الجيش الجزائري هل يستغل الفرصة ويتشبث بالسلطة؟

مهدي محمد | 6 years ago

12

طباعة

مشاركة

محطات العلاقة بين الجيش ومؤسسة الرئاسة في الجزائر تصاعدت بشكل كبير وسريع على مدار أسابيع منذ اندلاع الحراك الشعبي، وانتهت باستقالة الرئيس بوتفليقة.

إجبار بوتفليقة على الاستقالة الفورية قبل أيام قليلة من إتمام عهدته الرابعة جاءت تحت ضغط كبير ومتزايد من قائد الأركان أحمد قايد صالح، ليختتم الجيش سلسلة مواجهات مع الفريق الرئاسي وأنصاره من كبار رجال الأعمال، توقفت حدتها على نبض الشارع الثائر واستمرار الحراك الجماهيري من عدمه.

لكن الحقيقة، أن جوهر الصراع الذي دار بين الفريقين (الجيش والرئاسة) على مدار الأسابيع الماضية، كان انتقاميا إلى حد كبير.

فالجيش الذي يوصف دوما بأنه صانع الرؤساء في الجزائر سعى إلى تأكيد أحقيته التاريخية، كما يرى، في حكم البلاد باعتباره سليل جيش التحرير من الاستعمار، انتقاما من الطرف الآخر الطامح إلى قدر أكبر مما رُسم له من السلطة والنفوذ، أو الخروج عن طوق سيطرة المؤسسة العسكرية.

المعركة كانت فرصة أتت على طبق من ذهب للجيش كي يسترد كرامته وهيبته، التي يستمدها من كونه المهيمن على مقاليد الأمور، لكن الواجهة المقبولة التي اعتمد الجيش عليها في معركته كانت الاستجابة لمطالب الشعب والحرب على الفساد المتمثل في فريق الرئاسة، ليؤكد أنه ليس فقط صانع الرؤساء على مدار تاريخ البلاد بعد التحرير، لكنه أيضا مزلزل عروشهم.

تصعيد متدرج

سار الجيش الجزائري على خطى ثابتة نحو تصعيد الأزمة القائمة بالبلاد، وارتفعت حدة بياناته الواحد تلو الآخر، منذ إعلان بوتفليقة عن خطته القائمة على 6 بنود، أبرزها تأجيل الانتخابات الرئاسية لمدة عام وسحب ترشحه وعقد ندوة (حوار) وطنية تصيغ دستورا جديدا، لتصل إلى ذروتها ببيان 30 مارس/آذار 2019 الذي خرج عقب اجتماع طارئ للقيادة العسكرية بمقر وزارة الدفاع.

وبحسب البيان، أعاد قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح، طرح اقتراح إعلان شغور منصب الرئيس تطبيقا للمادة 102 من الدستور، كحل للأزمة الراهنة في البلاد.

وقال صالح وفق البيان: إن "المؤسسة العسكرية لا تمانع في العودة إلى المادتين 7 و8 من الدستور، وتنصان على مبدأ الشعب مصدر كل سلطة، والسلطة التأسيسية ملك للشعب"، مشيرا إلى ثبات الجيش على مقترحه؛ لأنه "يندرج دوما ضمن إطار الشرعية الدستورية ويضع مصالح الشعب فوق كل اعتبار، ويعد الضمانة الوحيدة للحفاظ على وضع سياسي مستقر، بغية حماية البلاد من أي تطورات قد لا تحمد عقباها".

ورأى صالح أن "غالبية الشعب الجزائري قد رحب من خلال المسيرات السلمية، باقتراح الجيش، إلا أن بعض الأطراف ذات النوايا السيئة تعمل على إعداد مخطط يهدف إلى ضرب مصداقية الجيش، والالتفاف على المطالب المشروعة للشعب".

