانية الحالية يبدو مشوقا لأبعد مدى. فاليابان تعد رائدة من حيث الإنفاق العسكري، الذي قدّر بـ ٣٧ مليار دولار سنويا في التسعينات ليصل إلى حدود ٥٢ مليار دولار في العام الماضي ٢٠١٨ واضعا إياها في المرتبة الثامنة عالميا ما بين فرنسا وألمانيا.

وترتكز القوات المسلحة اليابانية على تشكيلات يبلغ أفراد عديدها ٢٥٠ ألف جندي، كان قد صدر القرار بإنشائها عام ١٩٥٩ في أعقاب الحرب الكورية وانشغال الحلفاء الأمريكان بتقاسم الجارة مع القطب السوفيتي، فكان القرار بتحويل القوة الشرطية المحلية والساحلية التي أنيط بها مهام تأمين جزر اليابان إلى جيش نظامي بفروع تقليدية.

وتفاخر اليابان بأسطولها الكبير ومدمرات (ايزمو) التي تعتزم البحرية اليابانية بناء عدد إضافي منها في خطة تطوير خمسية أعلن عنها مؤخرا. كما تطور اليابان عددا من الغواصات فائقة "الصمت" مخصصة لعمليات الرصد والحماية.

أما في مجال القوات الجوية، فاليابان بطيرانها العسكري -الذي أسس كنسخة مصغرة من القوات الجوية الأمريكية- زبون مبكر لطائرات "أف- ٣٥" متعددة المهام والتي اقتنت منها طوكيو أكثر من ١٠٥ طائرة مؤخرا (رغم بعض المشاكل التقنية والتي أدت لتجميد استخدام الطائرة في العمليات مؤخرا)، وتحاول البحرية اليابانية تعديل أسطح مدمراتها (ايزمو) لتتقبل هبوط طائرات "أف- ٣٥" على أسطحها التي تعادل مساحتها ثلث مساحة حاملة طائرات أمريكية تقليدية.

ورغم معاناة قطاعات كثيرة في البلاد من الآثار الكارثية لانخفاض معدلات الخصوبة وتزايد أعداد كبار السن مقابل المواليد، إلا أن قدرة القوات المسلحة اليابانية على ملء صفوفها بالكوادر الشابة المدربة هي مثار فخر شعبي، ويتداول العسكريون اليابانيون فكرة الاعتماد على البدائل التكنولوجية لسد أي نواقص بشرية مستقبلية من خلال الاستعانة بالطائرات والغواصات المسيرة والمعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

المشكلة في اليابان -كما يؤكد المتخصصون- ليست مشكلة "قدرة" بقدر ما هي "إرادة"، فالقوات المسلحة اليابانية على قوتها وتنوع تسليحها لم تحارب خارج أرضها منذ ١٩٤٥، إلا من بضع مشاركات محدودة تحت راية الأمم المتحدة في إطار عمليات حفظ السلام الدولية في تيمور الشرقية وهايتي والصومال ومرتفعات الجولان المحتلة.

سيف الساموراي القاطع

رغم أن اليابان من الدول التي قطعت شوطا بعيدا في تطوير قطاعاتها النووية السلمية بغرض توليد الطاقة، إلا أن حادثة تسونامي عام ٢٠١١، والتي أدت لإغراق مفاعل فوكوشيما والتلوث الإشعاعي الذي نتج عن الحادثة، أثار العديد من المخاوف الشعبية حول جدوى استخدامه مقابل مخاطره العديدة.

خصوصا وأن أجواء التسرب الإشعاعي أعادت لليابانيين ذكريات الهجوم النووي على هيروشيما ونجازاكي. هذا عدا عن حصيلة من القتلى فاقت الألف قتيل وعمليات الإجلاء الواسعة التي اضطرت القوات المسلحة لمساعدة السكان على إتمامها من محيط المحطات النووية، وإيقاف بعضها عن العمل بصفة احترازية.

وتشير تقديرات الباحثة في القضايا اليابانية شيلا سميث إلى إمكانية إنتاج اليابان سلاحاً نووياً باستخدام مفاعلاتها الحالية في حدود ٦ - ٩ شهور فقط من اتخاذ قرار بشأنه، على أن العقبة الكبرى تتمثل في إقناع الرأي العام الياباني وممثليه المنتخبين في اللجوء لمثل هذه الخطوة "التاريخية".

وترى سميث، أن من شأن (حرب خاطفة) مع أحد غرماء اليابان المجاورين أن تحدث الصدمة المطلوبة لبدء العمل في مشروع القنبلة النووية، خصوصا وأن الرأي العام الياباني كان متقبلا للجوء لهذا الخيار في الستينيات في أعقاب إجراء الصين تجارب نووية ناجحة.

وتبقى الإشكالية في أماكن تخزين مثل هذا السلاح حال تمكن اليابان من تصنيعه، في ظل غياب أي عمق إستراتيجي لأرخبيل الجزر اليابانية الضيق، والذي سيفرض عليها تخزين قنابلها في غواصات تجوب البحار على غرار السلاح النووي البريطاني.

فتّش عن الصين

تمثل الصين -حسب مخططي السياسة الخارجية في طوكيو- الخطر الأكبر الذي يتهدد اليابان، فهي الغريم التقليدي الذي سبق لليابان حربه واحتلال أجزاء منه في ثلاثينيات القرن الماضي، ويشكل الخلاف بين البلدين على جزر شنكاكو مصدرا للتوتر المستمر بين القوات البحرية اليابانية والصينية.

