بعد سنوات من مقتله في مصر.. لماذا يستحيل كشف لغز قضية "ريجيني"؟
مارست الأجهزة الإيطالية الضغط لسنوات على مصر دون تقدم يذكر
لا تزال قضية الطالب والباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، تثير الجدل في روما لا سيما في ظل تمسكها بكشف الحقيقة في مقابل اتهامات للسلطات المصرية بعدم التعاون وعرقلة التحقيق.
والإيطالي ريجيني (28 عاما) هو طالب دراسات عليا في جامعة كامبريدج، وكان يجري بحثا في القاهرة لنيل درجة الدكتوراه، ثم اختفى لتسعة أيام، وبعدها عثر على جثته وعليها آثار تعذيب في 3 فبراير/ شباط 2016.
غموض وتحفظ
وفي إعادة إثارته للقضية، يرى موقع إيطالي أن الشهادات التي قدمتها أجهزة الأمن الإيطالية تعد "أساسية في رسم صورة الصعوبات والعقبات التي واجهتها أثناء التحقيقات وفي توضيح تورطها المباشر أو غير المباشر في هذه القضية".
وذكر موقع "إنسايد أوفر" أن الأجهزة الإيطالية، ولا سيما وكالة المعلومات والأمن الخارجية، أسهمت في مراحل مختلفة من التحقيق سواء من خلال الاتصالات مع السلطات المصرية أو عبر التحقيقات الداخلية.
وكان ألبرتو مانينتي، رئيس الوكالة المذكورة، وهي جهاز الاستخبارات الخارجية الإيطالية، أكد بأنه جرى إخطاره على الفور باكتشاف جثة ريجيني مرمية على جانب طريق القاهرة/الإسكندرية الصحراوي وعليها آثار تعذيب.
وذكر مانينتي أن السلطات المصرية أبلغت المسؤول عن المخابرات الإيطالية في القاهرة بمجرد العثور على جثة الباحث.
وأكد أن الاتصالات ظلت جارية مع الجانب المصري منذ الأيام الأولى لاختفائه "لكن المعلومات التي قدمها المصريون كانت غامضة ومتحفظة"، يعلق الموقع الإيطالي.
وبحسب ما جاء في شهادة مانينتي، لم يقدم رئيس جهاز المخابرات العامة وقتها (خالد فوزي)، في البداية تفاصيل واضحة عن أسباب وفاة الباحث الإيطالي.
وعندما طُلب منه تقديم معلومات أولية، تحدث عن "أسباب طبيعية" على الرغم أن الجثة ظهرت عليها آثار تعذيب واضحة وهو ما أثار شكوك الإيطاليين.
كما نفى رئيس جهاز المعلومات والأمن الخارجي في روما أي صلة لريجيني بأجهزة المخابرات الإيطالية، مؤكدا أنه لم يكن يعمل كعميل أو متعاون في مهام استخباراتية.
وجاء ذلك ردًا على تلميحات مصرية تشير إلى أنه قد يكون جاسوسا، فيما أكد الإيطاليون أن ذهابه إلى مصر كان بغرض جمع معلومات تتعلق ببحثه لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية.
عرقلة شديدة
وعلى مدى السنوات التي أعقبت وفاة ريجيني، واصلت الأجهزة الإيطالية ممارسة الضغط من خلال القنوات الدبلوماسية والأمنية للحصول على معلومات أكثر دقة من السلطات المصرية.
واستنكر الموقع ما وصفه بمناخ العرقلة الشديدة من جانب السلطات المصرية وهو ما سلطت شهادة مانينتي الضوء عليه خصوصا أن القاهرة لم تتعاون بالشكل الكافي وتعمدت تعقيد التحقيق بشكل كبير.
ومن جانبها، أعربت الأجهزة الأمنية الغربية عن مخاوفها بشأن تورط قوات الأمن المصرية في مقتل الباحث الايطالي، إلا أن الجهود الدبلوماسية والاستخباراتية لم تسهم في الوصول إلى الحقيقة.
وفي 25 مايو/ أيار 2021، طالب مكتب المدعي العام في روما بمحاكمة 4 مسؤولين مصريين رفيعي المستوى بدعوى تورطهم في مقتل طالب الدكتوراه.
وفي 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، بدأت محكمة إيطالية بالمحاكمة الغيابية لكل من الرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني اللواء طارق صابر، ورئيس مباحث مرافق القاهرة السابق العقيد آسر كمال، وعقيد الشرطة هشام حلمي، والرائد شريف مجدي، من المخابرات العامة المصرية.
وعلقت المحكمة، مجريات المحاكمة مرجعة ذلك إلى "خوفها من احتمالية عدم معرفة المشتبه بهم بأنهم متهمون، ما يجعل الإجراءات باطلة".
لكن المحكمة الدستورية أبطلت في سبتمبر قرار تعليق المحاكمة، مما مهد الطريق أمام محاكمة جديدة بدأت في فبراير 2024.
ويواجه الضباط الأربعة اتهامات بالخطف، فيما وُجهت إلى شريف مجدي تهمة التسبب بالجروح القاتلة. وكما في 2021، لن يحضر المتهمون المحاكمة.