وكشف قايد عن "اجتماع عُقد من طرف أشخاص معروفين، سيتم الكشف عن هويتهم في الوقت المناسب، من أجل شن حملة إعلامية شرسة في مختلف وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي ضد الجيش، وإيهام الرأي العام بأن الشعب الجزائري يرفض تطبيق المادة 102 من الدستور".

وهدد الفريق صالح بأن "كل ما ينبثق عن هذه الاجتماعات المشبوهة من اقتراحات لا تتماشى مع الشرعية الدستورية أو تمس بالجيش الوطني الشعبي، الذي يعد خطا أحمر، هي غير مقبولة بتاتا وسيتصدى لها الجيش الوطني الشعبي بكل الطرق القانونية".

وفيما أعلنت أغلب القوى الموالية للنظام دعمها لمقترح الجيش، تراوحت مواقف المعارضة بين اشتراط رحيل جميع رموز النظام قبل تطبيق المادة 102، وأخرى دعت إلى رئاسة جماعية ومرحلة انتقالية بعد نهاية ولاية بوتفليقة في 28 أبريل/نيسان المقبل، في حين التزمت الرئاسة والمجلس الدستوري الصمت حول اقتراح الجيش، ولم يصدرا أي بيان أو تصريح حول المقترح.

ذوو النوايا السيئة

وعقب بيان الجيش، قال محسن بلعباس رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المعارض في تدوينة على "فيسبوك": "قائد الجيش كان يشير في تصريحاته لاجتماع بين سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس وقائد المخابرات السابق الفريق محمد مدين (الشهير بالجنرال توفيق).‎

وقال بلعباس إن "الفريق صالح بدأ يغضب، هناك لقاء عُقد في مدينة زرالدة وحضره قائد المخابرات السابق وشقيق الرئيس الذي يرفض الاستقالة"، مضيفا أن "خطورة الوضع تتطلب الشفافية من قايد صالح وليس التلميح".

من جانبها، نشرت فضائية "الشروق نيوز" الخاصة عقب تصريحات الفريق صالح عن مصادر وصفتها بالمطلعة أن "مخططا لاستهداف الجيش رتب له في اجتماع سري بين مسؤولين أمنيين وسياسيين سابقين، وكان الاجتماع برعاية فرنسية"، مفسرة ذلك بأن باريس منزعجة من الدور الإيجابي للجيش وانحيازه إلى الشعب.

ولفتت إلى "ظهور بوادر تحالف بين الزمرة الحاكمة ودوائر فرنسية لإطالة عمر الأزمة والالتفاف على مطالب الشعب".

تقارير إعلامية قالت إن اجتماع شقيق الرئيس الذي يعد الحاكم الفعلي للبلاد منذ إصابة بوتفليقة بجلطة دماغية عام 2003، ومدين صاحب النفوذ القوي بالمؤسسة الأمنية مهّد لعقد اجتماع ثان في بيت الرائد لخضر بورقعة، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية.

ضم الاجتماع 10 شخصيات تحت إشراف موفد عن سعيد بوتفليقة وآخر عن مدين، وشارك فيه الرئيس السابق اليمين زروال ورئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور، وعدد من النواب وممثلي المجتمع المدني وبحث الاجتماع إجراءات تتعلق بترتيب المرحلة الانتقالية، وهو ما أثار حفيظة قيادة أركان الجيش.

ونقلت تقارير عن مصادر أخرى أن زروال التقى بـ"وسطاء" في مسؤوليات عليا في الجيش وشخصيات مستقلة، تمهيدا للعب دور بارز في المرحلة الانتقالية، وتردد اسم الرجل كثيرا باعتباره الرئيس الذي فضل الاستقالة على أن ينهي ولايته الرئاسية (1995- 2000)، وأعلن انتخابات مبكرة في نهاية 1998، لكنه استمر رئيساً لسبعة أشهر أخرى من دون سند دستوري بعد استقالته، وأشرف على الانتخابات التي فاز بها بوتفليقة بالرئاسة.