ومع تمتع اليابان في فترة سابقة بتفوق نوعي نتيجة تحالفها مع الأسطول السابع الأمريكي بحاملات الطائرات التي يمتلكها وغواصاته النووية، إلا أن هذه المزايا بدأت في التآكل بعد شروع الصين في مشروع ٢٠٣٠ للتسلح والذي تخطى الإنفاق المالي على فعالياته في العام الماضي ٢٠١٨ حاجز الـ١٧٠ مليار دولار، يتم إنفاق أجزاء منها على بناء سلاسل من الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي وحاملات طائرات.

ورغم عرض الصين بلسان زعيمها تشي على اليابان المشاركة كعنصر فاعل في مشروع (الطريق والحزام)، لكن الشكوك اليابانية تجاه الميول الصينية للتوسع العسكري والاقتصادي تظل قائمة.

وجنبا إلى جنب مع التهديدات الصينية "العاقلة"، تمثل تهديدات زعيم كوريا الشمالية "المجنونة" بالاستهداف الصاروخي لمصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة من خلال صواريخه الباليستية المحملة برؤوس نووية، كابوسا يوميا لطوكيو، التي تأخذ تهديداته على محمل الجد ولا ترى في أي من اللاعبين الدوليين القدرة على احتوائها أو تحييدها في الوقت الراهن.

فتور الحلفاء

الزملاء الصغار في الحلف الأمريكي بالشرق الأقصى يعانون أيضاً من تراجع رغبات الأمريكان في فرض سطوتهم، الأمر الذي حدى بهم لمد أيادي التعاون فيما بينهم تجنباً للأسوأ.

وتمثل تايوان حالة فريدة من الترقب الذي أدى بها إلى تمتين علاقتها مع اليابان وتطوير مجالات التوأمة العسكرية بينهما. كما تتواصل اليابان مع حلفاء أمريكيين آخرين في المنطقة كفيتنام والفليبين في سبيل إمدادهم بالمعونات الاقتصادية اللازمة لدعم موازنات الدفاع وتحديث منظوماتها.

وتتبقى الحالة الفريدة لكوريا الجنوبية كحليف أمريكي يقف في منزلة "متشككة" من اليابان نظرا لرصيد التجارب الاستعمارية الدامية بين الطرفين في السابق، والتي يأبى الكبرياء الياباني عن مجرد الاعتذار عنها.

كما تختلف كوريا الجنوبية عن اليابان في أنها تتحمل التكاليف المالية الكاملة لفاتورة تواجد القوات الأمريكية على أراضيها بعكس اليابان التي تقدم (معونة ضيافة) تمثل ٧٥ بالمئة من التكاليف، ولعل هذا ما حدا بالبنتاجون لنشر منظومة (ثاد) الصاروخية المتطورة على أراضيها تحسبا لأي مغامرات كورية شمالية محتملة.

وتواصل قيادات الأسطول الأمريكي السابع محاولات تنسيق عمل حليفيها الكوري والياباني في منطقة بحر الصين الجنوبي ورفع مستويات الثقة بينهم رغم وقوع عدد من الحوادث الصغيرة.

المظلة المتآكلة

لعل مكمن القلق الياباني يستند إلى شكوك بدأت بالتزايد من تراجع سطوة المظلة الأمريكية النووية وفعاليتها في الاستجابة للتهديدات المحتملة، فمع أن أوباما وضع مبدأه (التحول لآسيا) شعارا لفترته الرئاسية الثانية إلا أن الواقع لم يشهد أي تحركات مؤثرة تعدّل موازين القوى الآخذ بالتأرجح في المنطقة.

وزاد الطين بلة خلفه ترامب الذي تشكل رأي لدى صنّاع القرار في طوكيو بأنه لا يمتلك سياسة واضحة يمكن التعويل عليها، ففي حين ينادي صراحة بسياسة انكفاء للداخل تجعل (أمريكا أولا)، فإنه ما فتئ يطالب حلفاءه -ومن ضمنهم اليابان- بدفع فاتورة الحماية فورا أو تحمل الأعباء لوحدهم، وهو بالتزامن مع هذا كله يواصل لقاءاته وقممه مع الزعيم الكوري الشمالي محاولا إرضاءه بطرق لا تقرأها طوكيو إلا مؤشرات خطر وشيك.

فإذا كان تجاوب واشنطن مع تجربة نووية كورية سادسة وإطلاقات مستمرة للصواريخ قرب المجال الحيوي الجنوبي لليابان لا يعدو مجرد تغريدات رئاسية صاخبة من ترامب لم ينتج عنها شيء، فإن من حق اليابانيين التصور أنهم لوحدهم في مواجهة الثلاثي الصيني - الروسي  - الكوري الشمالي. كل هذه التطورات تترافق مع تأزيم ترامب للعلاقات التجارية مع طوكيو، والتي تقودها انسحاباته من اتفاق الشراكة التجاري لدول المحيط الهادي "تي بي بي" ورغبته في الاستعاضة عنها باتفاقات ثنائية ترفضها الحكومة اليابانية الحالية.

ورغم احتفاظ الولايات المتحدة بأكثر من ٥٠ ألف جندي في ٧ قواعد عسكرية باليابان، وعدم سعي اليابان كحالة بعض الحلفاء الآخرين لأمريكا لمحاولة "التنويع" في التحالفات لتأمين النفس وتوسعة الخيارات المتاحة، فإن أسئلة ساخنة لا تزال تتردد في أذهان الساسة اليابانيين هل سيدخل الأمريكان في حرب إلى جوار اليابان بشأن صراعها على الجزر مع الصين؟ وهل سيهب الأمريكان لقصف بيونج يانج في حال أصابت أحد صواريخها الباليستية التجمعات السكانية اليابانية؟