ومنذ المحاكمة الأولى، لم تجد إيطاليا أي أثر للمتهمين على الإطلاق، ولهذا السبب وحتى في حال الإدانة فلن يمضوا عقوباتهم.
ومبكرا برأ مكتب المدعي العام المصري منذ ديسمبر/كانون الأول 2020، ضباط الشرطة الأربعة عند البدء بتداول أسمائهم، ولم يتخذ أي إجراء قانوني في هذه القضية، "لعدم وجود شبهة بتورّطهم فيها".
حجب الحقيقة
وكان ممثلو أجهزة الأمن الإيطالية قد اشتكوا من صعوبة إجراء تحقيقات متعمقة في مصر وذلك خلال محاكمة الضباط المصريين الأربعة المتهمين بالتورط في اختطاف وتعذيب جوليو ريجيني.
وكذلك حال عدم التعاون الرسمي وغموض الردود المصرية دون الحصول على أدلة حاسمة في المراحل الأولى من التحقيق، يضيف الموقع.
وتظهر الشهادات التي قدمتها أجهزة الأمن الإيطالية أهمية دورها في الحصول على معلومات مهمة وتكشف أيضا الصعوبات الكبيرة التي تواجهها في علاقتها مع السلطات المصرية.
ويستنتج الموقع الإيطالي بأن هذه القضية تظل “رمزا للتعقيد الجيوسياسي والحاجة إلى العدالة الدولية”.
فعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الأجهزة الأمنية والدبلوماسية الإيطالية، تجنبت السلطات المصرية مرارا وتكرارا "التعاون الشفاف".
وأضاف الموقع أن ذلك "خلف العديد من الأسئلة المفتوحة حول ما حدث بالفعل للباحث الإيطالي ومن المسؤول الحقيقي عن وفاته".
واتهم السلطات المصرية بحجب الحقيقة ورفضها عمليا أي تعاون شفاف مع إيطاليا والمجتمع الدولي.
وتابع بأن “هذا السلوك أثار مخاوف من احتمال تستر السلطات المصرية على المسؤولين عن مقتل الطالب”.
كما أثار شكوكا في إمكانية أن تكون للقتلة، صلة بأجهزة المخابرات المصرية، مثل المخابرات العامة.
وفي الأشهر والسنوات التي أعقبت وفاة ريجيني، حاولت الحكومة الإيطالية في عدة مناسبات الوصول إلى الحقيقة.
إلا أن السلطات في القاهرة قدمت باستمرار روايات متضاربة وأقل مصداقية وغالبا ما تنسب مسؤولية مقتله إلى مجرمين أو تلمح إلى أنه كان جاسوسا.
علاقات البلدين
سياسيا، أدت القضية إلى أزمة في العلاقات بين إيطاليا ومصر. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة الإيطالية لممارسة الضغط عبر القنوات الدبلوماسية، لم يجر إحراز تقدم كبير يذكر.
وسحبت إيطاليا سفيرها مؤقتا من القاهرة عام 2016 وأعادته بعد أشهر وهو ما جعلها في مرمى انتقادات واسعة خصوصا أنها أعادت العلاقات الدبلوماسية دون إحراز أي تقدم ملموس في التحقيق.
وبحسب عدة مصادر، يعود ذلك الى الموقف الدقيق الذي انتهت إليه بسبب مصالحها الاقتصادية في مصر خاصة في قطاع الطاقة.
وتعد شركة إيني الإيطالية أحد اللاعبين الرئيسين في تطوير حقول الغاز المصرية.
وقد دفعت الخشية من تأثر هذه العلاقات روما إلى تجنب القطيعة الدبلوماسية مع القاهرة على الرغم من السخط الشعبي على وفاة ريجيني.
وقد أثار تأكيد التحقيقات الإيطالية أن الباحث لم يكن عميلا للمخابرات المزيد من التساؤلات حول سبب قرار السلطات المصرية إيقافه وتعذيبه حتى الموت، وفقا للاتهامات.
وبحسب الموقع الإيطالي، "هذا الأسلوب المتمثل في الاعتقال غير الرسمي للمشتبه بهم وتعذيبهم، يعكس ممارسات المخابرات المصرية الشائعة المستخدمة في قمع المعارضة الداخلية".
وأشار إلى أن "الحكومة المصرية كثفت في السنوات الأخيرة إجراءاتها القمعية ضد المعارضين السياسيين والناشطين والصحفيين، وربما كان ريجيني ضحية لهذا السياق القمعي، بعد أن اشتُبه فيه خطأً بأنه يشكل تهديدًا لأمن النظام".
وإلى اليوم، لا تزال القضية تثير الجدل في العلاقات الدبلوماسية بين إيطاليا ومصر، فيما تشير الصعوبات والعراقيل التي واجهها المحققون الإيطاليون إلى أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب الكشف عنه حول ما حدث بالفعل للطالب الإيطالي.
وخلص الموقع إلى أن “الإطار السياسي العام يجعل تحقيق العدالة في هذه القضية أكثر تعقيدا خاصة وأن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية تطغى على المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان وكشف الحقيقة".