شقيق الرئيس

لم يتوقف الأمر عند حدود البيانات التحذيرية أو التهديدية من قبل قيادة أركان الجيش، بل تحولت إلى خطوات فعلية على الأرض تبدو مجرد بداية لمحاصرة الدائرة الصغيرة المحيطة بشقيق الرئيس بوتفليقة، بعد أن تأكد الجيش أنه يرفض استقالة شقيقه، بينما أيقن هو أن المؤسسة العسكرية لا تحبذ أن يلعب دورا في المستقبل القريب، وتشدد على ضرورة رحيله بوصفه من أعمدة النظام البوتفليقي.

الخطوة التي أكدت ما قيل بشأن الصراع بين أجنحة السلطة على التركة الرئاسية اشتد وخرج إلى العلن بصورة فجة، كانت في توقيف الشرطة الجزائرية، رجل الأعمال المقرب من شقيق بوتفليقة علي حداد على الحدود الجزائرية التونسية.

ووفق مصادر مطلعة، فإن هذه الواقعة تؤكد صدور قرار بمنع عشرات من رجال الأعمال والشخصيات النافذة من مغادرة البلاد، وفق لائحة "أمنية" وُزعت على عدد من المصالح عبر المطارات، الموانئ، والمعابر الحدودية البرية.

هذه الشخصيات (كبار رجال الأعمال) تعد أحد ركائز السلطة في البلاد بجانب جنرالات الجيش والمؤسسة الأمنية وطبقة النخبة السياسية، وجاء قرار منع حداد من مغادرة البلاد، وفق المصادر، بعد تلويح قيادة الجيش بمتابعة من سمتهم "جهات تعمل على ضرب مصداقية الجيش عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي".

وكشف مصادر أن حداد، جمع التجهيزات "السمعية البصرية" التي سلمها لإدارة حملة الرئيس بوتفليقة، قبل إلغاء الانتخابات، بعدها كلّف فريقا بإعداد ومضات إشهارية (مواد مصورة مسيئة) تمس عددا كبيرا من الشخصيات من ضمنهم مسؤولون عسكريون، بتقنيات عالية لبثها لاحقا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

استجابة للحراك

كثيرون رأوا أن إشارة بيان هيئة الأركان إلى المادتين 7 و8 من الدستور مؤشر على تأييد الجيش لمطالب الحراك الشعبي بخصوص تشكيل "مجلس تأسيسي" لسن دستور جديد، وأن الجيش رفع سقف التجاوب مع الشارع عاليا، ومعنى ذلك أن قايد صالح يقترح شغور منصب بوتفليقة ثم الانتقال لمرحلة رحيل جميع رموز نظامه عبر هاتين المادتين.

مروجو تلك النظرية، يقولون إن المؤسسة العسكرية ترفض تماما الخروج عن نص الدستور، في سياق الحلول المقترحة للخروج من الأزمة، بمقابل تفعيل جميع المواد الدستورية التي تتيح التخلص من رموز النظام والمؤسسات التي ترتبط به، أي أن صالح يعترض على استخلاف بوتفليقة برئيس مجلس الأمة، ويريد الانتقال الى قرارات سياسية واسعة يكون الجيش إما طرفا مباشرا فيها أو ضامنا لعملية انتقال السلطة.

بيان هيئة الأركان أشار أيضا إلى مادة أخرى من الدستور هي المادة 28، التي تحدد الصلاحيات والمهام المخولة للجيش دستوريا، ربما لقطع الطريق أمام الاتهامات التي باتت تلاحق قيادة الجيش بالسعي للاستيلاء على السلطة.

وأضاف البيان أن تفعيل مادة شغور منصب الرئيس تتماشى مع "المهام الدستورية للجيش الوطني الشعبي، بصفته الضامن والحافظ للاستقلال الوطني، والساهر على الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وحماية الشعب من كل مكروه ومن أي خطر محدق، وفقا للمادة 28 من الدستور".

