الحدث في القدس والرد في سلفيت

12

طباعة

مشاركة

اعتدنا منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين أن تكون القدس منطلقا لكثير من التحركات الشعبية المقاوِمة للاحتلال، فمنذ انتفاصة موسم النبي موسى عام 1921، التي كانت أول انتفاضة شعبية انطلقت بالفعل من القدس خلال موسم النبي موسى في وجه الانتداب البريطاني، حتى انتفاضة الأقصى التي انطلقت من قلب المسجد الأقصى المبارك عام 2000.

يمكن لأي مراقب أن يلحظ أن القدس كانت على الدوام شرارة خطيرة لأي اضطرابات كبرى في فلسطين، وغالبا ما كانت هذه الاضطرابات والثورات والانتفاضات المتتالية تنطلق من القدس لتتحرك في مختلف المناطق حولها وتنتشر إلى أن تصل لكافة المدن والقرى الفلسطينية.

منذ عامين، وفي ذروة أحداث هبة باب الأسباط، قتل الاحتلال الصهيوني في يوم جمعة واحد ثلاثة شهداء في القدس خلال مواجهات عنيفة مع المواطنين المقدسيين الذين كانوا يصرون في ذلك الوقت على انتزاع البوابات الإلكترونية التي وضعتها قوات الاحتلال أمام بوابات المسجد الأقصى المبارك، وإعادة فتح كافة بوابات المسجد.

كاد الأمر يمر في تلك الليلة بشكل شبه طبيعي أمام حكومة الاحتلال التي ظنت يومها أن تصعيدها درجة المواجهة مع المقدسيين إلى درجة القتل يمكن أن تقمع الناس وترعبهم من سلطة الاحتلال وسيادته التي يحاول إنشاءها في المسجد الأقصى منذ خمسين عاما!

لكن ما لم يكن يتوقعه الاحتلال يومها كان أن يأتي الرد في منطقة أخرى لم يحسب لها حسابا، حيث هاجم شاب فلسطيني مستوطنة "حلاميش" شديدة التحصين في الضفة الغربية، وقتل ثلاثة مستوطنين في نفس الليلة وقبل حتى أن يُدفَنَ شهداء القدس الثلاثة. هذا الأمر أدى إلى إعادة مراجعة القيادة الأمنية الإسرائيلية حساباتها بالكامل.

وبدأت منذ تلك اللحظة تتراجع في وجه المد الشعبي، لأنها قرأت المشهد بشكل صحيح في تلك اللحظة، وعرفت أن الرد ما دام قد جاء في الضفة الغربية فإنه قد يؤدي إلى إشعال فتيل انتفاضة شعبية عاتية تشبه – بل ربما تزيد على – انتفاضة الأقصى التي غيرت شكل الضفة الغربية والقدس.

منذ بداية الأزمة الحالية التي افتعلتها سلطات الاحتلال في السابع عشر من شهر فبراير الماضي، ومع انطلاق هبة باب الرحمة في القدس، تحاول قوات الاحتلال يومياً عدم فتح المجال للمقدسيين والفلسطينيين للتقدم أكثر.

بل لعلها تحاول استغلال لحظة الهدوء التي تحدث من حينٍ لآخر في القدس لتحاول التقدم خطوة لحفظ هيبتها وصورتها أمام المقدسيين الذين كسروا عقدة الشرطة الصهيونية وهيبتها في نفوسهم. ومن الواضح في هذا المعرض أن قوات الاحتلال باتت تخشى من تقدم الفلسطينيين أكثر – بدلا من الثبات أو التراجع – بدليل سرعة تحركها يوم الثلاثاء 12/3/2019، لإزالة آثار إحراق نقطة الشرطة الإسرائيلية التي تحتل خلوتي (جان بولاط) و(قيطاس) في المسجد الأقصى المبارك.

وكانت السرعة الشديدة في عمل شرطة الاحتلال لإعادة المكان إلى ما كان عليه في ما يبدو رداً على دعواتٍ انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام تتكلم عن ضرورة إعادة هاتين الخلوتين إلى دائرة الأوقاف الإسلامية على ما كان عليه الأصل قبل الاحتلال الإسرائيلي للمسجد عام 1967.

هذا الفزع الإسرائيلي من تقدم المقدسيين نحو مطالبة جديدة وسيطرة جديدة على الخلوتين جعلها تتقدم فورا لإصلاح آثار الحريق وإعادة المكان إلى ما كان عليه، ونذكر هنا أن هذه النقطة الإسرائيلية تم إغلاقها أكثر من مرة سابقاً، وتم تدميرها أكثر من مرة على يد المقدسيين الغاضبين خلال أحداث انتفاضة الأقصى وما بعدها، ولم يسبق أن سارعت سلطات الاحتلال إلى إصلاح آثار التدمير وإعادة استخدامها بتلك السرعة سابقاً!