الانقلاب الناعم

على الجهة المقابلة رجح كثيرون أن الجيش الجزائري يلتف على مطالب الشارع الثائر، ويسعى من خلال اقتراحه استخدام المواد الدستورية المذكورة إلى تشديد قبضته على السلطة وربما الاستيلاء عليها، باسطة ما يعرف بالانقلاب الناعم، ويروج له تحت مزاعم الاستجابة لمطالب الشعب.

تمسك قيادة الأركان بالدستور في إعلان شغور منصب رئيس الجمهورية، ليس إرساء لمبدأ سيادة الدستور كما يرى هؤلاء، بل تأكيدا على مطامع المؤسسة العسكرية فيما تراه حقا أصيلا لها بحكم البلاد، وفي سبيل ذلك دشن الجيش في بيانه الأخير معركة قد يحمى وطيسها خلال الأيام المقبلة للقضاء على الرافضين لإقصاء بوتفليقة على هذا النحو والإطاحة برموز نظامه.

وإن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لوح البيان الأخير إلى المادتين 7 و8، رغم أنه كان يمكن الاكتفاء بالمادة 102 التي ترسم طريقا واضحا لانتقال السلطة إلى قيادة منتخبة وفق الدستور؟، وعليه فإن تكرار مسألة مطالب المتظاهرين والإرادة الشعبية لم تكن سوى حجة وواجهة للتغطية على مخطط الاستيلاء على السلطة، بشكل مباشر عبر إدارة الفترة الانتقالية أو من خلال هيئة جامعة يتدخل الجيش في تشكيلها ويسيطر عليها لإدارة مرحلة انتقالية ربما تطول لمدة لا يعلمها أحد.

وإذا كانت محاصرة الجيش سعيد بوتفليقة والدائرة المحيطة به تكشف عزم قيادة الجيش على استئصال كل من يمت للرئيس وعهده ونظامه بصلة، أليس قائد الأركان قايد صالح نفسه صديقا شخصيا للرئيس على مدار عقود، ألا يمنحه ذلك انتماء لعهده، وبالتالي تشمله مطالب الإقصاء عن المشهد برمته؟

اتهامات الجيش بمحاولة الاستيلاء على السلطة لم تكن وليدة التحليلات والآراء السياسية فقط، بل تمتد إلى أحزاب وقوى معارضة ذات ثقل جماهيري ومشاركة بقوة في الحراك الحالي.

"جبهة القوى الاشتراكية" قالت إن اقتراح رئيس أركان الجيش الوطني "تجاوز لصلاحياته الدستورية ودليل عدم انسحاب الجيش من العملية السياسية"، مشيرة إلى أن "الجيش يهدف إلى خنق الحركة الشعبية، والسماح للنظام بأن يصبح دائما".

واعتبرت "حركة مجتمع السلم" أن الاكتفاء بالمادة 102 لا يتيح تحقيق الإصلاحات بعد الشروع في تطبيقها ولا يسمح بتحقيق الانتقال الديمقراطي والانتخابات الحرة والنزيهة، مشددة على ضرورة "اكتفاء المؤسسة العسكرية بمرافقة الوصول إلى الحل السياسي والتوافق الوطني والمحافظة على مدنية الدولة".

"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" اتهم الجيش صراحة بـ"محاولة الانقلاب ضد الإرادة الشعبية"، مشيرا في بيان له إلى الفريق قايد صالح بالقول: "هذا الشخص هو جزء من مآسينا ولا يمكن له أن يكون الحل".

دولة داخل دولة

وكطبيعة الأنظمة العربية الحاكمة في فترات ما بعد الاستقلال عن الاستعمار، يعد الجيش في الجزائر رقما صعبا ويحظى بمكانة فريدة في النظام السياسي الجزائري، يفوق ما يتمتع به نظراؤه في الدول المجاورة.

بحكم الواقع فقد تأسس الجيش الجزائري قبل تأسيس الجمهورية في أعقاب الاستقلال عام 1962، حيث قاد "جيش التحرير" إحدى أول حروب العصابات المعروفة ضد فرنسا المستعمرة، وهو ما منح الجيش مصدرا رئيسيا للشرعية السياسية.

قام الجيش بتشكيل العلاقات المدنية العسكرية في البلاد بشكل مبكر مع قناعة راسخة لدى الجنرالات الجزائريين بدورهم التاريخي في حماية الأمة، ورفضهم التخلي عن أدوارهم السياسية لصالح مسؤولين مدنيين منتخبين.

تلك القناعة حركت جنرالات الجزائر إلى تنفيذ أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية بعد 3 أعوام فقط من استقلالها، حين قام وزير الدفاع "هواري بومدين" بالإطاحة بالرئيس "أحمد بن بيلا" إثر نزاع شديد حول طبيعة السلطة، حيث كان "بن بيلا" يرغب في إحداث فصل نسبي بين الجيش وبين الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني"، الأمر الذي قرأه الجنرالات على أنه محاولة مبكرة للاستئثار بالسلطة والتنكر للدور "التاريخي" للجيش في حرب الاستقلال.

حزب الجيش

ومع استيلاء "بومدين" على السلطة عام 1965، فإنه منح الحزب دورا سياسيا محوريا في البلاد، حيث كان من المقرر أن يقود الرجل الجزائر نحو ثورة اشتراكية أسوة بالأحزاب الأيديولوجية التي قادت الأنظمة الشيوعية حول العالم خلال هذه الحقبة.

الحقيقة أن حزب التحرير الوطني لم ينجح في أي وقت في تطوير أي مكون أيديولوجي مستقل، وظل مرتبطا بشكل قوي بالمؤسسة العسكرية لدرجة أن الحزب لم يعقد أي مؤتمرات خلال الفترة بين عامي 1965 حتى عام 1979، حين عقد مؤتمرا لتعيين خليفة لـ "بومدين" بعد وفاته.

"الشاذلي بن جديد" الذي خلف "بومدين"، كان قد تم انتخابه في وقت سابق في اجتماع خاص مكون من كبار القادة العسكريين بقيادة رئيس المخابرات آنذاك "قاصدي مرباح"، وبدعم من الجنرال التاريخي وصانع الرؤساء الجزائريين "العربي بلخير".

على مدار فترة حكم "الشاذلي بن جديد" والتي استمرت 12 عاما تقريبا، واصل الجيش ممارسة نفوذه المعتاد على السياسة الجزائرية، ورسّخ المزيد من امتيازاته الاقتصادية التي تزامنت مع تردٍّ في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للجزائريين.

ومع نهاية حكم بن جديد اشتعلت موجة من الضغوط الشعبية والاحتجاجات العنيفة التي استهدفت مؤسسات الدولة ومكاتب حزب جبهة التحرير، واجهها الجيش بالقوة، لكنها اضطرت النظام في نهاية المطاف لتقديم تنازلات وإدخال قدر من الانفتاح وطرح نظام تعددي لأول مرة سمح بقدر من التنافس السياسي.

زلزال 1990

ورغم تأسيس عشرات الأحزاب والتحالفات، ظلت القواعد الحاكمة للسياسة الجزائرية ثابتة تقريبا حتى مطلع التسعينيات، حين حققت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" فوزا غير مسبوق في الانتخابات المحلية عام 1990، ولاحقا في الانتخابات البرلمانية عام 1991، وكان ذلك يعني أن حزب جبهة التحرير الوطني ومن ورائه الجنرالات في طريقهم لفقدان السلطة.

هذا التهديد دفع الجيش للتدخل بشكل صارخ مجددا، حيث قام بإلغاء نتائج الانتخابات وضغط على الرئيس "الشاذلي" لتقديم استقالته، وتأسيس ما يعرف بالمجلس الأعلى للدولة الذي قاده الجنرالات بأنفسهم.