وهو ما يعكس فزعا صهيونيا وشعورا بأن المقدسيين باتوا يتقدمون في الميدان مقابل التراجع الإسرائيلي، ولذلك نرى الاحتلال اليوم يراوغ ويتقدم خطوة ويتراجع خطوتين، وآخر خطوة كانت يوم الأحد 17/3/2019، عندما أصدرت إحدى المحاكم الإسرائيلية قرارا– لا وزن له في الحقيقة سياسياً ولا قانونيا ولا دوليا ولا شعبيا– بإغلاق مصلى باب الرحمة 60 يوما، وهو ما لم يحدث في الحقيقة، ولا أظنه يحدث إلا لو غاب العقل تماماً عن ساسة دولة الاحتلال.

ما لم يحسب الاحتلال حسابه هذه الأيام هو أن تعود الأمور إلى سابق عهدها في رد الفعل الفلسطيني كما كان الأمر في هبة باب الأسباط، ردا على قرار المحكمة الإسرائيلية وكافة الإجراءات الصهيونية في مصلى باب الرحمة من اعتقال حراس المسجد الأقصى وإبعادهم وإعلان نيتها إغلاق المصلى مرة أخرى وتصريحات وزير الأمن الداخلي "جلعاد أردان" غير مرة رفض إسرائيل اعتبار باب الرحمة مصلى للمسلمين.

ما لم يحسب الاحتلال حسابه هو أن يكون الرد في سلفيت، إذ أقدم مواطن فلسطيني على تنفيذ هجوم بسكين ضد جندي إسرائيلي، ثم استولى على سلاحه وهاجم به مستوطنا– تقول الأنباء إنه أحد منظري ومؤيدي حركة "تدفيع الثمن" الصهيونية المتطرفة المتورطة في أعمال إرهاب ضد الفلسطينيين – وجرح عدد من المستوطنين قرب مستوطنة أرئيل الكبرى في منطقة سلفيت في الضفة الغربية.

لمن لا يعلم، مستوطنة أرئيل تعتبر واحدة من أهم وأكبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهذه المستوطنة تعد في قوانين دولة الاحتلال مدينةً لا مجرد مستوطنة، ولذلك فإن هذا الهجوم يكتسب أهميةً خاصة كونه يأتي في نفس الوقت الذي يحاول الاحتلال فيه السيطرة على باب الرحمة في المسجد الأقصى المبارك وتأكيد سيادته على المكان المقدس، وكونه يأتي في نفس يوم تدخل المحكمة الإسرائيلية لتحاول – مرة أخرى – جر المقدسيين إلى مربع السيادة الإسرائيلية في المكان عبر لعبة القضاء.

كما جاء بعد أسبوع من استعراض الشرطي "متان ليفي" نفسه داخل مصلى باب الرحمة بالحذاء واستهزائه واستفزازه للمسلمين هناك، وفيديو المتطرف الذي يسمي نفسه "أبرهام بلوخ" الذي صور فيه نفسه يقتحم منطقة باب الرحمة في غياب المسلمين واستهزائه بالمسلمين هنا، وبعد أقل من أسبوع على إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي المسجد الأقصى المبارك ومنع أذانَي المغرب والعشاء في المسجد، ولذلك فإن إهمال كون هذا الهجوم ردا مباشرا على هذه الأحداث في القدس يعتبر ضربا من العبث وخداع النفس!

على القيادة الأمنية الإسرائيلية قراءة الرسالة التي يرسلها هذا الهجوم جيدا، فالتوقيت والكيفية كلها تصب في خانةٍ واحدةٍ لا يمكن معها صم الأذنين عن تلاعب المتطرفين وجماعات المعبد المتطرفة ومؤيديهم – وعلى رأسهم الوزير المتطرف جلعاد أردان – بالنار في المنطقة الأكثر حساسيةً في العالم لأهداف انتخابية بحتة!

ولو كان لهذه الفيادة عقل وحكمة فإن عليها أن تفهم أن قضية المسجد الأقصى المبارك لا تخص سكان مدينة القدس وحدهم، وإنما يعتبرها كل شخص داخل فلسطين (بل وخارجها في العالم الإسلامي كله) قضيةً شخصيةً لا عبثا.

وعلى القيادة السياسية الإسرائيلية الفهم، أن معركتها الديمغرافية والسياسية والشعبية في القدس خاسرة بكافة المقاييس، فقد فات الأوان للاستدراك الآن، وما كان يمكنها تنفيذه عام 67 و 69 دون ثمن لم يعد بالإمكان تنفيذه الآن دون ثمن مرتفع جداً لا يمكن لدولة الاحتلال أن تحتمله، فهل لديهم عقلاء يفهمون هذه المعادلة؟!