الجيش أعلن بعدها حالة الطوارئ وحل "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وأودع الآلاف من أنصارها في معتقلات أُقيمت في الصحراء الجزائرية، في حين هرب آخرون إلى الجبال ليبدأ الجيش في ملاحقتهم، وهو الحدث الذي دشن الحرب الأهلية الجزائرية الشهيرة المعروفة بـ "العشرية السوداء".

خلال هذه السنوات العشر الممتدة منذ مطلع التسعينيات إلى بداية الألفية الثانية، قُتل قرابة 200 ألف جزائري على يد جنود الجيش والجماعات المسلحة في حرب شنها الجيش لإخضاع الجزائريين، حيث تكشفت تفاصيلها المروعة لاحقا.

تجديد الشرعية

في هذه المرحلة تم تداول السلطة ظاهريا بين عدة رؤساء، على رأسهم "محمد بو ضياف" الذي تم اغتياله في ظروف غامضة، و"علي كافي" أيضا، بينما ظل الجيش يحكم ويقود الحرب في الخلفية إلى حين انتخاب جنرال جديد هو "اليمين زورال" للرئاسة عام 1994، لكنه توارى مبكرا بسبب خلاف نشب بينه وبين الجيش حول التفاوض مع المعارضين وإنهاء الحرب الأهلية.

ظل الجيش يقود السياسة والحرب في الداخل معا، لكن المفارقة هنا أن الجنرالات الذين دشنوا المرحلة الدموية في المقام الأول هم من استفادوا منها عبر تجديد شرعيتهم، وإعادة تقديم أنفسهم هذه المرة ليسوا كرموز للاستقلال ولكن كقادة لحرب شنوها باعتبارها ضد "إرهاب وعنف الإسلاميين" كما روجوا لها.

هذا التطور التاريخي تسبب في نهاية المطاف في تثبيت وضع الجيش كمكون رئيس في الحياة السياسية الجزائرية، وفي الوقت نفسه رسخ الإجماع التاريخي لدى قادة الجيش بوصفهم وصيا دائما على القيادات المدنية، وأخيرا زرع بذور التوتر بين السلطة العسكرية علمانية الطابع وبين الأحزاب والجماعات "الإسلامية".

وبحلول نهاية التسعينيات كانت قواعد السلطة التقليدية في الجزائر قد تم استعادتها، وصار المشهد معبدا لإنهاء الحرب واستقبال رئيس جديد من قدامى الجنرالات ممثلا في عبد العزيز بوتفليقة، وتراجع الجيش لممارسة السلطة من خلف الكواليس.

الكلمة العليا

ورغم ما قيل وما يمكن أن يقال عن محورية دور الجيش الجزائري في الأزمة الراهنة وقدرته على حسم الأمور، إلا أنه لا يمكن تجاهل رقم مهم في المعادلة وهو الشارع الجزائري الثائر على مدار 6 أسابيع متواصلة.

تنحية بوتفليقة استمرت من المطالب الرئيسية للحراك الجزائري، إلا أن المحتجين تحفظوا على اللجوء الى تفعيل المادة 102 من الدستور لإقرار شغور منصب الرئيس؛ لأن ذلك معناه إجراء انتخابات رئاسية خلال 3 أشهر، أي في ظل الدستور وقانون الانتخاب الحاليين، وهو ما يعارضه الحراك الشعبي، مطالبا البدء بانتخاب "مجلس تأسيسي" لصياغة دستور جديد، لتجري بعد ذلك انتخابات رئاسية شفافة وتعددية.

وكما كانت الكلمة العليا دوما للشعب، فإن اشتداد الأزمة واستمرارها يجعل المسؤولية عليه أصعب ويضيق الخيارات التي يمكنه من خلالها الحفاظ على الزخم الثوري وتحقيق أهدافه، ليصبح اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الاستمرار ورفض استيلاء الجيش على السلطة مهما كانت الحجج والمبررات، أو الانخداع بما يروج وتكرار نموذج المأساة المصرية عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.